كتاب عربي 21

المواطنة الصهيونية والوطنية المتصهينة!!!

1300x600
كتبت من قبل عن المواطنة المصرية "قراءة في دفاترها"، وتابعت وسجلت مشاهد كثيرة ومتنوعة مما أسمته زميلة عزيزة بـ"الزحف غير المقدس": زحف الدولة على مساحات الوطن وحياة المواطن، ومجالات الدنيا وقدسية الدين، وخلصت إلى تأكيد مقولة الشاعر أحمد مطر الشهيرة: الفرد في بلادنا مواطن.. أو سلطان.. ليس لدينا إنسان.

لكن كما يقولون كانت الأزمة "في بيتها": ظلم واستبداد، واستئثار بالبلد من بعض أبنائها على أهلها، ونفوس فاسدة وعقول كاسدة ترى الحرية فوضى، والحقوق عبئا ثقيلا، وكرامة المواطن خطرا على الوطن، وكنا ولا نزال نرى ذلك ظلمات بعضها فوق بعض، وسبيلا للتراجع والضياع. ومن ثم جاءت الثورة أملاً وفتحًا لتخليص مصر وإنسانها من هذا الهم الثقيل.

ولما وقع الانقلاب الإجرامي توقعنا أن ترجع السيارة إلى الخلف، وتنقلب الأحوال لسابق عهدها: استبدادًا وعسفًا، وتخلفًا وفشلاً، وفسادًا ونهبًا.. هذه الثلاثية التخريبية المعهودة، لكن من الواضح أن انقلابا عسكريا بعد ثورة عظيمة كثورة يناير، وحرية وكرامة وعدالة تراءت في أفقها على النحو الحضاري الذي كانت تباشيره تبتسم لنا.. لا يمكن إلا أن يكون انقلابا شاملا بعيد الأغوار، وينبغي أن نتوقع منه ما لا يخطر على بال.

من ذلك ما نراه من انقلابات تذهب بالعقل في ملف المواطنة والوطنية المصرية.. إنها تتجه اليوم إلى نمط غير معقول مما يمكن – بحق - وصفه بالمواطنة الصهيونية والوطنية المتصهينة. ولعل مدخل "المشاهد والشواهد" يكون أكثر تعبيرا عن المقصود من الشرح بالكلمات.

فلا يخفى على أحد أن سيناء –أرض الفيروز والشهداء والانتصارات والتضحيات- صارت محتلة احتلالا عسكريا مصريا (!) على طريقة تيموثي ميتشيل في كتابه (استعمار مصر)؛ والذي شرح فيه كيف تدير الدولة المصرية شئون المجتمع إدارة استعمارية امتداد للاستعمار الأجنبي وأشد.. وكيف يحاصر أهل سيناء فيها بين القمع والقتل والهدم والتخريب والتنكيل والتعذيب بعد التخلف والتغييب، بينما يرتع فيها السائحون من حدب وصوب وعلى رأسهم من غصبوها من قبل وأراقوا على أرضها الدم المصري: الصهاينة. كيف يطلق المنقلب الغادر أسلحته على المواطن المصري بكل قسوة فيما يحرص على التطمين العلني والمتكرر للصهاينة؟ كيف يحاصر بدم بارد غزة ويقتل مقاومتها ويشارك في محاولات تركيعها ويقتل أتباعه الشاب الفلسطيني الذي حاول مجاوزة حد مائي، ويغرق أنفاقها ليحبسها حبسا مشددا، فيما هو يفتح أبواب البلاد مشرعة للصهاينة؟

مشهدان متوازيان ومتزامنان: مشهد الدكتور الكتاتني الرئيس الشرعي لبرلمان الثورة المجهض، وقد بدت على وجهه وجسمه آثار السجن والتنكيل، وغيره من أبطال الثورة العظام: مجدي قرقر، والمستشار الخضيري وعاكف وأحمد أبو بركة وعصام سلطان وإسراء الطويل قبل الإفراج عنها..، الذين رمى المنقلب بهم في غيابات السجون، في مقابل مشهد الجاسوس الصهيوني عودة الترابين الذي يخرج من السجن بعد أن ظل فيه –وفق كلامه- معززا مكرما على طريقة تكريم المخلوع في سجنه الوهمي، وقد بدت عليه العزة والكرامة، ويستقبله النتن-ياهو استقبال الأبطال الفاتحين، ويتحدث متعجبا وآسفا عما يجري للمواطنين المصريين في سجون مصر، ما جعل الناس تتمنى لو كان المصري مواطنا صهيونيا.

