كتاب عربي 21

قراءة في ظاهرة التطرف العنفي

1300x600
بروز ظواهر التطرف في البلاد العربية وبين العرب والمسلمين على مستوى عالمي لا سيما في السنوات الأربع الأخيرة أشغلت السياسيين والمفكرين والمؤرخين وعلماء الاجتماع والاقتصاد بحثاً عن أسبابها وسعياً لطرح برامج سياسية واجتماعية وتعليمية وثقافية واقتصادية لعلاجها وإغلاق الأبواب أمام نشوئها وتفشيها.

فهنالك من عزاها للفكر المتطرف في تاريخنا أو في تأويل النص الديني أو اجتزائه بنص هنا ورواية هناك، وركز كثيرون على الوهابية وما أسموه بالسلفية "البدوية". وبعضهم ذهب موغلاً ومبالغاً في التاريخ إلى ابن تيمية أو إلى الأزارقة الخوارج.

وثمة من ركز على مستوى التعليم المدرسي والديني والحزبي والذي يُخرّج الفرد المتعصب الذي يُخطّئ بإطلاق، أو يُكفّر، كل من لم يكن من اتجاهه. وقد أُبرِزَ بهذا الصدد اتجاه تكفير الدولة والمجتمع والتوجّه إلى العنف أو هجرة المجتمع واعتزاله.

وبالطبع ثمة من ركز على البيئات الاجتماعية الفقيرة المهمشة والمُجَّهلة أو الجاهلة. فالفروق الطبقية في المجتمع بوجهيها المدقع أو المسرف الباذخ الفاسد تشكّل أرضاً خصبة للتطرف وإن لم يكن في ذلك حجة لتسويغه. 

ثم نأتي لمن ركزوا على الاستبداد بكل ألوانه "السلطاني والشمولي". ولا سيما إلغاؤه للسياسة وتهميشه للمعارضة الوسطية مما يسمح للصراع أن يأخذ شكله دينياً فيصار إلى اللجوء إلى الدين والمذهب والطائفة. فاللوم هنا يقع على عاتق الاستبداد كما على عاتق المعارضة التي لم تستطع استيعاب المجتمع وقيادته. مما ولّد فراقاً فسح المجال واسعاً للقوى المتطرفة لتتقدم الصفوف. 

وأخيراً وليس آخراً فهنالك القوى الحاكمة، أو الخارجية، التي حاولت اللعب بالتناقضات واستخدام المتطرفين من خلال تغذيتهم بالمال وهو شرط لقوّتهم وانتشارهم ولا ننسى ما يُعزَى إلى نظرية المؤامرة وأدوار أجهزة المخابرات فيها. 

المشكل في كل هذه القراءات لظاهرة التطرف كونها لا تلحظ أن العوامل المذكورة كانت موجودة دائماً منذ عشرات أو مئات السنين. وكانت المجموعات والتيارات الفكرية المتطرفة موجودة دائماً كذلك، وسواء أكان فكراً أم مجموعة: جماعة/أو تنظيم، ومنذ عشرات السنين أيضاً، ولكنها كانت مهمّشة ومتناثرة. وبلا فاعلية. ولم تأخذ الدور الذي راحت تلعبه الآن. مما راح يثير الرعب في المجتمعات كما الأوساط السياسية والفكرية بمن فيها قوى واسعة ممن يُسّمون بالإسلام السياسي. 

فما يمكن أن يُقال مثلاً في مشكلة المدرسة والجامعة والتعليم كان موجوداً منذ زمن طويل، وما يُقال عن الاستبداد بأنواعه وأضف عامل الاستعمار وإقامة الكيان الصهيوني والجرائم والإهانات بحق الشعب والأمة، أو ما يُقال عن الفقر والتهميش والفروق الاجتماعية، كما الأسباب الأخرى كان موجوداً دائماً.

ومن ثم يُفتَرَض بقراءات الظاهرة أن تدرس المتغيّرات التي حدثت منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، والمقاومة الإسلامية في أفغانستان وفلسطين ولبنان وانهيار الاتحاد السوفياتي 1991 مع ما تلاه من تغيّرات في البلدان الاشتراكية الأخرى. وهو ما سمح ببروز صحوة إسلامية وأعاد المرجعية الإسلامية بقوة إلى العمل السياسي. 

وهنا كان من الطبيعي أن يُعاد إحياء التوجهات الإسلامية على اختلافها ولا سيما ما يمكن أن يوصف بالمعتدلة وما يمكن أن يوصف بالمقاوِمة والجهادية. وكذلك ما يمكن أن يتجه إلى التكفير والتطرف والعنف الداخلي. 

فما بين 1979 و2010 طغى على الساحة الإسلامية الإسلام الثوري المقاوِم والذي مثلته مدرسة الخميني، والإسلام الإخواني المعتدل والمقاومات الإسلامية في أفغانستان ولبنان وفلسطين والعراق.

