كتاب عربي 21

تجريب مُجَرَّب جديد

1300x600
ليس هنالك من مَثَل يُمكن أن يحضر بقوّة في الساحة الفلسطينية وامتداداً في بعض الساحات العربية والإسلامية مثل المثل الشائع القائل "من يُجّرِّب المجرّب عقله مخرَّب". 

وقد ظُنّ لبعض الوقت أن هذا المثل ينطبق على الرئيس محمود عباس إلى حد لا يمكن أن ينافسه عليه أحد؛ وذلك بسبب إصراره على التمسّك باستراتيجية المفاوضات، والوصول إلى تحقيق هدف الدولة الفلسطينية من خلال المفاوضات ثم المفاوضات. ولا مفرّ من المفاوضات حتى بعد اللجوء، أو التهديد باللجوء، إلى محكمة الجرائم الدولية والمنظمات الدولية. والمفاوضات من فشل إلى فشل إلى الكارثة. 

وقد كرّر هذا الإصرار بعد تشكيل نتنياهو لحكومته الأخيرة، وقد دعاه إلى المفاوضات "شريطة وقف الاستيطان والاعتراف بحل الدولتين"، وهو ما سبق وفعله مع نتنياهو بالذات مرّات كثيرة، ومع باراك وبيريز وأولمرت ورابين، وكانت النتيجة دائماً قَبْضَ ريح بعد تقديم تنازلات مجانية قبل التنازل عن الحق الفلسطيني بكامل فلسطين وحصره في الأراضي المحتلة عام 1967، بما في ذلك الاعتراف بالكيان الصهيوني، وتحويل حق العودة، إلى التفاوض لإيجاد "حل عادل لقضية اللاجئين" أي التعويض والتوطين، ولا مجال لتأويل آخر ما دام الموضوع حُصِرَ بالمفاوضات والتسوية السياسية على أساس حل الدولتين. 

صحيح أن إصرار محمود عباس على تجريب المجرّب ليس له من مسوِّغ، وإن حمل بعض التفسير باعتباره قد تورّط في نهج طريق لم يعد بإمكانه (وهذا أيضاً لا مسوّغ له) إلاّ الاستمرار فيه. 

ولكن كيف يمكن أن يفسّر موقف البعض الذي راح يجرّب المجرَّب ولا يتعظ بتجربة محمود عباس، أو تجربة تقديم التنازلات المجانية وعلى رأسها إبداء الاستعداد المُسبَق بالاعتراف بالكيان الصهيوني: "إذا قامت الدولة الفلسطينية على حدود 1967". ووصل الحد بأحمد يوسف إلى اعتبار الاعتراف بالكيان الصهيوني (طبعاً أصبح يسّميه "إسرائيل") باعتباره تحصيل حاصل "إذا ما تحقق "حل الدولتين".

أحمد يوسف عضو في حركة حماس وله موقع داخل الحركة، ويخترق الموقف الرسمي والمُعلَن والمؤكّد عليه مراراً من قيادة حماس، وهو عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني. وعندما أراد بعضهم تفسير هذا الخروج (الردّة) قال: "إن أحمد يوسف يعبّر عن رأيه الشخصي". ولكن بأي حق لأي عضو في حركة مثل حماس أن يصرّح برأي يخالِف ثابتاً من ثوابتها (دونه خرط القتاد)، ويقال إنه رأي شخصي، ولا يقدّم استقالته إن كان يحترم نفسه، أو لا يُحاسَب ويؤخذ قرار بحقه! طبعاً ثمة غالبية ساحقة في حماس تطالب بمحاسبته أو على الأقل منعه من التصريح. 

موضوع الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني وفقاً لحل الدولتين: الدولة الفلسطينية في حدود 1967 أي 22% من أرض فلسطين، هو اعتراف بدولة الكيان الصهيوني التي اغتصبت أرض فلسطين وهجّرت ثلثي شعبها في العام 1948، واستولت على 78% من أرضها. وهذا موضوع ليس بالموضوع الذي يمكن أن يُناقَش، أو يُطرَح على النقاش، بالنسبة إلى مقاومة تعتبر تحرير فلسطين من النهر إلى البحر هدفها الرئيسي، إلاّ إذا كان هنالك في قيادتها من يستخدم أشباه أحمد يوسف للتمهيد، أو التهيئة، لهذا التنازل الخطير الذي يلخص كامل القضية الفلسطينية قديماً وحديثاً، وإلى أن تُحرّر فلسطين بالكامل. 

هذا الحدث يذكّر بحركة فتح حين أطلقت السرطاوي ليقول ما يقوله أحمد يوسف الآن، وكان ذلك بحماية طرف من علٍ، وإلاّ ما كان ليستطيع أن يتجرّأ في حينه أن يتفوّه بأقل من ذلك؛ لأن سياط فتح والشعب الفلسطيني كانت ستُلهب ظهره، ولا تسمح له بإبداء رأي شخصي في قضية تمسّ مبدأ ثابتاً. بل المبدأ الثابت الأول للقضية الفلسطينية. وهو عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، بوجود، أو إقامة، دولة له على أرض فلسطين. وكيف وهي التي قامت على الاغتصاب وتهجير الفلسطينيين من خلال القوّة والجرائم، وبمخالفة لثوابت الحق الفلسطيني والعربي والإسلامي في فلسطين، وبمخالفة للقانون الدولي ولميثاق هيئة الأمم المتحدة. وهي من هذه الزوايا دولة غير شرعية بكل المقاييس. فكيف يجوز لصاحب رأي شخصي أن يخترق كل ذلك ويسوّغ الاعتراف بها، أو يجوّزه، إذا ما قامت دولة فلسطينية. 

