كتاب عربي 21

جنبلاط وتسعة أعشار الحكمة

1300x600
كيف يفكر وليد جنبلاط عندما يدعو إلى مهادنة جبهة النصرة وفتح صفحة جديدة معها ضد النظام السوري، بعيد المجزرة التي قتلت فيها "عناصر متفلتة" من النصرة، بحسب بيان اعتذار الجبهة، أكثر من عشرين درزيا في جبل السماق في محافظة إدلب السورية، حيث تقبل جنبلاط وقبل أن تجف دماء الضحايا رواية أن ما جرى في البلدة حادث فردي، ودعا إلى تشكيل لجان تنسيق بين الموحدين الدروز ومسلحي النصرة.

وأوفد جنبلاط رسله إلى كل من أنقرة والدوحة لطلب المساعدة في الضغط لتأمين الحماية لدروز سوريا. وقد تقبل جمهور جنبلاط داخل الطائفة، أقله في لبنان، منطقه السياسي في معالجة الأزمة، كما تقبل من قبل إهدار جنبلاط دم أي درزي يقاتل مع جيش النظام السوري..

لتسهيل الإجابة على السؤال حول السلوك القيادي لتعامل وليد جنبلاط مع فاجعة مجزرة قلب اللوز في ريف إدلب، لا بد من فهم تعامل العائلة الجنبلاطية مع نكستين دمويتين في تاريخها وتاريخ دروز لبنان الحافل بالمرارات كما يصفه جنبلاط نفسه.  

عام 1921 صدر قرار عن قنصل الانتداب (الاحتلال) الفرنسي آنذاك باعتقال كل عائلات الثوار الدروز في جبل لبنان؛ للضغط على أبنائهم المقاتلين حتى ينشقوا عن الثورة العربية الكبرى، فعمد الزعيم فؤاد جنبلاط، جد وليد لأبيه، إلى محاولة احتواء الضربة الفرنسية لأبناء طائفته، وذهب للقاء القنصل الفرنسي عارضاً عليه بأن يقوم جنبلاط نفسه مع مناصريه بمهمة اعتقال هذه العائلات، بدل أن يدخل الجنود الفرنسيون إلى بيوت الدروز في الجبل فيعتدون على النساء ويروعون الأطفال، ويأخذون الكل بجريرة الجزء، ويتحول اعتقال عدد من الأهالي إلى عملية إقصاء لطائفة برمتها عن حواضرها في جبل لبنان.

إلا أن فؤاد جنبلاط قضى نحبه وهو في طريق العودة من لقاء القنصل الفرنسي على يد الدرزي شكيب وهاب، الذي كان يرى أن الأسلوب الأمثل لمواجهة هذه الأزمة مع الفرنسيين هو المزيد من التصدي لهم، ومقاتلتهم بغض النظر عن النتائج والأثمان التي يمكن أن تدفعها هذه الأقلية الدينية المجهرية عددياً بالمقارنة مع الطوائف الكبرى في الشرق والغرب، (علماً أن روايةً أخرى تفيد بأن تصفية فؤاد جنبلاط تمت عن طريق الخطأ).

وهكذا جاهد جد جنبلاط حتى رمقه الأخير من أجل التخفيف قدر المستطاع من الخسائر وتحويل النكبات إلى نكسات. فالمنطق والحكمة يقتضيان بأن تجنب الأقلية الدرزية نفسها من الدهس والإبادة عند ممر الفيلة، وبأن تختار لنفسها عدواً من حجمها أو حتى من عشرة أضعاف حجمها، لكن المشكلة مع دولة مثل فرنسا قد تتحول إلى مشكلة وجودية للدروز فيما لو قرروا المواجهة، خصوصاً عندما تأخذ هذه المواجهة عمقاً مذهبياً فوق البعد الوطني.

  الفاجعة الثانية وقعت عام 1977 مع اغتيال والد وليد جنبلاط هذه المرة، كمال جنبلاط الزعيم الروحي والزمني لطائفة الموحدين الدروز، ومؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي على يد النظام السوري، بحسب الاتهام السياسي الجنبلاطي، في بداية مرحلة السيطرة السورية على لبنان في أعقاب الحرب الأهلية الطائفية اللبنانية.

فعلى الرغم من يقين وليد جنبلاط بأن النظام السوري هو قاتل أبيه، إلا أنه هادن هذا النظام لأكثر من ربع قرن فالعين لا تقاوم المخرز، وفي وجه الدروز وظهرهم أكثر من مخرز، وقوة سوريا في لبنان في تلك الأيام لا تقل عن قوة الفرنسيين في لبنان ما بعد الحرب العالمية الأولى أيام جده فؤاد جنبلاط، بل تفوقها.

وهكذا فلا بد من إتقان دراما العض على الجرح، ومن عقد صفقة مع الزمن بدَا عام 2005 أن "وليد بيك" بدأ بربحها عندما قاد ثورة الأرز، التي كانت العامل المحلي المضاف إلى العامل الدولي في إخراج الجيش السوري من لبنان، حتى إن جنبلاط قال صراحة في مقابلة تلفزيونية بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011 : "سأنتظر على ضفة النهر، ولا بد أن تمر جثة عدوي يوماً ما أمامي"..

في هذه اللحظة التاريخية حيث تلوح جثة عدوه في عرض النهر، وفيما يتحضر وليد جنبلاط لطقوس الاحتفال الكبير انتقاماً ليس فقط للوالد المؤسس، بل أيضاً لسنوات عجاف من الصمت الحكيم، تأتي المنغصات من بضعة مسلحين من جبهة النصرة، خالفوا قيادتهم كما تزعم، ارتكبوا جريمتهم في بلدة قلب اللوز الدرزية السورية التي لا تقف بالضرورة عند حدود ضحاياها، بل يمكن أن تتعداهم بشيء من الحماس أو المكائد لتشمل الطائفة برمتها، عبر جرها رغماً عنها إلى الحرب الأهلية السورية في صفوف حلف الأقليات. 

وهذا ما يخشاه ويرفضه قطعاً سليل العائلة الجنبلاطية التي آمنت تاريخياً بأن الصلح تسعة أعشار الحكمة، وهي لا تحارب نيابةً عن غيرها، وإذا قاتلت فالقتال حتى الموت، لكنه حتماً ليس لأجل الموت.