 ثم برز إلى حد أقل اتجاه إسلام تنظيم القاعدة، مع انتشار واسع للفكر السلفي الذي رعته المؤسسات الدينية في السعودية والخليج. ولم يحمل معه ظاهرة العنف. هذا ولا يجب إغفال الإسلام الدعوي مثل التبليغ والدعوة، كما الصوفي، كما تجمعات راحت تنبثق أو تنشق من، أو عن القاعدة والسلفية السعودية- الخليجية. 

فمن هذه الانبثاقات أو الانشقاقات وباتجاه عنفي داخلي يمكن الإشارة إلى حركة جهيمان في السعودية، والجماعات الجهادية في مصر في الثمانينيات، والجماعات المسلحة في الجزائر في التسعينيات. ولكن هذه جميعاً وُلِدَت في ظروف وموازين قوى لم تسمح لها بالبقاء والاستمرار طويلاً، وإنما انتهت وغابت عن المسرح. 

ومن هنا تذهب هذه القراءة لتبحث في الأسباب التي سمحت لظاهرة التطرف العنفي الداخلي في الأمة بأن تطغى بالقوة التي ظهرت وتظهر بها منذ نهاية 2010 حتى الآن. 

إن الفكر المتطرف، أو جماعات، أو تنظيمات له، كان موجوداً دائماً ولكنه كان سجين التهميش واللافاعلية من جهة، وأسير المساجد والدعوة الصامتة المحدودة إذا جاز التعبير من جهة أخرى. فالسؤال ما هو العامل الرئيس الذي أوصله إلى ما وصله اليوم؟ 

يمكن القول أن ظاهرة التطرف في الفكر وصولاً إلى العنف ظاهرة عالمية موجودة في كل المجتمعات وفي كل التيارات بما فيها الليبرالية. ولكن بأية حدود تظهر الظاهرة وتلجأ إلى العنف. فإذا كانت الدولة قوية وكان المجتمع قابلاً بها، أو ساكناً، أو راضخاً، لميزان القوى المسيطرة فليس لتلك الظاهرة إلاّ أن تكمُن، أو تعيش في الظلام وبعيداً عن المواجهة. ومَن منها لا يُراعي المعادلة التي لا تسمح له بالخروج فيخرج فمصيره مثل اشتعال عود الكبريت لينطفئ وتذهب ريحه. أو يلجأ إلى ما عُرِفَ بالمراجعات. 

إن ظاهرة التطرف العنفي التي تشغل البلاد العربية والإسلامية والعالم اليوم لا يمكن أن تُقرَأ، مثلها مثل الظواهر الفكرية والسياسية الأخرى، من حيث التهميش أو الفاعلية إلاّ من خلال قراءة موازين القوى وعلاقتها بها. وليس من خلال أسباب النشوء أو مرجعيتها أو ما أصبح حاضناً لها. 

إن الاختلال الشديد الثاني الذي حدث في ميزان القوى العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، جاء بعد انهيار مشروع جورج دبليو بوش العسكري والسياسي واندلاع الأزمة المالية الخطيرة عام 2008. الأمر الذي آذن بتراجع كبير للسيطرة الأميركية – الأوروبية العالمية، ودخول العالم مرحلة من التعدّد القطبي أي بنمط من الفوضى العالمية وفقدان السيطرة السابقة. 

ويظهر هذا التراجع للسيطرة الأميركية – الأوروبية- الصهيونية ظهوراً أبرز مع فشل مشروع جورج دبليو بوش لبناء "شرق أوسط كبير- جديد" وقد عُبِّر عن ذلك بفشل الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وهزيمة جيش الكيان الصهيوني في حرْبَيْ لبنان وقطاع غزة في 2006 و2008/2009 على التتالي.

 الأمر الذي هزّ محور الاعتدال العربي الذي كان مسيطراً عموماً على النظام العربي. وسمح بإنزال ضربة قاسية لرأسه في مصر ولسنده القوي في تونس 2011. ومن ثم إلى نشوء معادلة جديدة عربياً في ميزان القوى. 

هذه المعادلة الجديدة في ميزان القوى العربي اتسّمت بفقدان أغلب الدول لهيبتها وقدرتها على الحسم والسيطرة. وانتقل التأثير في تطورات الأوضاع إلى العامِليْن الداخلي القُطْري والإقليمي العربي- الإيراني – التركي فيما تراجعت كثيراً أدوار الدول الكبرى الغربية في التأثير في مصير الأحداث.
 
