كتاب عربي 21

"عبد الفتاح سعيد"... لا عصابةَ لك

1300x600
في قلب سجون الدولة التي حصل رباعي الانقلاب فيها مؤخرا على جائزة "نوبل" للسلام يقبَع المربّي وأستاذ الرياضيات التونسي "عبد الفتاح سعيد" وحيدا مخلّفا وراءه زوجة ثكلى وأبناء أيتام يبكون أباهم وأمّا ملتاعة تموت كل يوم ألف مرّة.  

أمك يا عبد الفتاح ليست حداثية ديمقراطية من نسْل الوباء الذي خلّفه الاستعمار ووكلاؤه من بعده ولا هي من زرْع إبليس الذي لا ينقطع فَحيحُه عن منابر "إعلام العار الوطني" مدافعا عن الشذوذ واللواط والزنا وكل الموبقات التي تفتك بالفقراء من أبناء تونس الأحرار وبناتها الحرائر. 

أمك لا تجالس الرؤساء ولا تقتات على موائد اللئام من تجار النضال وسماسرة المعارضة حتى تتجنّد لك العصابات وتفك أسرك الذي أنت فيه.  

أمّك كأمّي قد علا الشيب رأسها وغطت التجاعيد محياها وتلبدت ملامحها بالخوف والتوجس وتصلبت يداها وتكلس جلد أطرافها بعد أن أفنت عمرا في تعليمك وإخوتك قبل أن تخطفك فرق الموت الجوّالة وعصابات النظام القديم الجديد.  

أمك كأمي فأنت مثلي من "أبناء الحفيانة" ـ أو  ـ بالنعت السببي ـ "الحافية أقدامها" كما تنعتها امرأة الحداثة شبه العارية في المدن والمستوطنات الراقية وكما يصفها أبناء "جمعية شمس" للحداثة التونسية الجنسية إمعانا في السخرية من نساء الأرياف والقرى.

 هؤلاء سماهم "المجاهد الأكبر" وكبير السحرة ووكيل المرحلة الاستعمارية الأولى "الهباءات البشرية" في وصف احتقاري يكشف مرض الرجل وحقده العنصري الجهوي البائس على الفقراء من أبناء شعبه.
يقول زعيم الحداثة ومحرر المرأة من قيَمها ومن دينها قوله الشهير هذا واصفا تونس الأعماق "بالأوباش" و"الجبورة" في الوقت الذي صدع فيه الزعيم النقابي الخالد فرحات حشاد بجملته الشهيرة "أحبك يا شعب" ثمّ تمت تصفيته على يد آلة الموت الاستعمارية بتواطؤ من من رفاق النضال وقبل أن يحوّل "بن علي" حصن حشاد الحصين إلى خنجر في ظهر الفقراء ومعقلا للفساد والفاسدين. 

"عبد الفتاح سعيد" هو واحد من الكثيرين من سجناء الرأي والموقوفين الذين بدأت تكتظ بهم سجون نظام الانقلاب على الثورة التونسية بل هو في حال أفضل بكثير ممن قضوا تحت سياط الجلاد وآخرهم الشاب "قيس بن رحومة" أصيل منطقة الوردية وقاطن أحزمة الفقر التي تلفّ العاصمة. وهو الذي تسلمته أمّه المسكينة جثة لا حياة فيها وقد خيطت أطرافه وعلَتْ زرقة التعذيب كل جسده بشكل متوحش يكشف حجم الجرائم التي ترتكب في حق أبناء الشعب في زنازين التعذيب، وهي المصانع التي تصنع الإرهاب صنعا وتخلق أجيال الموت القادمة. 

"عبد الفتاح سعيد" اقترف جرما عظيما وهو التدوين عكس الرواية الرسمية للدولة البوليسية الناشئة في مهد ربيع العرب عندما وضع رواية جديدة عن مجزرة سوسة الإرهابية وهي الرواية التي أكدها الصحفي الانقلابي الهارب في سويسرا ودعمها القاضي "رئيس المرصد الوطني لاستقلال القضاء" عندما وصف بشاعة التعذيب الذي تعرض له الموقوفون الأبرياء في جريمة سوسة بعبارة شهيرة: لقد سُلِخوا سلخا " في دولة جائزة نوبل للسلام. 

عبد الفتاح سعيد لا تتظاهر من أجله الأحزاب السياسية ولا تتاجر بقضيته نخب العار التونسية سواء من المتدثرين بدثار الدين والورع والمتاجرين بالنضال المزيف أو المتلحفين بحقوق الإنسان أو نخاسي الصراع الطبقي أو المتاجرين بالعروبة ومقاومة البراميل. 

عبد الفتاح سعيد لم يمزق المصحف الشريف ولم يمش عاريا في الطريق حتى يتجند له الشرق والغرب ومنظمات قانون الغاب الدولي  دفاعا عن حرية التعبير. 

