كتاب عربي 21

الثورة ليست بسماحك

1300x600
في حديث المنقلب الأخير وردا على أحد الأسئلة قال منفعلا ومحتدا "أنه لن يسمح بثورة أخرى"، وهو بذلك لا يفهم بأي حال من الأحوال ما ذا تعني الثورة ولماذا تحدث؟ ولكنه وفقا لتصوره في صناعة ما يمكن تسميته بالثورات الزائفة والتي في حقيقتها ليست إلا ثورات مضادة، فإنه لا يفهم إلا أن يكون ذلك الأمر من صناعة يده أو بسماحه من عدمه، وهو بذلك يتجاهل حقيقة إرادة الشعوب في الثورة وربما لا يقيم لها وزنا، إنها الفكرة الأبدية للعسكر في تصورهم لشعب يُقاد أو ينقاد.

إن الثورة إن كنت تفهم؟! هي عمل يتعلق بإرادة الناس تقودها مجموعة تتسم بالوعي وتحس بالظلم فينحاز إليها الشعب بأسره ويحتضن فعلها الثوري، ويشكل الشعب بتنوعاته ظهيرا داعما لها وشلالا رافدا لفاعلياتها، الثورة طاقة إرادة وطاقة فاعلية وحشد واع وقدرة إيجابية طلبا للتغيير وتحقيقا لتحولات ضرورية بعد أن سادت شبكات الفساد والاستبداد وتمكنت، وانسدت قنوات التعبير والتغيير وحوربت، فيؤدي ذلك إلى حالةِ وعي تترجم في حالة ثورية إلى لحظة تنفجر فيها الثورة، ومن ثم فإن الثورة لا تكون بالسماح من أحد أو بتمرير منه أو أنها صناعة مدبرة كما حدث في بعض مشاهد الثلاثين من يونيو، والتي أعقبها انقلابا تدثّرَ بعد ذلك بغطاء شعبي مصطنع حاول من خلاله أن يمرر انقلابا يشكل عنوانا للثورة المضادة.

"الثورة ليست بسماحك"، ولكنها فعل إرادي تتكتل فيه القوى وتحشد فيه الطاقات الرمزية والنوعية فتحقق أمل الناس وأشواقهم وتحاول أن تتلمس ضروراتهم ومطالبهم، وتعبر عن كل ما يتعلق بالعزة والكرامة معنويا وبطاقات القيم الإنسانية في الحرية والعدالة وفي مطالب عموم الناس بالعيش الكريم، إن لقمة مغموسة بالحرية لا مغموسة في ذل العبودية فيها مطلبه ومأمنه.

إلا أن عقل المستبد الضيق وعقل العسكر الأضيق قد يتصور أنه بمزيد من القمع والترويع وتدبيج عقلية القطيع وإشاعة كل أشكال التفزيع هو الكفيل بمنع الثورات ووأدها في مهدها، وهذا التصور إنما يكمن في حال المستبد الذي يحاول صناعة الخوف وصناعة اليأس ويحرك كل عناصر صناعة الفرقة وصناعة الفوضى، المستبد يحيك كل هذه العناصر والخيوط مع مساندة من سدنته لتقوية سلطانه وترويج وتبرير طغيانه، من هؤلاء الذين يساندونه في بطشه من أجهزة أمنه وقمعه، ولسان الزيف الذي يدعمه من إعلام تزويره وإفكه، سيظن المستبد في هذه الحال أنه قد نجح واستقر ويسير في غيه وظلمه المستمر، ولكنه في حقيقة الأمر ينسى أن وعي الناس وطاقة تحمل الظلم والاستعباد هي من الأمور قصيرة العمر والتي لا يمكن أن يستند فيها المستبد إلى استقرار حكمه واستمرار ظلمه، والأمر المؤكد أن مؤسسات الظلم تلك ضمن متوالية الظلم والطغيان والقمع والترويع لا يمكنها أن تؤسس لمجتمع مستقر حتى وإن طال الزمن، وأن مساحات الغضب تزداد ومصانع الاحتجاج تتراكم وحالات فشل النظام تتضاعف.

