مقالات مختارة

انتفاضة من "نوع ثالث"

1300x600
كتب أحمد جميل عزم: في نعي الفتى فضل الخالدي الذي استشهد على حاجز عطارة قرب قرية "بيرزيت"، حرص شهود عيان على القول إنّ الشهيد استشهد "مقبلا غير مدبر"، أي كان في مواجهة مع الاحتلال بالحجارة وزجاجات حارقة. 

ويأتي استشهاد فضل عقب استشهاد عدة شبان مؤخرا في فلسطين في مواجهات مع الاحتلال. ويمكن أن نلمح مما يحدث تغيرا في المزاج الفلسطيني. وإذا كان السؤال الدائم هو: هل تقع انتفاضة ثالثة؟ فإن الحديث ربما يكون أدق عن انتفاضة من نوع ثالث. 

تختفي تدريجيا ظاهرة كنتُ لاحظتها وكتبتُ عنها نهايات العام 2013، وهي محاولة إنكار أهالي وحتى فصائل لبعض العمليات أو "الحوادث"، وتجريدها من دوافعها الوطنية، من مثل استدراج فلسطيني لجندي إسرائيلي وقتله، وإلقاء جثته في بئر في قرية بيت أمين؛ إذ شكك والد منفذ العملية في فيديو مسجّل بدوافع ابنه. 

وعندما اقتحم يونس الردايدة معسكرا للاحتلال شمال القدس بجرافة (وكان شقيقه قام بشيء شبيه العام 2009)، شككت عائلته أن تكون هذه عملية، وقالت إن يونس ربما دخل المعسكر بالخطأ. وعندما قُتل ضابط احتياط إسرائيلي بارز في بيته في مستوطنة، جاء من يقول إنّ العملية ذات خلفية جنائية وليست وطنية. وبغض النظر عن حقيقة هذه العمليات وغيرها، فإنّ ظاهرة "التشكيك" كانت بارزة، وبما كان يعبر عن مزاج شعبي متشكك ومتوجس (حينها) من جدوى وعواقب هذه العمليات. 
أمّا الآن، فالوضع مختلف. 

عندما استشهد عبدالله حمايل، في كفر مالك، قبل نحو شهرين، لاحظت أنّ أهالي في القرية (من الأكبر سنا ) حاولوا القول إنّ الشهيد لم يكن في مواجهة مع الاحتلال، أمّا الأصغر سنا فقالوا أنّ الأمر كان في سياق التصدي لدخول دوريات الاحتلال للقرية والمنطقة، وأنّ الشهيد كان وطنيا متدفقا في مواجهته للاحتلال. ثم جاءت عمليات عسكرية في الضفة الغربية، منها عمليات إطلاق نار متكررة على مستوطنين، وانتشار للصدامات، خصوصا قرب المخيمات والحواجز الاحتلالية. 

وعلقت صحيفة "يديعوت أحرنوت" على المشهد بالقول: "شهدت إسرائيل العام الماضي موجة مما يسمى هجمات "ذئب وحيد"، من قبل فلسطينيين يستخدمون بنادق، وسكاكين، وسيارات، في القدس، وتل أبيب، والضفة الغربية". 

لم تتوقف المقاومة في أي وقت، لكنّ هناك صعودا وهبوطا في وتيرة الأحداث، وهناك تغير في الاتجاهات. ويمكن طرح وجود عدة عوامل ترجح توقع الاتجاه للتصعيد، وتحدد الشكل المتوقع للمشهد. 

أول العوامل، هو أنّ المقاومة المدنية بشكلها القائم على تحاشي المواجهة العنيفة، وعلى أساس مخاطبة الرأي العام العالمي والاستعانة بنشطاء سلام دوليين، ومقاطعة السلع الإسرائيلية، وصلت على ما يبدو سقفا فقدت معه الزخم، لأسباب منها بقاء فعاليات هذه المقاومة في خطوط تماس معينة بعيدة عن تجمعات الكثافة السكانية داخل المدن، ومنها إشكاليات وخلافات متفشية، بما في ذلك بين الناشطين الدوليين والمحليين، وعدم تبني الفصائل، ومنها حركة "فتح"، لهذا النمط لدرجة فرضه بالقوة، وبزخم متزايد. 

ثاني العوامل، هو "حكومة المستوطنين". فمع تزايد وزن المستوطنين وأحزابهم سياسيا ، كما برز في انتخابات الكنيست الأخيرة، ودخول عدد من قادتهم للحكومة، وتطور تنظيماتهم ونشاطاتهم العنيفة ضد الفلسطينيين، بالترافق مع نمو أعدادهم، لم تعد فكرة المفاوضات أو حتى المقاومة المدنية لتقنع الشبان الذين يتعرضون وأهاليهم لاعتداءات متكررة. 

العامل الثالث، هو الاعتداءات شبه اليومية على المسجد الأقصى، بما يرافق هذا من توتر.

والعامل الرابع، لجوء حركة "حماس" على ما يبدو لهيكلية عمل جديدة، تعتمد على توجيه أعضائها المحليين من خلال قيادات أبعدت من السجون والأرض المحتلة للخارج في السنوات القليلة الماضية. 

هذه العوامل مجتمعة، وغيرها، ربما هي التي تشكل المشهد الفلسطيني، حيث الظروف تنضج للمواجهات والتصعيد. لكن مع تعقيد الوضع الناجم عن وجود السلطة الفلسطينية في المدن، فإنّ المرجح سيكون مرحلة من التصاعد في وتيرة المواجهات والهجمات الفردية أو المجموعات الصغيرة التي ستغير المشهد اليومي للحياة، دون الوصول لانتفاضة بالشكل التقليدي، بل انتفاضة من نوع ثالث (سوى انتفاضتي 1987 و2000)، تقوم على مجموعات أنوية صلبة من النشطاء، يلحق بهم الشعب في نشاطات تضامنية مختلفة، ما يوجد حالة شعبية جديدة.

(عن صحيفة الغد الأردنية، 5 آب/ أغسطس 2015)