ويكفي أن نلحظ هنا ظاهرتين أساسيتين الأولى أن الكيان الصهيوني أصبح عاجزاً عن اقتحام قطاع غزة أو جنوبي لبنان. وانحصر خطره الفعلي في الداخل الفلسطيني. وأساساً، في تهويد القدس واستيطان الضفة الغربية عدا ما اغتُصِبَ عام 1948، فيما كان مشروعُه في السابق أن يُصبح قادراً على الوصول إلى أية عاصمة عربية بسرعة الدبابة. وكان يخطط على مستوى إعادة "بناء شرق أوسط جديد" والسيطرة عليه. 

أما الظاهرة الثانية فعجز أمريكا وأوروبا عسكرياً بإنزال جيوشهما على الأرض وافتقارهما للقدرة على التحكم بما يجري من صراعات ومثال الناتو في ليبيا دليلٌ صارخ. وقد انحصر تدخلهما في حدود ضيقة جداً. ويكفي أن نلحظ تخبط السياسة الأمريكية إزاء كل قضية وأزمة. ولعل اتفاق الإطار النووي مع إيران مؤخراً، وما جرى حوله من مفاوضات يدل دلالة واضحة على أن إيران هي المنتصرة فيه. 

من هنا ندرك كيف راح الخلل في ميزان القوى عالمياً وعربياً وإسلامياً يسمح لمقاومة مُحَاصَرة في قطاع غزة بأن تُنْزِل هزيمة عسكرية ميدانية بالجيش الصهيوني. وكيف ردّ حزب الله على عملية القنيطرة في مزارع شبعا دون أن يجرؤ الكيان الصهيوني على الرد. ثم كيف استطاع الحوثيون أن يبسطوا سلطتهم على اليمن وقد كانوا من قبل مستضعفين. 

هذه الأمثلة ومعها الأوضاع في ليبيا والتطورات في العراق وسورية، تؤكد أن ميزان القوى في المنطقة لم يعد تحت السيطرة كما كان من قبل وراح يتسّم من بعض أوجهه بالفوضى وصراعات محلية وإقليمية دون حسم. الأمر الذي يسمح بتفسير انتقال، أو ولادة، قوى متطرفة، للسيطرة على مناطق واسعة، وتبنّي سياسات كلها تحدٍ للدول والرأي العام، وقد استطاعت أن تُضاعِفَ من فاعليتها إلى حد تُعلنُ فيه "إقامة دولة الخلافة في العراق وسورية". وتنشر مشاهد الذبح والحرق علانية. 

ليس لهذا من تفسير إلاّ من خلال قراءة دقيقة لموازين القوى وكيف يمكن لقوى صغيرة أن تصبح كبيرة ولدول قوية أن تصبح ضعيفة. وكيف يُفادُ من التناقضات والانقسامات والصراعات المتفاقمة وبلا حسم، من قِبَل قوّة متواضعة وبدرجة من الإقدام واستغلال الفرصة لتغدو مُسَيْطِرَة. 

تبقى نقطة مكملة تحتاج إلى تفسير وهي المناخات السياسية التي تسمح بانتشار فتن طائفية ومذهبية ودينية. مما يغذي اتجاهات شبابية ناقمة أو متألمة للانضمام إلى داعش أو جبهة النصرة عربياً وإسلامياً وعالمياً من دون أن تكون قد تربّت ضمن ثقافة التطرف أو التكفير أو العنف، كما تسمح الصراعات المحلية والعربية – العربية والإسلامية – الإسلامية والتدخلات الخارجية باستغلالها والإفادة منها عبر ما يُقدّم من مال وتسهيلات تَنَقّل. مما يقوي أو يشدّ من عضد حركات تطرف حتى لو كانت خارج التاريخ ولا يَقبَل بتصرفاتها إسلام ولا أعراف إنسانية، ولا يرضى بها حتى مَنْ يساعدونها ضدّ خصومٍ لهم، وهي تعتبرهم كفرة سُخِّروا لخدمتها. 

إذا صحّ ما تقدّم فإن الحلّ لا يكون إلاّ بتغيير ما يسودُ من ميزان قوى ومن مناخات مذهبية وطائفية ودينية وسياسات تشكّل حاضناً أو مُغذياً لنمو تلك الظواهر وخروجها من الكمون إلى الفاعلية. وهذا كله يحتاج إلى قرارات سياسية وتفاهمات من قِبَل القوى المحلية والإقليمية: العربية – الإسلامية. 

ها هنا تكمن المشكلة وليس في التعليم ولا في الفقر والفروق الطبقية ولا في الجهل ولا في الموروث التاريخي، ولا ما يُعْتَبَر أسباب النشوء. 

وبالمناسبة ثمة ظواهر من التطرف المرشح للانتقال العنفي في أمريكا والغرب عموماً، أشدّ، ربما، مما عندنا. ولكن فقط راقبوا قوّة الدولة والحذار إذا ما فقدت سيطرتها وهيبتها. إنها موازين القوى ما يُقرّر نمو الظواهر وكمونها وأفولها.