كتاب عربي 21

تجديد السلفية

1300x600
في واقعنا الفكري أناس يخاصمون العقل والعقلانية باسم السلف والسلفية، ويسعون لاحتكار مصطلح عزيز وفضفاض! لدرجة أنهم يرون "العقل والعقلانية" "تهمة وسبة!" يؤلفون في ذمها وذم أصحابها الكتب والمقالات.
 
وفي الحوار مع هؤلاء يحسن أن ندعوهم إلى فقه تراث أئمة السلف، الذين لا خلاف على تمثيلهم للفكر السلفي في تراثنا الحضاري، وندعوهم إلى "فقه الواقع" بدلا من هجر الواقع، والهجرة منه إلى الماضي البعيد، وإلى استلهام "الأحكام" لتقديم الحلول للواقع المعيش. 

ونقول لهم: هلا قرأتم وتدبرتم تقديم العلامة ابن القيم (691- 751 هـ، 1292- 1350م) للواقع على "الأحكام"؟ وقوله: "إن هناك نوعين من الفقه لا بد للحاكم منهما: فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في الواقع ذاته وأحوال الناس، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع. 

فالمفتي والحاكم (القاضي) والعالم: هو من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكمة الله ورسوله، وإن الفتاوى والأحكام هي التي تتغير بتغير الواقع والمصالح، وليس العكس".
 
كذلك ندعو المنتسبين إلى السلفية -الذين يقيمون تناقضا بين "العقل" وبين "النقل"- إلى إعادة قراءة تراث فيلسوف السلفية ومجدها، شيخ الإسلام ابن تيمية (661- 728 هـ، 1263- 1328م)، الذي أكد على استحالة مخالفة النقل الصحيح للعقل الصريح. 

فقال: "إن ما عرف بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه منقول صحيح، ولقد تأملت هذا في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد والصفات ومسائل القدر والنبوات والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعرف بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالف إما حديث موضوع أو دلالة ضعيفة، فلا يصح أن يكون دليلا، كما وجدت ما خالف النصوص الصحيحة شبهات فاسدة يُعلم بالعقل بطلانها".
 
أي أن ابن تيمية يستدل بالعقل على صحة النقل أو عدم صحته، كما يقطع بأن صحيح المنقول لا يمكن أن يخالف صريح المعقول، لا لأن الرسل -كما يقول- لا يُخبرون بمجالات العقول، بل هو جائز في العقول. 

لقد بعثوا بتكميل الفطرة، لا بتغيير الفطرة، وهناك تطابق بين الدلالة القرآنية والبرهانية العيانية، وإذا بدا هناك تعارض بين العقل والنقل، أخذ بالقطعي منهما -سواء أكان معقولا أم منقولا- وترك الظني منهما -سواء أكان معقولا أم منقولا- فالمقدم هو القطعي من الأدلة، بصرف النظر عن نوعه، والمؤخر هو الظني، بصرف النظر عن نوعه أيضا".
 
فهلا قرأ أدعياء السلفية هذه "الموازين" التي وزن بها الشيخ الإسلام ابن تيمية علاقة العقل بالنقل؟ وهلا قرأوا -أيضا- إعلانه اجتماع جمهور فقهاء الأمة وأئمتها على اعتماد العقل أداة لتحسين الأشياء وتقبيحها -وهو ما يظنه أدعياء السلفية- رأيا انفردت به المعتزلة وحدها؟!
 
لقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: "وأكثر الطوائف على إثبات الحسن والقبح العقليين، وهو قول أبي حنيفة وكثير من المالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث، بل لقد ذكر هؤلاء أن نفي التحسين والتقبيح بالعقل هو من البدع التي حدثت في الإسلام، ولم يقله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، فالعقل يحب الحق ويلتذ به، ويحب الجمال ويلتذ به، والجميل هو الحسن، والقبح ضده، وبالتمييز بين الحسن والقبيح يتفاضل العقلاء".
 
هكا نزع فيلسوف السلفية شيخ الإسلام ابن تيمية فتيل التعارض الموهوم بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وقطع -مع جمهور أئمة الأمة وفقهائها- بأن العقل هو الأداة المعتمدة والمؤتمنة على التحسين والتقبيح للأشياء.
 
وإذا كان لدينا سلفيون يتعصبون لابن تيمية ضد ابن رشد (520- 595 هـ، 1126- 1198م) وعلمانيون يتعصبون لابن رشد ضد ابن تيمية، فإن هذه النصوص الفلسفية التي قدمنا طرفا منها لابن تيمية، وإذا قارناها بقول ابن رشد: "إن النظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع، لأن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له، وإن الحكمة هي صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة، وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة".
 
إذا قرأنا ذلك ووعيناه، أدركنا أن مصيبتنا في السلفيين لا تقل عن مصيبتنا في العلمانيين!