كتاب عربي 21

الضحية القادمة لحزب الرقص على الجثث: العدالة الانتقالية؟

1300x600
في يوم واحد عمليتان إرهابيتان بين محافظتي سيدي بوزيد وجندوبة، أدتا إلى استشهاد أربعة أمنيين، وفي الأثناء حادثة قطار مفجعة أدت إلى حوالي عشرين قتيلا. في اليوم ذاته عيد ميلاد حزب "نداء تونس" صاحب الأغلبية في البرلمان، وأكبر مكونات التحالف الحاكم، ويشغل مؤسسه موقع رئيس الجمهورية. 

كيف يمكن أن يتم "الاحتفال" في مثل هذه الظروف؟ كيف يمكن للحزب الذي هو في السلطة الآن الذي استثمر قبل الانتخابات بل حتى أيام قليلة قبلها في أكتوبر 2014 بكل ما أوتي من قوة في حوادث الإرهاب؟

كيف سيتصرف وزراء قياديون في حزب حاكم مسؤولون مباشرة على ملف النقل ومأساة التعاطي الطبي معه من وزير النقل إلى الصحة، والدماء لم تجف بعد من حادث ناتج عن غياب حاجز بسيط في منطقة ريفية فقيرة، تم برمجة إصلاحه في الميزانية الجديدة لكنه لم ينفذ بعد؟ هل يؤجل احتفاله ويجسم شعار "هيبة الدولة" الذي جعله كلمة السر في خطابه الإعلامي؟

هل ينظم حملة تبرع بالدم لإعطاء المثل؟ هل يعلن الرئيس الحداد العام وعوض الاحتفال يتم تنظيم زيارات جماعية لأهالي الشهداء والضحايا؟ كان يمكن أن يفعل كل ذلك لو كان موضوع الإرهاب هاجسا استراتيجيا جديدا، وليس تعلة في حملة انتخابية ولو كان حقا مع هيبة الدولة ووطنيا بالدرجة الأولى. لكنه لم يكن يوما كذلك ولن يكون. 

رغم اليوم المغمس بالدم من فجره إلى غروبه أقام الحزب احتفاله بالطبل والمزمار والرقص وحالة فوضى تقارب مشاهد ملهى ليلي. تحول يومها بشكل مفضوح وامتثل عاريا وبلا مساحيق على المنصة حزب الرقص على الجثث. ليس ذلك جديدا يجب أن ندقق؛ إذ سبق أن اشتغل على تحويل ضربات قوى الإرهاب من اغتيالات سياسية وكمائن ضد القوات الحاملة للسلاح، إلى مناسبات للتقسيم واتهام من هم في السلطة بمسؤوليتهم عنه وتخوينهم واحتكار اسم تونس، وتم في ذلك السياق اعتماد "تحيا تونس" شعارا انتخابيا عاما. تم القيام بكل ذلك رغم أن استراتيجيا التوحش لقوى الإرهاب قائمة بشكل معلن ومنشور دون مواربة على تعفين الجو السياسي وتعميق الاحتقان وإسقاط الدولة. 

بيد أن مواجهة الإرهاب بقي بالنسبة لحزب الرقص على الجثث حتى بعد اعتلاء السلطة تعلة دائما لغاية أخرى. بعد العملية الإرهابية في متحف باردو وفي أجواء وطنية استثنائية، اتفق التونسيون بلا تردد على "أننا جميعا باردو" وحينها تحديدا بمناسبة عيد الاستقلال في 20 مارس 2015 وبحضور جميع الفرقاء السياسيين، بما في ذلك الدكتور المرزوقي الذي لم يحضر أي احتفالات رسمية منذ الانتخابات، وحرص على الحضور من باب إرسال رسالة وحدة وطنية، حينها تحديدا وعلى خلفية الفجيعة الوطنية واليقظة ضد الإرهاب، يختار الرئيس السبسي تلك اللحظة لإعلان مبادرة "مصالحة اقتصادية" تخص موضوع "الصلح" مع المورطين في قضايا "فساد مالي"، ممن كانوا من حاشية "رأسمالية المحاباة" (على حد تعبير تقرير "البنك الدولي") لنظام ابن علي. 

بعد ذلك بأسابيع قليلة أصدرت المحكمة الإدارية حكما صدم الجميع، ألغت بموجبه مرسوم المصادرة الصادر في فيفري 2011 ، الذي كان أساس إطلاق مسار العدالة ضد معاقل الفساد للعائلة الحاكمة التي قامت عليها الثورة. يمكن لقائل أن يقول "القضاء الإداري مستقل"، لكن أصبح ذلك موضوعا تحوم حوله أسئلة كثيرة، خاصة بعد القرار المثير للجدل القاضي بالتمديد الاستثنائي للرئيس الأول للمحكمة الإدارية من السلطة التنفيذية منذ أسابيع.

صحيح هناك تأويلات قانونية تقنية عديدة للموضوع، لكن أساسه أنه مرسوم صدر في سياق ثورة لا يمكن التعامل معه، إلا من زاوية سياسية وليس على أساس تأويلات تقنية، تتضمن عدم اعتراف ضمني بإلغاء دستور 1959، كأننا نحتاج نصا واستفتاء على إلغاء دستور في وضع ثورة. وإلا فإن كل الدساتير السابقة منذ قرطاج لازالت سارية المفعول. 