فلا الزعيم الإسلامي "التكتاك" ولا الرئيس الحقوقي المناضل الأوحد " الدكتور" يهمهم أمر الرجل فهو لا ينتمي لعصابة أو عُصبة أو قبيلة قادرة على فك أسره وتحريره من إرهاب الدولة البوليسية. هم في الحقيقة مشغولون عنه بالمحاضرات الدولية ومقابلة زعماء العالم أو استقبال السفراء وعرّابي الانقلابات وشرح خصوصية التجربة التونسية التي كانوا سببا في دمارها مع مثيلاتها العربية.لقد مكّنوا النظام القديم من العودة إلى السلطة لمزيد النهب والسطو في الوقت الذي مازال فيه آلاف الأطفال من أبناء الفقراء يشربون من مياه الأنهار الملوثة ويعيشون في كهوف الطين ويموتون بردا واحتقارا كل يوم.   

 في تونس كما هو حال الدول العربية الأخرى لا بد لك من عصابة تحميك مهما كانت جرائمك فالعصابة إزارك عند الشدائد وحصنك الحصين يوم البأس الأكبر ومنجيك يوم تهاجمك الضباع لأنك تتحرك داخل منطق القطيع حيث لا يطال الذئب إلا القاصية المنفردة من الغنم. فحتى النقابات العمالية التي رهنت مستقبل التلاميذ من أجل حفنة من الدنانير لم تلتفت إلى ابنها المربّي ولم تُعره اهتماما ولا اهتم به زملاؤه المربّون فهو لن يضيف لراتبهم البائس مليما في نهاية الشهر.

ليست التجمعات أو العصابات ـ بالمفهوم الخلدوني للعصابة ـ في دول المزارع العربية تجمعات تهدف إلى توسيع قوة الفرد ومجال فعله وتنسيق العمل داخل دوائر تتوسع شيئا فشيئا حتى تبلغ مرحلة الدولة والمؤسسات كما هو الحال في الدول المتقدمة  بل هي أنساق مغلقة لمجموعة من الأفراد تجمعهم مصالح مشتركة وأطماع فردية هرمية تمتد من الأعلى إلى الأسفل بحسب ما يخص نصيب النهب لكل فرد من أفراد العصابة. 

تجمع العصابات يشغل كل القطاعات الممكنة في الدولة المتخلفة من عصابات المال والبنوك إلى عصابات السياسية أو عصابات الدين أو عصابات النضال أو عصابات الجنس أو عصابات المخدرات أو عصابات الإدارات. العصابات في كل مكان في السماء والبر والبحر من عصابات الثروة البحرية إلى عصابات النفط والغاز مرورا بعصابات الخشب والحديد إلى عصابات الموانئ والمطارات وعصابات السكر والمواصلات وعصابات التهريب والتزوير... أنت محاصر تتنفس ريح العصابات. تلاحقك عصابات الأطباء وعصابات الأدوية وعصابات التعليم الخاص وعصابات الماء والكهرباء. اخترْ واحدة فلا بد لك من واحدة تنجيك لأن منطق العصابة يفرض ـ كما هو حال العصابات الايطالية ـ وثاق الدم أو رباط الموت الذي يسحق من يغادر العصابة وتدافع حتى الموت عن أبنائها.  

أمك "الحفيانة" يا أستاذي الكريم والتي تشبه أمي وأمّ كل الأحرار في أرضنا تونس وفي أعماق الفقر والتهميش لن تزورها نُخب العار ولن يلتفت إليها "الدكتور" الحقوقي ولا "الشيخ التكتاك" ولا عصابة نوبل الأمريكية ولا الرجل الموازي في قصر قرطاج،  إلا بالقدر الذي يمكن أن تضيفه لرصيدهم النضالي المزيف أو ما تكدسه من نوايا انتخابية لحفلة التزوير القادمة.  

نضال ما بعد الثورات هو عند النخب التونسية رصيد أقرب إلى مرض الظهور وحب السلطة وتعفن الأنا منه إلى من الوعي بالأمانة ونكران الذات وكفّ المقربين عن الأذى مثلما علّمنا أحرار تونس الذين جاهدوا ورحلوا في صمت. 

رحم الله "اليَحْياوِيَّيْن"، القاضي الكبير "مختار اليحياوي" ابن قصر الحدادة من ولاية تطاوين الأبيّة و ابن أخته "زهير اليحياوي" شهيد الفضاء الافتراضي وشهيد أقبية التعذيب في وزارات "بن علي". ورحم الله المناضل عبد الله الزواري ابن مدينة جرجيس الصامدة رمز الحركة الإسلامية التونسية الذي التحق بجوار ربّه صابرا محتسبا وابنه عاطل عن العمل لأن أباه لم ينصّبه وزيرا ولا سفيرا ولا واليا.