كتاب عربي 21

داريا.. لم ينحن رأسك

1300x600
تسميها الأمم المتحدة (العاصمة السورية للبراميل المتفجرة) من كثرة استهدافها من نظام بشار المجرم ببراميل البارود والمتفجرات التي حصدت أرواح آلاف الأبرياء من أهلها، قبل أربعة أعوام من الآن وفى نفس الوقت تقريبا في 20 أغسطس 2012 شهدت أرضها أحد أكبر المجازر التي شهدتها الثورة السورية حيث تم إبادة 700 مواطن سوري على يد مليشيات النظام أعقبها نزوح جماعي لما يزيد على 100 ألف شخص هربا من هذا الجحيم، وصمد بقية أهلها مع المرابطين من المقاومة وأشعلت المجزرة نار الثبات والصبر والتحدي لتصنع داريا ملحمة صمود تاريخية على مدار أربعة سنوات. 

ضرب النظام حصارا كاملا على المدينة لكي يركع أهلها ويخضعهم لجبروته وبطشه، لكنهم ظلوا شامخين يرفعون روؤسهم وأسسوا المجلس المحلي لمدينة داريا بهدف تجميع الجهود الثورية والعسكرية في إطار تنظيمي يتجاوز نقاط الضعف والفوضى والتشتت السابق في العمل، كانت هذه التجربة نموذجا للعمل المدني الملهم لمنطقة محررة من مليشيات بشار لذلك كانت داريا أولوية للنظام يريد تدميرها وتركيعها لأنها كسرت بصمودها كبرياءه وتوحشه وأرغمته على الركوع حول حدودها دون أن ينجح في دخولها. 

لك أن تتخيل أن داريا تبعد 7 كيلومترات فقط عن قصر بشار الأسد في دمشق، ومع ذلك ظلت عصية على طيرانه وصواريخه وبراميله المتفجرة وأسلحته الكيميائية التي قصف بها المدنيين، قـُصفت المدينة بما يزيد على 697 صاروخا، وبآلاف القذائف المدفعية وصواريخ أرض-أرض، وبالألغام البحرية والقنابل الفراغية، ووصلت حصيلة القصف اليومي أحيانا إلى أربعين برميلاً متفجرا، وتم منع الطعام والدواء عن الناس لكنهم أبوا الخضوع. 

ظل العالم يتفرج على ما يحدث في داريا ولا يبالي، لكن الدهشة والانبهار حول كيفية هذا الصمود لم تتوقف حتى إن أحد المثقفين الموالين لبشار قال ذات مرة: يبدو أن الشياطين والجان تساعد هؤلاء المخربين (يقصد المقاومين) ليكملوا استنزافهم لقوات النظام دون أن يستسلموا!

وسط هذا الجحيم مارس السكان الاحتجاج السلمى بجانب المقاومة حيث قاموا بعمل اعتصام لإيصال صوتهم للعالم ورفعوا لافتات وشعارات تطالب المجتمع الدولي بفك الحصار ووقف القصف وإدخال مواد الإغاثة، وكان من المؤلم أن تدخل شاحنات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة للمدينة ليجدها الناس فارغة إلا من بعض أشياء بسيطة وقليلة لا تذكر! دمر بشار كل مظاهر الحياة في المدينة حتى المستشفى الرئيس فيها تم قصفه وتدميره!

خذل العالم داريا وغض الطرف عن مأساتها التي ستوثقها كتب التاريخ دليلا على انتحار الإنسانية وموت الضمير، ضاقت الأرض بأهلها واضطروا بعد طول صمود إلى عقد اتفاق مع النظام يقضي بخروج المدنيين والمقاومين بأسلحتهم إلى مدن أخرى لا يسيطر النظام عليها، بدأت طوابير النزوح والتهجير القسري ليخرج أبناء البلد من بلدتهم. 

بللت الدموع كل شبر في داريا، هنا من جلسوا يودعون قبور رفاقهم الشهداء ويلتقطون معها الصور، وهنا من سجدوا على الأرض يقبلون تربها ويأخذون قبضة منه ويقسمون على العودة، هنا من وقفوا يقبلون الأنقاض ويكتبون على الجدران إنا لعائدون، ما أقسى أن تُهجر في وطنك وبيد بني وطنك من المستبدين القتلة. 

تحتبس الدموع من شدة القهر ووجع الروح لكن اللحن الجنائزي الذي يرن في الآذان يتبعه نشيد الصمود والإباء، يسترجع المرء كل هذه المشاهد ويرسمها في لوحات تمر أمام عينيه فيشعر بالعزة والفخار، رغم الألم فإن ما حدث ليس هزيمة بل انتصار، طوبى للصابرين المرابطين، طوبى لمن أذلوا الطاغية حتى آخر لحظة وخرجوا رافعين رؤوسهم بلا انكسار ولا هوان. 

هذا ليس يوم فر بل كر إن شاء الله، مهما خُيل للقاتل التافه وأسياده من الروس والإيرانيين ستميد الأرض بهم وسيهزمون شر هزيمة، لا أحد يستطيع أن يهزم شعبا يحب الحياة. 

هنا أرض روتها الدماء فلن تنبت سوى الانتصار، هنا أرض يرقد في ثراها آلاف الشهداء الذين ستلفظ أرواحهم كل دخيل وسفيه سيطأ جنبات المدينة، من بين الأنقاض والركام سيعود الأبطال ليكملوا درب الشهادة والفخار، سلام يا أهل داريا.. سلام يا من خذلناكم ولم تخذلونا، أنتم الأعلون بإيمانكم وثباتكم وتضحياتكم، ستدور الأيام، والفجر لن يطيل الغياب..