ومن العجيب أن يقال إن الجاسوس قد حرر في صفقة استلمت مصر بموجبها ثلاثة مواطنين كانوا يتاجرون بالمخدرات!

ومن ثم لا عجب أن يتم تبرئة من باعوا ثروات مصر للصهاينة وتعاد إليهم أماكنهم ومكانتهم وأموال الوطن التي نهبوها، بعدما نفد الغاز لصالح الصهاينة بثمن بخس سنتات معدودة، ثم تتحول الوطنية المصرية إلى استيراد الغاز من الصهاينة بأضعاف مضاعفة، ثم نتلقى بكل دم بارد أن الكيان الصهيوني قد حصل على حكم دولي بتغريم مصر 1.7 مليار دولار لإضرارنا بهم في قطع إمدادات الغاز المنهوب، ثم تجري المساومات على الوطن، وبمعرفة حماة الوطن ورعاة الوطنية. إن الوطنية المتصهينة وقعت اتفاق استغلال الغاز في شرق المتوسط تحت شروط صهيونية ممنوعة من النشر.

الوطنية المتصهينة هي التي تقدم بدم بارد وعين متبجحة على التصويت لإسرائيل في لجنة الاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي بالأمم المتحدة. ثم تكون الذريعة أدهى وأمر: أنه كان مع إسرائيل في القائمة التي تم التصويت عليها ثلاث دول عربية أخرى، ونسوا أن من هذه الدول قطر صاحبة قناة الجزيرة التي أشبع وزير الخارجية ميكروفونها ضربا، ويخرج المتحدث باسم الخارجي ليقول لنا: إجراء عادي.

الوطنية المتصهينة تُصهين وتتغافل عما يجري في القدس والضفة الغربية من عدوان الصهيوني المحتل على إخواننا، ثم لا تجد إلا أن تنبح على انتفاضة القدس، ثم تسمي رجالنا الشجعان ومرابطاتنا الحرائر الباسلات بالإرهابيين والإرهابيات وتمنح وصف الشهادة لقتلى العدو الصهاينة. إعلام الوطنية الصهيونية من الدرجة الأولى.

الوطنية المتصهينة تنتج المثقف الذي يعزف على الوتر الصهيوني ذاكرا أن سيده المنقلب اتفق معه بليل على مؤامرة تغيير الوعي بالأقصى، والأكاديمي الذي يتسلل إلى جامعة حيفا الصهيونية ليبشر بموجة جديدة من التطبيع المتصهين، والشيخ الذي يساعد الصهاينة على تحسين الصورة، والقسيس الذي يجاهر بزيارة غريبة إلى القدس المحتلة لا يدري أحد ما دافعها ولا جدواها.. والمغني الذي كف عن أغنيته الشهيرة: أنا بأكره إسرائيل.. وأقولها لو أتسأل، وإن شاء الله أموت قتيل وأخش (أدخل) المعتقل.. نعم الكلام معبر عن أن الوطنية تصهينت، والمواطنة تصهينت، ومن قال غير ذلك فإما أن يعتقل أو يموت قتيلا.

حديث هيكل الأخير –ولعله يكون الأخير حقا- ليس فيه سوى أن الأمر صار بيد الكيان الصهيوني في المنطقة، مع حضور إيراني وتركي فقط. أما مصر فلا تملك شيئا، والعرب لا يملكون شيئا، فالإقليمية تتصهين، والأمن القومي العربي صار بيد بني صهيون.

النتن-ياهو يخاطب النخب الغربية الرافضة لسياسته الاستيطانية والاعتداءات على القدس والأقصى: هل أنتم أقرب إلى الفلسطينيين من العرب والمصريين، إنهم يوافقونني على محاربة الإرهاب الفلسطيني، ويحاصرون حماس ويحاربونها أكثر مني؟! لم يصدق الصهيوني بعد أن بيننا من اتبع السنن، وتصهين وراء الصهاينة، حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل، شبرا شبرا وذراعا ذراعا!

إن التماهي مع العدو الصهيوني إلى هذه الدرجة والانتقال من الكنز الاستراتيجي إلى البطل القومي، ومن الانتماء الوطني إلى الارتماء المتصهين في حالة انبطاح استراتيجي يعني أن ننتبه للرسالة الكبرى:

الثورة هي الحل، الثورة يجب أن تبقى مستمرة، الثورة طوق نجاة، الثورة وطن ووطنية، ومواطنة مصرية، وقومية عربية، وهوية إسلامية حضارية.