كتاب عربي 21

في ذكرى الحرب.. الشهداء من مدخل شخصي

1300x600
ربما لم أكن قد أكملت السنة الثانية عشرة من عمري حينما بدأنا نسمع بيحيى عياش، القائد العسكري الأكثر شهرة في كفاح الشعب الفلسطيني في العقدين الأخيرين.

وحتى استشهاده في العام 1996، وفي السنوات الثلاث التي استغرقَتْها فترة مطاردته، نسجنا حوله الكثير من الحكايات، المتّشحة بثوب الأسطورة، والمسكونة بالحبّ العميق، والمحمولة على التشوق إلى لحظاته؛ أين هو؟ كيف يتنكر؟ كيف يتنقل؟ كيف يعدّ عملياته؟ وكيف يهيئ جنوده؟ وما علاقته بعمليات أسر الجنود؟

حتّى إذا استشهد، رفض كثير منّا أن يُصدِّق إمكان الرحيل عليه، ونُسجت مجددا حول غيابه الأساطير، وقد ظلّت روح الأسطورة تحلّ في ذكرياتنا عنه، حتى بعد أن سُجنّا والتقينا في الأسر برفاقه، وبالذين آووه ونصروه، وجالسوه وآكلوه، وعلى النحو القادر على الهبوط بأي أسطورة متعالية إلى واقع اللحم والدم، وإعادة تقديم البطل في إهاب الإنسان، وبالرغم من شغفنا بتحديد ملامح خيالاتنا حوله بالحكايات الحقيقية، والقصص الفعلية، فإنّ يحيى عياش ظلّ حلمًا حتى اللحظة، حلمًا مفعمًا بالجمال، وأسطورة نديّة بالحنين الذي لا ينضب.

إن مئات الآلاف الذين بكوه، والذين خرجوا في تشييعه، وفي مهرجانات تأبينه، والذين تداولوا حكاياته المتخيلة، ثم استمعوا إلى قصصه الحقيقية، لم تكن لهم أدنى علاقة شخصية به، ولكنه كان حلمهم، رجلهم، مطاردهم، بطلهم، بيد أنهم وكأنهم كانوا معه في كلّ لحظة، فطقس الاختفاء داخل الوطن مجلل بالسر المهيب، فرافقوه تحت كل سماء تخيلوها، وجالسوه على كل أرض افترضوها.

ثم لما استشهد بدا الحدث لكل واحد منهم شخصيًّا، ولأن الذين امتلكوا ذكريات حقيقية معه قلّة مهما كثروا، فإن ذكرياتنا مع يحيى عياش، تعلقت بأحوالنا التي كنّا فيها لما وقعت عملياته، أو لما استشهد؛ أين كنّا؟ وكيف تلقينا الخبر؟ وهل بكينا على الفور؟ وهل صدّقنا الخبر في اللحظة الأولى؟ وكيف شعرنا؟ وماذا فعلنا؟

وإذا كان يحيى عياش، حُلما مشتركا بين كل الفلسطينيين تقريبا، ومثالاً ممتازا على المدخل الشخصي الذي يضطر المرء إليه لمقاربة شخص الشهيد، لاسيما المؤثّر الفاعل، أو لتناول حدث الشهادة، وإذا كانت الجماهير قد محضته حبّها وأحلامها بما لم تهبه لغيره، لسرّ خفيّ، ولطبيعة اللحظة التي بزغ فيها، وللإلهام الذي شعّ منه؛ فإنّ نموذج الشهيد الحلم، والبطل الذي نشعر بأنه بطلنا، مُلْكنا، لا يزال قائمًا يتكرر.

ذلك النموذج هو الشهيد الذي نفيض حين الحديث عنه بالإسفار عن لحظاتنا المتخيلة معه، وبالكشف عن مشاعرنا التي شكّلها، وأحوالنا المصاحبة لذلك، إن في أيام جهاده الملهمة، أو ساعات اختفائه الساحرة، أو لحظة شهادته، أو في ذلك كله.

وهل يوجد ما هو أصدق من هذا الحديث الذي يبدو شخصيّا صرفا، ولكنه في الحقيقة كشف عن فعل الشهداء العميق، الذي تجلّى فينا عاطفة ومحبة وودًّا، وكشف عن تعويض الشهداء لآمالنا المكبوتة، وطموحاتنا التي رجوناها في أنفسنا وتحققت فيهم، ولم تتحقق فينا لضعفنا، أو عجزنا، أو قلة حيلتنا، أو جبننا، أو ظروفنا القاهرة؟! وهل هناك حديث عن الشهداء أعذب وأنقى من حديث العاطفة هذا؟! نعم، للتحليل العسكري ضرورته، وكذا التحليل السياسي، ولكن سيبقى المدخل الشخصي هو الأصدق والأعذب والأنقى.

في الحرب الأخيرة على غزة ارتقى أكثر من ألفي شهيد، لكنك تعلم أنه كان من بينهم، رائد العطار، ومحمد أبو شمالة، ومحمد برهوم، وكان هؤلاء قادة كبارا استشهدوا في لحظات الحرب الأخيرة، فيما بدا وكأنها الفرصة التي اغتنمها العدو الخائب ليقدّم فيها صورة انتصاره المصطنع، ولكنك تعلم عنهم أكثر من ذلك.

تعلم عنهم أنهم بدؤوا مسيرتهم، منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي، منذ أن كانت الرصاصة الفلسطينية عزيزة نادرة يكاد وجودها بيد الفلسطيني يقارب المستحيل، فكيف بما هو فوقها، ثم ظلّوا على عهدهم في سنوات القحط العجاف، وقد حُكم على رائد العطار بالإعدام في سجون السلطة، ثم لك أن تتخيل ثلاثة رجال، لم يتخلوا عن حلمهم، ولم ينحرفوا عن خطهم، أكثر من عقدين، حتى استشهدوا وهم يقودون الكتائب التي صنعت المعجزة في حرب العصف المأكول، بعدما قضى هؤلاء الرجال سنوات وهم يبحثون عن رصاصة.

قل لي بعد ذلك، وأنت الذي لم تلتق بهم، ولا تعرف تفاصيل جهادهم، ما هو أصدق الحديث، إن أحببتهم، وألهموك، وأردت الحديث عنهم؟! وإذا لم ترد أن تكون من الذين يقولون -من الوعظ المشتق من فعل الشهداء والأبطال- ما لا يفعلون؟!