قضايا وآراء

الحريات الأكاديمية ضرورة لتقدم الجامعات العربية

1300x600
من يُطالعُ التقارير الدولية الخاصة بترتيب الجامعات في العالم، ومنها تقرير جامعة شنغهاي  السنوي، يشعر بحزن كبير عن حال الجامعات العربية وتدنّي موقعها في مراتب جامعات العالم.. وللمرء أن يتساءل لماذا صعب على جامعاتنا العربية أن تتطور لتدنوَ من الجامعات المتقدمة، حتى لا نقول تلتحق بها، وتُناظِرها في الترتيب؟
 
ثمة مصادر عديدة مسؤولة عن تقدم الجامعات أو تأخرها، كما أن هناك معايير تُقاس على أساسها مواقع الجامعات ومراتبها، وهي واضحة ومعروفة دوليا، ومنها مدى استقلالية الجامعات، ومقدار ممارستها للحريات الأكاديمية التي توافقت عليها الوثائق الدولية ذات العلاقة، منذ مؤتمر"نيس" الفرنسي عام 1950 تحت إشراف اليونسكو، مرورا بالإعلانات العالمية كافة، الصادرة لِحاقا في: "بولونيا" 1988، دار السلام 1990، "كمبالا" 1990، "ليما" 1991، وSienne 1992.

والواقع أن هناك علاقة تلازمية بين استقلالية الجامعات وتمتعها بالحريات الأكاديمية، وفي صدارتها؛ "الحق في البحث العلمي والحرية فيه، وضمان الاستقلالية تجاه أي ضغط سياسي، وضمان تحقيق واجب الجامعة في الارتقاء عبر التعليم والبحث، ومبادئ الحرية، والكرامة، والتضامن الإنساني، وتطوير أشكال التعاون المادي والأدبي كافة على الصعيد العالمي.

 تقتضي الموضوعيةُ عدمَ وضع كل الجامعات العربية في سلّة واحدة، وإصدار حكم واحد في شأنها، فثمة تفاوتات وتباينات من بلد إلى آخر، وربما من جامعة إلى أخرى داخل القطر الواحد، ثم هناك اختلافات بين الجامعات الحكومية والجامعات الخاصة. ومع ذلك، حين ننظر إلى حال عموم الجامعات العربية في مرآة الجامعات العالمية المتقدمة، نستطيع الجزم دون تردد أن ثمة قواسمَ مشتركة بين الجامعات العربية تُفِّسر تدنيها في الترتيب العالمي للجامعات.

جدير بالتأكيد أن الحريةَ الأكاديمية تتحقق حين يكون في مُكن أفراد المجتمع الأكاديمي من أعضاء هيئة تدريس وطلاب ممارسة حريتهم الكاملة في تداول المعرفة، دون خوف أو وَجل، أو إحساس بضغط  من أية جهة كانت. والحرية هنا تطال أوسعَ مجالات العلم  والمعرفة والبحث، بما فيها ضمان  عدم تدخل أية سلطة إدارية أو سياسية في مضامين المقررات والخطط الدراسية، وصيانة حق الطلاب في إبداء آرائهم بحرية في ما يدرسون، سواء بالقبول أو الاعتراض،..ما يعني عدم إجبارهم على التقيد بمنهجيات التلقين والحفظ واجترار المعلومات، بهدف اجتياز الامتحانات ليس إلا.

يشكو ضعف الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية، وإن بدرجات متفاوتة، من مجموعة من المُسبِّبات، من أبرزها البنية القانونية الحاضِنة لها، والعلاقة الملتبسة بين "المجال العلمي والأكاديمي" و"المجال السياسي". 

فالحاصل أن مجمل الدساتير العربية لا تتضمن أحكاما قطعية وصريحة عن الحرية الأكاديمية، وقليلة منها نصت عليها، كما حصل  في الدستور  التونسي الأخير لعام 2014، علاوة على أن التشريعات والقوانين المنظمة للجامعات تتضمن الكثير من القيود التي تعوق تحقيق الجامعات لاستقلاليتها، بوصفها شرطا لممارسة المجتمع الأكاديمي حرياته كاملة. 

فقد بينت عديد الدراسات كيف أن الاستقلال العلمي في الجامعات العربية محاطٌ بصعوبات تُعقد إمكانية تحققه في الممارسة، سواء في ما يخص حرية المناهج والمقاربات، أو في ما يتعلق بمضامين المساقات والمقررات، ويظهر ذلك جليا في المؤسسات الجامعية الاجتماعية والإنسانية. 

ثم إن الحرية الأكاديمية تحتاج إلى درجة معقولة من الاستقلال المالي، الذي يتيح للمجتمع الأكاديمي، أي للباحثين، ممارسة حريتهم البحثية تفكيرا وإنجازا. وللمرء أن يتساءل عن نصيب الجامعات والبحث العلمي من الميزانيات العامة لكل بلد عربي. فدول صغيرة مثل اليونان أو إسبانيا أو كوريا الجنوبية أو ماليزيا، تخصص للبحث العلمي نسبا تفوق ما تخصصه البلاد العربية مجتمعة، بدليل أن ما تنتج هذه البلدان علميا ومعرفيا سنويا يفوق ما تحققه نظيراتها العربية.

إن أخطر ما أصبحت تتعرض له الحريات الأكاديمية في كثير من الجامعات العربية، لاسيما في الدول التي تشهد توترات وقلاقل، تلك الضغوطات المتصاعدة باسم "الطائفية"، و"المذهبية"، والصراعات العرقية واللغوية والدينية.

لذلك، ليس مفاجئا أن تطال سلسلة من الاغتيالات كثيرا من العلماء والأكاديميين، وأن يضطر عديد منهم على الهجرة من أوطانهم، أو في أهون الأحوال أن يُرغَموا على إسكات أصواتهم وتوجيه اختياراتهم البحثية وجهات أخرى لا تعكس رغباتهم ولا إراداتهم..لعل حالة العراق خير شاهد على محنة الحريات الأكاديمية في المجال العلمي العربي.

والحقيقة أنه ليست النصوص القانونية وحدها المسؤولة عن ضعف الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية، بل ثمة  أسباب من طبيعة ثقافية، تتعلق بعلاقة " المجال العلمي والأكاديمي "بـ" المجال السياسي، وحدود استقلالية كل واحد عن الآخر. 

فمن الواضح أن المجال العلمي والمعرفي لم ينل حظه من الاستقلالية بما يكفي، وأنه يحتاج إلى خطوات جريئة وشجاعة لكي يفك ارتباطه بالمجال السياسي، ويستطيع الاشتغال بحرية، ودون ضغط أو توجيه أو إكراه.

إن العلاقة بين مُنتِج المعرفة وصانِع السياسات موجودة ومطلوبة، لكن لابد في الوقت ذاته من توفر مناخ ثقة وتعاون واعتراف متبادل، بما يسمح للعلماء وصناع المعرفة من ممارسة حرياتهم دون تبعية، ولا خوف، ولا شعور بالضغط بكل أنواعه.