كتاب عربي 21

دولة التناقض تهدم ذاتها؟!

1300x600
التناقض هو التهادم، والمتناقض هو كل شيء يهدم بعضه بعضا، لا يحتاج إلى فعل هادم له من خارجه، وهذا ينطبق بكل وضوح على دولة الانقلاب ومنظومته في مصرنا، فتناقضاتها ماثلة للعيان من أول يوم من أيامها المشؤومة، وهي تمتد من جذورها إلى فروعها، وتتوالى وتتراكم كل حين حتى يعتادها الناس، ويصبح التناقض هو منطق حياة المصريين.

لقطة الانقلاب الأولى حملت تناقضات كثيرة بادية للعيان، أرادوا أن يظهروها تكاملا وما كانت إلا تآمرا ما لبث أن ظهرت حقائقه ومكائده وصراعاته: العسكري والمدني، القضائي والسياسي،  الديني والعلماني، السلفي والأزهري والقبطي،... حاول الانقلابيون أن يخفوا هذا التناقض العميق لكنهم سرعان ما انقلب بعضهم على بعض وطرد العسكري المدني وطارده بالاتهامات واللعنات والطعنات، وتحكم السياسي بالقضائي وتلاعب به حتى شوه صورته لأبعد مدى، واعتلى العلماني ظهر الظهير الديني الانقلابي وساقه إلى لون جديد من التدين المنقلب على ذاته.

سياسات المنقلب وخطاباته احتوت أكبر كم من التناقضات عبر التاريخ، فقد ادعى كل خير وقدم كل شر، ادعى أنه المنقذ المخلص وهو المُغرق المُهلك المُضيِّع، ادعى أنه جاء لمنع الحرب والاقتتال الأهلي ثم أراق من الدماء وامتهن الكرامة ما لم تعرفه مصر عبر تاريخها، زعم أنه انقلب على من أرادوا تقسيم الوطن لكي يحيله هو أشلاء من الكراهية والعداوة والبغضاء، جاء لتحقيق الأمن والاستقرار ومنذ رأينا طلعته لم تعرف مصر ولا المنطقة أي هدوء ولا قرار وافتقدت المنطقة الاستقرار، اشتعلت المنطقة نارا فوق نار، وأضحى هو وانقلابه أسوأ تهديد للأمن القومي المصري والعربي، أقسم حانثا مرارا وتكرارا أنه ما كان طامعا ولا متطلعا ثم فضح نفسه بجنون العظمة ومرض حب الرئاسة البغيض، وعد بأن مصر ستكون (قد الدنيا) ثم مضى بالوطن في سكة الاستخذاء والاستجداء مقابل (مسافة السكة)، وأهدر الكرامة والمكانة للمواطن والوطن. 

جاء يدعي أن قراراته ومساراته تقوم على الدراسة العلمية والحقائق الواقعية ثم رأينا أكبر مروج للمخدرات المضحكة وأشهر منتج لاختراعات الكفتة والموفرة وعربة الخضار والفلاتر وما لا يعد من النكات المضحكات المبكيات، وبعد أن وعد بالازدهار الاقتصادي (وبكرة تشوفوا مصر) نكل بالفقراء وبطش بأحلام العدالة والكرامة والإنسانية، والشعب الذي لم يجد من يحنو عليه بات لا يجد إلا من يدوس عليه، وكم ادعى لنفسه من شعبية جارفة تجلت بعد وقت قليل في تململ شعبي كبير وجغرافية غضب تتسع مساحاتها وتمتد حلقاتها كل يوم.

ادعى الانقلاب ومنظومته والمنقلب وسدنته، الحاكم بأمره والناقض لذاته، أنه قام على إثر ثورة شعبية أطاحت بمرسي والإخوان، وهلل لدستور الثورتين، والرئيس العسكري المتمدين، ثم لم يجد سبيلا إلا إعادة إنتاج نظام مبارك بكل سوءاته (فسادا واستبدادا) وأشنع، ولم نعرف من ثورتهم إلا استرجاعا لمنظومة الفساد والاستبداد والتبعية والتخلف والفشل، مع مزيد من القتل والقمع والاعتقال والتعذيب والإرهاب والاغتصاب، فحبس الثوار حتى منهم من سانده في انقلابه وفوضه في إرهابه وفظائعه، وحرر شياطين النظام المخلوع بكل بجاحة وغطرسة تحت غطاء من براءات مزعومة وشعارات عودوا إلى مقاعدكم لاستفزاز شباب ثورة مخذولة، الانقلاب يتقدم إلى الخلف، وهذه قمة التناقض والتي تؤكد أن من يضلل الله فلن تجد له سبيلا.

