كتاب عربي 21

شتاء سياسي متجمد في تونس...

1300x600
شتاء سياسي تونسي بارد أمام الملاحظ إلا أن تكون هناك نار تحت الرماد. لا تبصرها العين وإن توقعت فالسنة تدخل بطيئة والمواضيع الحارقة تتأجل أو تلغى والقديم يعاد باردا على موائد الإعلام الذي لم ينضج ولم يحترق.

منذ أربع سنوات مازال أنصار الرئيس ينادونه سعداء "يا معذب التونسيين". ومازال اليسار التونسي يمسك بخناق الغنوشي زعيم النهضة "السفاح قاتل الأرواح" ومازال إعلام بن علي يلعن الثورة ويمجّد المخلوع ويبكي عليه علنا بعد أن اختفى في أيام الثورة الأولى وخشع أمام صولة الشباب (أيام لبس رجال التجمع سفساري النساء للخروج للبقال).

كلما وهمنا أن المياه تمر تحت الجسور اكتشفنا أن الوضع على ما هو عليه وأن التغيير المنشود يتراجع إلى منطقة الأحلام المستحيلة. وكلما زرعنا جملة متفائلة خرج علينا من يؤدبنا تأديبا بأننا نبيع الوهم للتونسيين. وحده السفير الفرنسي يتحرك في تونس بنشاط وحيوية حتى سخر البعض من نشاطه وجمود الحكومة إزاءه فقال بأن سعادة السفير يترشح للرئاسة سنة 2019.

اليسار يمسك بخناق النهضة

وهل له غير ذلك ليقوم به؟ لقد تابعناه قبل الثورة وبعدها وأملنا أن تسمح له الحرية بتغيير أفكاره واستراتيجياته وتكتيكاته السياسية لكنه مصاب في السويداء. ويبدو أنه سيفنى بمرض النهضة. ففي كل معركة يكشف هوانه. وآخر المعارك التي خاضها هي معركة عودة الإرهابيين من مواقع القتال.

لقد دأب طيلة سنوات الثورة على اتهام النهضة وقياداتها بتسفير الإرهابيين إلى سوريا لقتال الزعيم الممانع بشار ضمن مشروع إخواني وهّابي أمريكي للقضاء على الأمة العربية ورهنها للصهيونية. فلما بدأ بعض الإرهابيين في العودة نتيجة تطورات الوضع السوري. وانتظر الجمهور الذي صدق رواية التسفير أن يرحب اليسار بهؤلاء الإرهابيين ليمسك حجة إدانة بالغة ضد الخصم النهضوي فوجئ الجميع بأن اليسار هو أول الرافضين بل الرافض الوحيد لعودتهم.

قال الغنوشي إن الارهابيين أبناء تونس المرضى بالإرهاب. وأنه يجب  قبولهم وعلاجهم فانقلب عليه القوم في كل شارع وفي كل وسيلة إعلام. بعد أسبوع من ذلك قال رئيس الدولة (العارف بالقانون الدولي) بأنهم أبناؤنا ويجب علاجهم فخنس بعض اليسار الثقافي (الموالي لوزير الفلاحة خاصة) بينما ظل الوطد وبعض البعث (من الجبهة الشعبية) خاصة يسيّرون المسيرات بشعار يا غنوشي يا سفاح وآخرها كان يوم الأحد 08 يناير.

والحقيقة أن هذا الصراع لم يعد يزعج طرفيه فهما يتناظران ولا يشتبكان إلا لفظا (حتى الآن على الأقل) لكن الشعب التونسي المسكين هو الخاسر من وراء ذلك. فهذا الصراع لا يهمه فمشاكله ليست في وجود النهضة من عدمها أو في هوان اليسار وقلة حيلته. مازال الشعب التونسي يعاين فقره فبعض أطفاله يموت من البرد في جبال الشمال وبعضهم تأكله الكلاب في الطريق إلى المدرسة وبعضهم تستنزفه البطالة في القرى والمداشر وحكومته مشغولة عنه بتدبير الخادمات للوزيرات. وتؤجل حلول مشاكله الحضرية بالهروب من الانتخابات البلدية التي فقد الأمل في تنظيمها في أوانها.
قطيعة كاملة بين النخبة السياسية وبين الانتظارات الشعبية والزمن يمر بطيئا كالشتاء القارس المخيم لحظة الكتابة على كامل البلاد.

النهضة تختفي في حجر ضب التوافق

لكن هذا الصراع السخيف مفيد لطرفيه فقط. فهو يسمح لليسار بالبقاء في الصورة ويملأ السمع والبصر بجعجعة عالية توهم بأنه يملك مشروعا للبلاد. بينما تغتنمه النهضة لتبرير انكماشها السياسي داخل التوافق الحاكم. فهي في منجاة من الاستئصال حتى اللحظة وتكبر وضع الضحية لتعيش منه. ولا تبرز للشارع بمشروع مختلف عما عرف التونسيون من البؤس.