الشكوك تصبح مقاربة للتأكيدات فيما يخص استهداف السبسي وحزبه، في انتظار توضيح بقية أحزاب التحالف الحاكم لموقفها، خاصة الحزب الثاني في التحالف حركة النهضة، لأحد أركان العدالة الانتقالية أي محاسبة الفساد المالي، عندما تتسرب بعض المعطيات حول "تنقيحات" سيتم اقتراحها في إطار مبادرة الرئيس السبسي حول "المصالحة الاقتصادية" على قانون العدالة الانتقالية بالتحديد في باب القضايا المالية. التحويرات ستشمل حسب هذه التسريبات أركان مسار العدالة الانتقالية كافة:

- بدءا من اسم الهيئة حيث المقترح أن تصبح "هيئة الحقيقة والمصالحة" عوض "هيئة الحقيقة والكرامة". 

-توسيع أعضاء الهيئة لتصبح ضعف ما هي عليه الآن (من 15 إلى 30) وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تغيير اتجاهها العام، بما أن الحزب الأغلبي سيكون حاسما في اختيار الأعضاء الجدد، وبعد الطعن المتكرر من قياداته على رأسهم السبسي منذ فترة ما قبل الانتخابات في "حيادها"، وهو ما تواصل حتى في الأيام الأخيرة في كلمة لوزير العدل في سياق ندوة للهيئة. 

-حذف الفقرة الخاصة في الفصل 18 القاضية بإمكانية تمديد عمل الهيئة لسنة، وسيكون تعليل ذلك عبر التسريع بأقصى ما يمكن في عملها، وعلى أساس ذلك سيتم تبرير "تخفيف العبء" في عمل الهيئة، عبر "إفراد ملفات الفساد المالي بمعالجة خاصة". 

-تحوير الفصل 40 من قانون العدالة الانتقالية من خلال تحديد النفاذ لل،رشيف السري من الهيئة؛ إذ على الأخيرة وبعكس ما هو موجود في القانون الجاري، تبرير مطالبها بتعليل واضح على مبررات طلبها أي ملفات، ويمكن للإدارة أن ترفض وتبقى المحكمة الإدارية طرفا فاصلا يمكن أن يمنع نهائيا النفاذ للأرشيف، وهو ما يوفر أرضية قانونية لإخفاء الأرشيف عن أنظار الهيئة عبر السلطة التنفيذية، وإمكانية دعم المحكمة الإدارية التي تعين السلطة التفيذية رئيسها. 

-الدفع في اتجاه تحويل غالبية الملفات الخاصة بالقضايا المالية إلى أنظار النيابة العمومية والقصاء العادي وليس دوائر محاكم مختصة. 

- تنقيح الفصل 46 في اتجاه حذف عبارة "بموافقة الدولة في حالات الفساد المالي إذا تعلق الملف بأموال عمومية أو أموال مؤسسات تساهم الدولة في رأسمالها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة". وحذف عبارة "وإذا كان طلب المصالحة يتعلق بالفساد المالي، فيجب أن يتضمن وجوبا بيان الوقائع التي أدت إلى استفادة غير شرعية وقيمة الفائدة المحققة من ذلك، ويكون الطلب مرفقا بالمؤيدات التي تضبط صحة أقوال طالب الصلح."

كل هذا يأتي، مثلما يستوجب أن نتذكر، في سياق تهجم هستيري على حملة #وينو_البترول التي تستهدف حسب الأحزاب التي تبنتها وعديد الناشطين فيها ملف الشفافية في قطاع الطاقة ومقاومة الفساد فيه، بناء على تقارير رسمية لأعلى هيئات رقابية للدولة مثلما أقر رئيس الحكومة في حوار تلفزي منذ أيام.

في المقابل تم إطلاق حملة تشويه لهذه الحملة المواطنية العفوية من أحزاب التحالف الحاكم على أساس أنها "ترويج الأوهام بأن تونس تسبح على بحر من النفط". حيث إن كل ما يستعيد ملفات الفساد يصبح هدفا للتخوين والتهكم والتهجم. 

هذه المقاربة المتساهلة مع الفساد المالي تحت عنوان "تشجيع العجلة الاقتصادية" لا تنبع فقط من التأثير القوي خاصة داخل حزب السبسي وبعض حلفائه عموما للوبي الاحتكارات المالية لمنظومة "رأسمالية المحاباة"، التي أرساها نظام ابن علي، بل أيضا لمقاربة تلتقي فيها كل أحزاب التحالف الحاكم ترى أن شرط إحياء أي اقتصاد هو تقديم كل الحوافز، حتى إذا ما كانت على حساب الشفافية وتطبيق القانون والمساواة في الفرص لمصلحة فئة محددة لرجال الأعمال، وليس كل رجال الأعمال، في مقابل تجميد أي مطلبية للفئات المفقرة والسائرة في طريق التفقير.

وعليه فإن كل "الإصلاحات" التي تركز عليها الحكومة بإرشاد من المؤسسات المالية المقرضة ("مجلة الاستثمار"، "شراكة عام خاص"، "إعادة رسملة البنوك"...) تصب في هذا الاتجاه. التساهل مع التهرب الضريبي بل تقليص العبء الضريبي بالنسبة للفئات الأكثر دخلا، مقابل مزيد أثقالها على الفئات الأقل دخلا. في هذا السياق فإن جريمة فساد مالي بمليارات تصبح أقل شأنا من جريمة سرقة محل خضار. هذا التجسيم العملي والفعلي للتوزيع غير العادل للتضحية والثروة. 

مثلما قلناها في السابق حزب الرقص على الجثث وتطبيع الفساد المالي و"رأسمالية المحاباة" هو #أكبر_عملية_تحايل_في_تاريخ_تونس