قضايا وآراء

عندما لا يكون العدلُ قبل السِلم.. نشهد "العادل المستبد"

1300x600
 لقد ابتلينا في عصرنا هذا الذي نعيش فيه؛ ليس فقط بأفراد في مجتمعنا الإنساني بشكل عام، بل بقادة وقيادات كانوا هم الهدامون الحقيقيون لكرامة الإنسان وشخصيته وأمنه واستقراره. ومما يزيد المشهد فظاعة أن يكون هؤلاء هم من يحملون لقبا مزدوجا متمثلا في "العادل المستبد"، ومنهم من يقود الإنسانية في مختلف دوائر مسؤولياته، ويحمل شخصية ازدواجية تجمع بين الأضداد، فكيف للعدل والاستبداد أن يجتمعا؟
 
وأين السلِم في العالم الذي نعيش فيه؟
 
كم رأينا وسمعنا عما يحدث من إزهاق للأرواح في الشرق والغرب بل في كل أرجاء المعمورة؟ وهل هناك أسوأ ممن يُكفّر ويفتي بإزهاق الأرواح والممتلكات لبني الإنسان؟ وهل هناك تشويه وبُعد عن صورة الرحمة العالمية للدين الإسلامي الحنيف أبلغ من أن يمسك أحدهم سلاحه أو سيارته أو أي وسيلة ليقتل أخاه في الإنسانية بغض النظر عن عقيدته وعرقه وخلفيته؟ وهل ثمة اختلال عقلي أو فكري أو كلاهما أبلغ ممن يفعل ذلك مدعيا أو مدسوسا من تنظيم أو فكر إرهابي مثل "داعش"، أو ما يشبهه، ومن أسس البنى التحتية من مال وسلاح، بل من مصادر وقنوات تسليح وتمويل وتدريب واتصالات معلوماتية وتقنية وغيرها؟ وكم نُدين هذا الفكر، ومن ثم الأعمال البغيضة التي ذهبت بالأرواح شرقا وغربا، بل أهلكت أمة الإنسانية في عقر دارها ومقصدها الإنساني.

ذلك من أشد ظلم الإنسان لأخيه الإنسان!!!

وفد تعلمنا من القرآن الكريم أن الهدف الأساس من إرسال الرسل ورسالاتهم السماوية هو دفع الظلم وإقامة العدل: (لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد.

وهناك من يدفع الكرة في مرمى أمة الإسلام منتقدا أو مشوّها أو كليهما، كما أننا نحاول جاهدين – ولا ننزه أنفسنا بل نخطئ قبل إن نصيب – أن نقيّم بعدل وحكمة وما أوتينا من علم بسيط لنقول ونعترف أن هناك فكرا ضالا وعملا لا يقره ديننا الحنيف الذي هو رحمة للعالمين، وفي الكفة نفسها من ميزان القسط لا بد لنا من إحقاق الحق في التقييم، ونسأل أسئلة ونذكر بحقائق تدور ربما في أذهان الكثيرين على حسب تدرجهم في فقههم لواقعنا، نجمل هنا بعضا منها:

أليس ما نعيشه اليوم وعانينا منه آنفا ونعاني منه حاليا؛ وكل بني الإنسانية هو نتاج قيادة الذين يمتشقون بزة العدل لإرضاء خاصتهم أو شعوبهم التي انتخبتهم، بينما يمتطون فرس الظلم والبغي والفساد خارجيا مؤسسين لنظام الغابة، ممثلا في أن الغاية تبرر الوسيلة مهما كانت منحطة؟! أليس هناك مجلس أمن لا يعمل بالقسط في تركيبته ولا في آليات عمله، بل تتمثله شهادات البغي والظلم، وعلى الأخص فيما يختص احتلال فلسطين، وكثير من قضايانا الإنسانية العادلة؟! أليست هناك قرارات للأمم المتحدة تُطبق على البعض، ولا يتم تطبيقها على البعض الآخر المدلل، كما هو حال فلسطين وغيرها؟!

وهناك سايكس بيكو القديمه في 1912 (وبشكلها الجديد الذي نشهد)، وما نتج عنها من تقسيم وتجزئة لوحدة أمة، ووعد بلفور الملعون الذي زرع الكيان الذي شرد أمة بحالها ومن حولها.
 
وهناك الهجوم النووي على هيروشيما وناغازاكي الذي شنته الولايات المتحدة ضد الإمبراطورية اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية في آب/أغسطس 1945، وقتل فيه 140.000 شخص في هيروشيما و80.000 في ناغازاكي غير النتائج المدمرة نفسيا واجتماعيا وصحيا وبيئيا، إلخ.
 
وإذا تداعت لك صورة الحرب في فيتنام ومشاركة الولايات المتحدة فيها، فيكفي أن نتذكر مليونا ومئة قتيل من الفيتناميين و13 مليون لاجئ، فيما قتل للأمريكين أقل من 58 ألفا.
 
أمة في فلسطين شردت وقتل أهلها وهتكت الأعراض وأهينت المقدسات وأخذت عنوة من أهلها، بل ترتكب في حقهم أبشع صنوف العنصرية والإذلال والاستيطان العنصري الإحلالي البغيض.. مجازر ومذابح وحشية وقنابل فسفورية وعنقودية وانشطارية .. أسرى في السجون من الأطفال والنساء والكبار دون حقوق إنسانية .. حواجز فصل عنصرية .. إهانة كرامة الطفل والمرأة وكل الإنسان على مسمع العالم كله.
 
ولا تنس سجن أهل غزة في سجن عالمي يُحاصرون فيه بمياه هندس لها لتطوق غزة الأبية، وكل ذلك بتحريض من عدو وبتنفيذ من شقيق محسوب على المسلمين.
 