يساعد هذا الوضع حزب النهضة في لحم صفوفه الداخلية فكلما ظهر داخله صوت ينادي بالتغيير ذكره التوافقيون بالرعب الماثل خارج الحزب. يوجد داخل الحزب صراع زعامات يوشك أن يكسر وحدته التاريخية. وتبدو مكانة الغنوشي نفسه مهزوزة لفرط ما أفرط في التوافق. وقد كشفت استطلاعات داخلية أنه لم يحظ بالإجماع داخل حزبه ليكون مرشحا رئاسيا في 2019. لذلك يغتنم كل هجوم عليه ليزيد من تخويف أنصاره و ضمهم إليه من خوف لا من قوة.

السفير المقيم العام

كان الاستعمار الفرنسي بمقتضى معاهدة الحماية المبرمة تحت الغصب سنة 1881 قد اقتلع من باي تونس موافقة الحماية القانونية. لذلك ظلت السلطة شكلا مقتسمة بين الحامي (الفرنسي ) والمحمي (الباي ودولته) وكان الباي مستقرا في قصره بالمرسى يتنعم بما تترك له فرنسا من جباية ودعاء على المنابر بينما يتصرف المقيم العام كحاكم فعلي لا يرد له أمر. والصورة الآن تتكرر بشكل فاضح فرئيس الدولة مستقر بقصره يوسم الرياضيين ويصلى الجنائز على أبناء العائلات الذين يموتون في رحلات ممتعة.

بينما يسير السفير الفرنسي بين الناس فيستطلع الهيئات الدستورية ويزور مناطق المناجم ويقرر في شأنها ويأمر وزير التربية بعدم المساس بمكانة اللغة الفرنسية في التعليم (وقد كان وزير التربية ذات تخميرة من تخميراته الكثيرة قد قال بأنه سيجعل الانجليزية مقدمة في التعليم على الفرنسية) ثم يأذن بصندوق دعم فرنسي لتمويل الصحافة التونسية الناطقة بالفرنسية ولا ندري ما إذا كانت تحركاته تتم بعلم وزارة الخارجية أم أنه يبادر ويتحرك ويأمر وينهى كما كان يفعل المقيم العام.

وفي كل الأحوال مكاتب السفير الحالي بشارع بورقيبة لا تزال في نفس مقر المقيم العام حيث لم ينزل عنه علم فرنسا منذ 1895 تاريخ بناء المقر. ماذا بقي من الدولة إذن؟ هو سؤال يؤدي إلى التهلكة ويجعل صاحبه مصنفا في الخارجين عن التوافق.

هل من ربيع في الأفق؟

طالما بحثت في ما نشرت بهذا الموقع عن بصيص أمل أعالج به خيبتي الخاصة و أبث به أملا لدى أصدقاء يؤمنون بعد بأن البلد مقدم على التغيير وإن تباطأ سيره. لكني أنظر إلى القوم يدورون في حلقة مفرغة ويعيدون إنتاج معاركهم القديمة ويرفضون الانتباه إلى أن الماء سيمر حتما تحت الجسور وأن التغيير مصير لا رغبة.

لقد أغاث الله البلد بغيث عميم وسيفرح الناس ويعصرون وتنفرج كرب كثيرة بتدخل السماء. لكن ذلك من بركات الغيب لا من فعل الحكومة. الحكومة التي عبرت عنها إحدى وزيراتها الرشيقات أبلغ تعبير عندما طردت موظفا ساميا رفض تأجير معينات منزليات لأم الوزيرة وأختها. وهو أمر لم نسمع به في المتقدمين ولا المتأخرين من حكام البلد. الحكومة التي تحصى الآن حوادث القطارات وتتملص من مسؤولياتها بإلقائها على صغار موظفيها. الحكومة التي تتلاعب بالأرقام الرسمية فتعلن في ذات الوقت تراجع نسبة الفقر في البلاد واستقرار حجم البطالة.

يحتاج المرء فعلا إلى قلب ملائكي ليجد في برود شتاء تونس السياسي  فرجة أمل ولكن لنتوهم الجمر تحت الرماد فالوضع الآن  مشابه تماما لما كان عليه  قبل 17  ديسمبر 2010. ولكن بعض هذا الجمر بارد فبعض الذين نفخوا عليه ذات شتاء انتقلوا الآن إلى صف السلطة وصار خوفهم من فقدها  أكبر من  رغبتهم في العدل الذي طالما تغنوا به.