والأنكى أنه يفعل ذلك مجاناً أي قبل أن تقوم الدويلة الفلسطينية المسخ التي يريد أن يبيع فلسطين من أجل قيامها، وهنا تأتي "الفصاحة" أو الفخ الذي نُصِبَ لفتح وم.ت.ف في السابق؛ أي إبداء الاستعداد للاعتراف بدولة الكيان الصهيوني إذا قامت دولة فلسطينية على أراضي 67. 

صحيح أن هذا الاعتراف ليس الاعتراف المطلوب وفقاً للقانون الدولي ما دام مشروطاً بشرط لم يتحقق، ولكنه يُعتبَر اعترافاً لا يجوز التراجع عنه مستقبلاً، ما دام قد أُشيرَ إليه ولو مشروطاً، وذلك وفقاً للقانون الدولي كذلك. 

وبهذا يكون قد أعطيت شرعية مجانية لدولة الكيان الصهيوني كما فعلت م.ت.ف من قبل، واستمرت على تقديم التنازلات عسى أن يتحقق هدف الدولة الذي لم يتحقق، فيما العدو أخذ كل ما يريد من تنازلات من م.ت.ف، مما قاد إلى تنازل دولي شبه إجماعي بعد اتفاق أوسلو، وكان في مقدمة ذلك اعتراف الصين والهند وغيرهما من دول عدم الانحياز بدولة الكيان الصهيوني. ولم يتخلف عن هذا الاعتراف إلاّ عدد من الدول الإسلامية، والرأي العام الإسلامي. ومن هذه الزاوية يقوم سبب آخر لخطورة خروج صوت أحمد يوسف من قلب حماس، ومن قلب غزة، ويا للأسف ويا للفضيحة. ومتى؟ بعد الانتصار العظيم الذي أنزلته المقاومة بجيش الكيان الصهيوني.

في الحقيقة، إن فتح وم.ت.ف ارتكبتا خطيئة كبرى بالاستعداد للاعتراف بدولة الكيان الصهيوني (أي بشرعية اغتصاب فلسطين وتهجير ثلثي شعبها)، وهي الخطيئة التي بدأت منذ برنامج النقاط العشر وتمادت في إعلان الدولة على الأراضي المحتلة 1967 ("وفقاً لقرار 242") عام 1988، ومن ثم قبولها بحل الدولتين منذ اتفاق أوسلو ومساره حتى الآن. 

ولكن هذه الخطيئة لم تكن نتاج تجربة المجرّب، وإنما كانت محاولة تجربة من دون أن تكون مسوَّغة حتى في حينه. ولكن ما يفعله أحمد يوسف فهو تجريب المجرّب، بكل ما يمكن أن يوصف تجريب المجرّب من أوصاف، ولكن من دون أسباب تخفيفية، كما يحاول البعض حين تُقوّم التجربة الأولى المغامَرة – المخاطَرة والواهمة، وذلك قبل أن تثبت التجربة الطويلة والمتكرّرة عقمها ولا جدواها ومجانيتها.  

فإذا كان المثل يَعتبر تجريب المُجَرَّب لا يأتي إلاّ من عقل مُخرَّب، فإن الأمر يصبح أكثر من عقل مُخرَّب عندما يكون المجرَّب في القضية الفلسطينية ومع الكيان الصهيوني، بل مع كل ما حصدته تجربة أوسلو من نتائج وخيمة على الأرض والقضية.

حقاً لا يستطيع العقل السليم مهما جنح إلى السذاجة، أو الميل للتخفيف والتمييع أن يدافع عن موقف يعبّر عنه أحمد يوسف بتلك الكلمات الهزيلة "الكاريكاتيرية" (المهزلية)، بأن الاعتراف بالكيان الصهيوني هو "تحصيل حاصل" في حال قيام الدولة أو حل الدولتين. ما هذا الاستخفاف بحماس وبالشعب الفلسطيني وبالعقول، حين يعتبر الاعتراف "تحصيل حاصل"، فتعالوا نعترف لأن أي اعتراف بالكيان الصهيوني وتحت أي ظرف من الظروف ومقابل أية دولة فلسطينية، لا يحتمل غير الاعتراف بشرعية اغتصاب فلسطين وبإسقاط حق العودة (لأنه سيكون بدوره تحصيل حاصل أيضاً)، ثم ما شئت من التنازلات اللاحقة باعتبارها "تحصيل حاصل" كذلك. إن الاستناد إلى حجة "تحصيل حاصل" أسوأ من كل ما سبقها من حجج ثبت بطلانها. 

إن نظرية "تحصيل الحاصل" إذا أراد أحمد يوسف أن يطبقها على موقفه وليس على قضية فلسطين، فينبغي له أن يستقيل من حماس كتحصيل حاصل لرأيه الشخصي هو ومن وراءه؛ لأنه بتصريحه قذف طيناً على حماس وعلى انتصار قطاع غزة وبخفة ومجان.