واستمرت قضية فلسطين مع دخول القرن الواحد والعشرين الذي تعاظم فيه سفك الدماء، وانتهاك الحرمات وفي حرب ظالمة فتاكة تشهد الإنسانية كوارث نتائجها على مستوى المعمورة كلها .. حرب قادها مجرمان كانا في سدة القرار في دولتين من دول العالم العظمى فأهلكا فيها مئات الآلاف من القتلى وشردا الملايين، ولا تنس ما قاما به من إذكاء فتنة طائفيه لعبا عليها والتقت مع رؤية إيرانية طائفية حاقدة.
 
وكيف يمكن أن يمهل الله المجرمين ومن يشترك معهم في ترويع وتشريد 83 ألف من أهل الفلوجة في الطرق الصحرواية وفي الأيام الفضيلة من شهر رمضان الماضي؟ كيف تقبلها المسلمون وهم يصومون رمضان ويفطرون في ظل إعلام مسيّر فاسد وأجواء بعيدة عن روح التقوى التي هي مناط الصيام؟!
 
وقد استنزفت دماء الأبرياء في سوريا، وأهلك الحرث والنسل والشجر والدواب في حروب داخلية خارجية وطائفية و"خوارجية" متعددة الأهداف، ولكنها تصب في مقصد واحد تعكسه سياسة "فرق تسد".
  
وتداعت اليمن من جهة رئيس مخلوع قاد البلاد للهلاك مترابطا متعاضدا مع طائفية حاقدة خيل لها أنها خدعت شعوبا، بجعل سلم أولوياتها في الظاهر تحرير القدس وفلسطين!!
 
ولن ننسى شعوبا وأنفسا أزهقت في أفغانستان وباكستان وكشمير. وهل ننسى الظلم على أهلنا الروهينغا في ميانمار؟
 
وماذا عن أهلنا الإيغور في الصين، وهم يحرمون في الصين من أبسط حقوقهم، في الوقت الذي يتشدق فيه رئيسهم ووزير خارجيته بالحديث عن مشروع طريق الحرير!! فهل يمكن أن يلتقي طريق الحرير مع طريق الظلم؟!
 
وتزداد الصورة قتامة وحلكة في الظلام عندما تعلم أو نذكر ببعض إحصاءات من بعض مؤسسات الأمم المتحدة:
 
%5 من سكان العالم هم مدمنو مخدرات بتعداد - ليس حديثا - يقارب 243 مليون نسمة، وفي كل عام يموت حوالي 200 ألف إنسان بسبب المخدرات، في حين أن ثلث مدمني المخدرات هم من الولايات المتحدة الأمريكية، وربع سكان أوروبا يتعاطون المخدرات، وثلث متعاطي المخدرات في العالم هم من النساء، بينما 8% من التجارة العالمية ترجع في قيمتها إلى المخدرات.
 
وأن في العالم الذي نعيش - في القرن الواحد والعشرين - حوالي 65.3 مليون نسمة أجبروا على الخروج من بيوتهم، وقد بلغ تعداد اللاجئين على أقل تقدير حوالي 21.3 مليون لاجئ أكثر من نصفهم دون سن الثامنة عشرة. وهناك 34 ألفا يجبرون على مغادرة منازلهم يوميا بسبب النزاعات والاعتقالات.
 
وما يندى له الجبين أن نعلم أن أكثر من 10 ملايين شخص لا يحملون أي جنسية، ومحرومون من حقوق التعليم والصحة والعمل وحرية التحرك مثل باقي إخوانهم في الإنسانية.
 
وكيف للإنسانية أن تتخلص من الجريمة والأمن والاستقرار والفقر والجوع والأمراض والأمية والجهل وأكثر، في حين يملك 85 شخصا يملكون نصف ثروات العالم، و20% يملكون 75% من الثروة، بينما يحصل40% من أفقر سكان العالم فقط على 5% من الدخل العالمي، فيما عائلات معروفة عالميا تسيطر على الإعلام والاقتصاد وسوق المال، قبل أن تسيطر على السياسة وتسوق الأخلاق إلى الهاوية في كل منحدر سحيق في تسارع؟
 
وهل يمكن للإنسانية أن تتقدم وتزدهر فرديا وأسريا واجتماعيا ودوليا وأمميا وقادتها يعبدون شهواتهم، ولا يوحدون في عبادتهم لخالقهم الواحد الأحد؟ ليس فقط من هم في صف القيادة العليا، بل كل من هو راع ومسؤول عن رعيته وضاع في عبادة شهواته بدل أن يكون أمينا وخليفة حقا من خلفاء الله في الأرض.
 
وأختم القول بآية لو فهمها وعقل المناط منها هؤلاء في ازدواجية عدلهم واستبدادهم، لكان حال العالم غير ما نحن عليه: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) الفجر).
 
 وحتى نفهم مناط تلك الآية، فلا بد لنا أن ندرك أنها جاءت جواب قسم "الفجر"، وما عطف عليه من آيات تضمنت مناسك وصلوات تخص الخضوع والعظمة للخالق سبحانه. ذلك الفجر الذي منه ينشق النهار من حلكة ظلام الليل، ولكن جاءت بعدها آيات كريمات فيها استفهام يذهل الظالم المستبد: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) الفجر).
 
فهل من مدّكر ليعلم مآل أمثال قوم عاد وثمود وفرعون؟ فلا يمكن للسلم أن يبسط ذراعيه قبل أن يحل ويسود العدل، مهما طال أمد الظلم والاستبداد والطغيان فإن الله لبالمرصاد.
 
رحم الله أمة الإنسانية وأسدل عليها ثوب العدل، ليحل السلم والأمن والأمان.