إن درس ثورة يناير في وطننا مصر يعبر عن أبلغ رد على هذا الحمق السياسي والقمع الأمني والقول الغبي بأنه لن يسمح بثورة، وكأنه في طاقته أن يصادر شعبا بأسره ويكمم أفواهه ويقطع الطريق على كل احتجاج يمكن أن يقوم هنا أوهناك، وظن هؤلاء بمنظومة غبائهم أنهم يستطيعون أن ينهوا إرادة شعوبهم ويئِدون ثوراتهم، ذلك أن الشعوب حينما تعبر عن إرادتها الواعية إنما تشكل مع توفيق من الله سبحانه وتعالى ليتم التغير بكل مكنوناته وإمكاناته، فيكون ذلك ترجمة حقيقية لسنة إلهية "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، فإن جذّوة التغير وفعل التثوير إنما يشكل طاقة حقيقية ولدتها ثورة يناير لم يعد من الممكن لأي كائن من كان أن يحجبها أو يعيدها إلى الوراء.

قد يعتقد المستبد حينما يشيّد حواجز وجدران الخوف وعمليات الترويع والتفزيع، وحينما يصنع مصانع الإحباط وإشعار الشعوب بعجزها فإنه بذلك قد استقر سلطانه، ولكنه لا يفهم أن للضعف سقفا وأن للقوة والاستبداد سقفا، وأن الإحباط قد يتمكن إلى حين ولكنه يتبدد بفعل صناعة الوعي وتمكين الأمل، إن هؤلاء الذين دُعوا إلى "إفطار العائلة" من المنقلب المستبد ورفضوا دعوته من اتحادات الطلبة في مصر، إنما تعبر في حقيقة الأمر أن شعبا لا يمكنه أن يتغافل عن مظالمه وأن أناسا لا يمكنهم أن يتنازلوا عن أشواق حريتهم.

وجه الطالب رسالة إلى المنقلب "وصلتني دعوة سيادتكم لحضور إفطار الأسرة المصرية بصفتي رئيسا لاتحاد طلاب جامعة حلوان ، هذه الصفة التي لولاها لكنت ما بين سجين رأي أو مطاردا وربما مجهولا والأقرب أنها لن تشفع لي بعد تلك الكلمات لأكمل ما تبقى من شهر رمضان الكريم مع أسرتي". وأضاف أن الأسرة المصرية تصوم وتفطر أمام الأقسام والسجون والنيابات، "لمعرفة مصير ابن أو أب لم يقترفوا أي جُرم ، فقط اعترضوا علي رؤية سيادتكم التي اعترفت أنت شخصيا بأن 90 مليون مصري غير راض عنها" وعن حال الأسر المصرية قال "الأسرة المصرية سيادتكم تنتظر رصاصة الرحمة من وزاره الحالات الفردية ، أو حكم قاس من منصة العدالة ، أو الهروب من سياج القهر والاستبداد والغلاء".. أنه إذا كان لديه الوقت لحضور الإفطار، سيتناوله مع من يقولون أن جزيرتي تيران وصنافير مصرية، والقدس عربية، ومصر دولة ووطن.

ستظل هذه الخمائر للعزة والحرية تنمو وتتراكم لتتشكل في حالة وطاقة ثورية ساعتها يمكن أن يفهم ولكن بعد فوات الأوان فيكون من المغرقين، ألم يعي كلمة علي زين العابدين في تونس "فهمتكم"، أم أنه سيظل يكابر تارة بغطرسته وطغيانه وتارة بإفك إعلامه أن حال ظلمه سيستمر أو يستقر أو ثورة تمر بسماحه وتقف عند رغباته، الأمر ليس على هذا النحو فليس بسماحك تكون الثورة وليس برغباتك يأتي التغير، ولكنها سنن الله الماضية وعمل الواعين بالثورة والأخذ بأسبابها فتكون الثورة آتية لا ريب فيها، فهل فهمت أم أنك لا زلت تقول أن الثورة تكون بسماحك.

إن ثورة مضادة قمت عليها من خلال تحالفاتك الدنيئة والقميئة في دولتك العميقة الغميقة إنما تعبر في حقيقة الأمر عن كشف حقيقة المعركة في ثورة قادمة، معركة الأمل الفسيح والعمل الثوري الفعال، معركة النفس الطويل، معركة ونحن على عتبات الست سنوات عرفنا لها حقها وأدوات إدارتها، عرفنا الغادر والمنافق، عرفنا المزور والمبرر، عرفنا صاحب المصلحة الدنيئة وأصحاب المواقف الشريفة رأينا الفرز في مقامات عدة وعرفنا أن ثورة يناير لم تكتمل، وأن عناصر اكتمالها هي في زعزعة أركان استبدادك ومهاجمة أوكار فسادك، وأن استرداد الثورة ضرورة أمة وشعب ووطن، وبناء دولة يناير في مصر الجديدة صناعة مستقبل، يا هذا إن كنت قد فهمت فقد فهمت، وإن تغابيت فإن الثورة ليست بسماحك.