قضايا وآراء

في القرعون.. تتشابه قصص المعاناة وتختلف أسماء الرواة

1300x600
يتنهد أبو العبد وهو يحاول حبس الدموع التي انهمرت من عينيه؛ حين عد أكثر من 22 شخصا من عائلته - إخوانه وأبنائه وأبناء إخوانه – قد قضوا في سوريا تحت وابل القصف الذي نال بيوت كثيرين منهم بالحرق التام لها بمن فيها! وقد تمكن من الاحتفاظ بصورة تضم عددا قليلا منهم.

وعليه نزح أبو العبد مع زوجته وطفلته الصغيرة إلى القرعون في البقاع الغربي، جنوب شرق لبنان، تلك القرية الوادعة الصغيرة التي كان قدرها مع أعداد كبيرة من اللاجئين توازي عدد سكانها الذين توزعوا في مخيمات إيواء عشوائية.

يشعر أبو العبد وباقي من معه في مخيمهم بأنهم محظوظون قليلا، رغم بؤس الخيام وشدة البرد فيها وتهالك أغطيتها البلاستيكية، فهم يقيمون على أرض محمد حسين، الرجل اللبناني الشهم الذي قدم لهم أرضه مجانا – فيما يتقاضى غيره من كل خيمة مبلغ يناهز 200 دولار سنويا بدل وجود خيمتهم على أرضه - محمد حسين لا يكتفي بذلك بل يوزع عليهم المساعدات كلما استطاع، ويأخذ القادرين منهم للعمل معه.

أبو العبد كان ميسور الحال. عنده منزل مريح وسيارات نقل بضائع وأشكال متعددة من التجارة. وجد نفسه بين عشية وضحاها هائما على وجهه في القرعون، يبحث في القمامة عن شيء يصلح للبيع وإطعام أسرته بثمنه، حتى أخذ رئيس البلدية بيده؛ وبدأ يصرف له معونة مادية شهرية كلما أمكن البلدية ذلك، بناء على تبرعات ومساعدات المحسنين مؤسسات وأفراد.

أما عائلة أبو سمير؛ فتعيش الألم كل يوم بمعاناة الحاجة أم سمير التي فقدت القدرة على الحركة، مع تلقيها نبأ مقتل ولديها، فانتقلت محمولة على الأكتاف مع زوجها الكبير في السن وبناتها الثلاث من ريف حمص إلى القرعون، لتنتظرهم خيمة من بلاستيك وقطع بسيطة من الخشب وأرضية رقيقة من الإسمنت.

أبو سمير ليس أفضل حالا من أم سمير، وقد حفرت المعاناة خطوطها على تجاعيد وجهه، وعاد ليبدا حياته من جديد وكأنه إنسان في بداية حياته وليس كهلا جاوز السبعين.

في بيت أبو سمير لا مجال لاستخدام المطبخ والحمام في آن واحد؛ لأنهما باختصار يقعان في نفس المكان!
ولكن شعرت بشيء من التفاؤل، إذ تمكنّا من تقديم كرسي متحرك لأم سمير، حيث تنتظر الربيع لتخرج من خيمتها وترى النور لأول مرة بعد سنوات من المكوث على شيء من المفترض أن يكون سريرا.

وضحكت العجوز وأنا أداعبها بالحديث بأن بإمكانك الخروج ورؤية الحياة، ولتتركي زوجك في المنزل مع البنات، واستمتعي أنت بحياتك.

لك الله يا أم سمير، كم أنت طيبة ووجهك يشرق طيبة وأملا، رغم مرارة كل الذي عانيتيه وتعانيه، وكم هي الابتسامة سريعة على شفتيك مع أنك قد فقدت معظم أسنانك وسني عمرك.

أكثر من ربع مليون لاجئ سوري في لبنان لم يجدوا سوى الخيام العشوائية سبيلا لإيوائهم، حتى لو اضطروا لدفع أجرة سنوية لها، الأمر الذي لم تحظ به أم حمزة وأبناؤها، فاضطررت لاسئتجار غرفتين في منزل تحت الإنشاء، لم يتم تشطيبه بعد، وفي قرية القرعون على بعد أكثر من 60 كم عن العاصمة اللبنانية بيروت، ومع ذلك فهي تدفع 250 ألف ليرة شهريا بدل استئجار هاتين الغرفتين، أي ما يعادل 175 دولارا.

لم أستطع الارتكاء على أحد الجدران في منزل أم حمزة لشدة الهواء البارد القادم منه.
أصعب ما يمكن أن يحدث معك وأنت تزور اللاجئين في بيوتهم؛ عندما يسيطر البكاء على عينين جاهدتا لحبسه، وأخفت وجهها مرارا، وهي تروي لك حكاية من مآساتها، أملا بالحفاظ على كرامتها، فما خرجت من بيتها ولا ذاقت المرارات في عذاباتها إلا حفاظا على تلك الكرامة ولأجلها.

كنت مع  مؤسسة "هيومان أبيل" وهي توزع كسوة الشتاء في القرعون على أهلنا من اللاجئين السوريين، وقد نظمت البلدية بالتعاون مع شركاء محليين من الجمعيات الخيرية؛ أسماء اللاجئين في كشوف، وبدأوا يصطفون في طوابير للحصول على شيء من الوقود والطعام والملابس في هذا الشتاء ذي البرودة الشديدة. أخذت معطفا وأسرعت به نحو طفل جالس أمام خيمته يراقب المشهد وينتظر انتهاء الطابور بفارغ الصبر، لتعود إليه أمه بمعطف يقيه البرد. أطفال تبدلت أحلامهم وتغيرت أمانيهم، وأصبح أكبر همهم الحصول على معطف أو حذاء، وأما البسكويت والشوكولاته فموعده الجنة.

وأذكر هنا قصة طفل تحت الحصار في ريف دمشق وهو يتقاسم الخبزة مع رفيقه، ويؤكد أنه عندما ينتقل إلى الجنة سيطلب من الله تعالى قطعة خبز كاملة! كل هذا وصور أم حمزة وأبو العبد وصغيرته ريما، وأم سمير وزوجها، لا تفارقني.

كثيرون منّا يتألمون وهم يتابعون مثل هذه القصص، ولكن أعتقد أنّ الأجدر بنا جميعا أن نستمر بالعمل على تخفيف معاناتهم، إن لم نكن قادرين على إنهائها. فمن حق اللاجئ علينا أن يكون بمنزل كريم، ومن حق أطفاله أن يحصلوا على حقهم من التعليم.

لك أن تتخيل أي مستقبل ينتظر عشرات الأطفال من اللاجئين السوريين؛ الذين هم بلا مدارس ولا يحظون بالحد الأدنى من التعليم.

ومع كل ما يسمعون ويشاهدون حولهم من حديث حول الهدنة والسلام، إلا أن أيا منهم لم يحزم حقائب العودة، ويبدو أقرب للهجرة إلى أوروبا من الرجوع إلى بيته المهدم، والذي بات لكثيرين مرتبطا بذكريات مؤلمة يستشعرون بها أنفاس من فقدوا من أحبتهم.