هاجم الانقلابيون التيار السياسي الإسلامي لأنه يصل الدين بالمجال العام والسياسي؛ ثم لم يكفوا هم عن توظيف الدين وبعض كهنته في تسويق استبدادهم وخوضهم في الدماء، ثم هاجموا التيار الديني برمته، ثم فتحوا الباب على مصراعيه للتهجم على الإسلام نفسه وأصوله، وهو الذي أعلن يوما أنه جاء لحفظ الهوية وتعزيز الأخلاق وتربية الشعب.

اتهم خصومه بالعمالة والخيانة واشتعل إعلامه الانقلابي بالإقصاء ودعوات الاستئصال والإبادة، وفبرك الروايات عن صلات مع أمريكا والغرب، بينما هو يتوسل إليهم بكل وسيلة ليعترفوا له بشرعية ويقر أمره الواقع ويتحدث وزير خارجتهم عن زواج دائم لا علاقة ليلة واحدة، ووصل به التناقض المتبجح أن يعلن إخلاصه للكيان الصهيوني المغتصب وتعهده بحمايته ويرمي بالإرهاب المقاومة الفلسطينية شرف الأمة وعزها.

لم يقتصر التناقض واسع الأرجاء على الانقلابي الأكبر، بل طال كل منظومته: فالمتفلتون والراقصون ادعوا علم الدين وتعليمه وامتلاك الوسطية والمعرفة الدينية الحقة، واللصوص نهضوا يتهمون الشرفاء، والجهلة الأغبياء ادعوا أنهم خبراء استراتيجيون وعلماء، والرأسماليون الجشعون راحوا يتحدثون عن العدالة الاجتماعية ورعاية الكادحين. والطبالون والزمارون ادعوا الحكمة وفصل الخطاب واحتكار الصواب، والمنافقون المتلونون والمتحولون جعلوا من أنفسهم مصدرا للإعلام والإفهام. لم يكتفوا بالتلون  بين ما قبل الانقلاب وبعده، بل أصروا على التناقض كل يوم بعد انقلابهم وتكلموا بالشيء وضده، وفعلوا الشيء ونقيضه.

إن الذين ادعوا الوطنية زورا وبهتانا لا يعرفون اليوم لغيرهم في الوطن مكانا، والذين زعموا الثورة على الاستبداد والاستحواذ يرعون اليوم نبتا خبيثا للاستعباد والاستقواء يمارسونهما بكل صنوف القمع والبطش والغباء، والذين لفقوا مقولة (ديكتاتورية الأغلبية) تبجحوا بترديد أن بين مصر والديمقراطية ثلاثين سنة أو ستين، والذين تباكوا على مقتل اثنين وثلاثة أفراد هم من يزعقون يطالبون بقتل الآلاف بدم بارد، والذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها باسم المدنية اغتالوها ساعة انقلابهم حتى باتت تلعنهم وتلعن نفاقهم وانقلاب وتلون حالهم.

صرختم بأعلى صوت، أنكم تحمون الدولة وغيركم يهدمونها، والدولة في خطابكم صارت قدس الأقداس، ويخرج علينا أولاد الدولة والدولجية والدولتية كل حين يولولون.. الدولة!.. إنهم يريدون تفكيك الدولة!!.. لن نسمح بهدمها؟! صمت هؤلاء حينما استمعوا الى تسريبات تكشف عن صورتهم القميئة كالعصابة التي تسرق كل شيء، أو المتصرفين في غابة لا يقيمون للقانون وزنا ولا لقواعد العدالة ميزانا، أو الناهبين الذين يتملكهم معنى "العزبة" وأسلوب "الوسية"، أهذه الدولة التي تريدون؟! أهذه الدولة التي تحمون؟!، خاب عملكم وتهافت خطابكم، فإنها ليست بالدولة التى بها ننادى أو نريد .
أيها الانقلابيون.. 

تناقضاتكم لا تعد ولا تحصى، بل ما أنتم إلا تناقض كبير يتفاقم كل يوم بالجديد من التناقضات.. إن انقلابكم ينقض بعضه بعضا، ويأكل بعضه بعضا، ويمحو بعضه بعضا. أنت كمن نقضت غزلها من بعض قوة أنكاثا، ومن ينكث فإنما ينكث على نفسه، إنما بغيكم على أنفسكم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. ولتعلمن نبأه بعد حين.