كانت الديمقراطية التوافقية أحد النماذج الأهم التي حاول الأمريكيون تطبيقه في العراق بعد الاحتلال، بوصفه النظام المثالي لإدارة الحكم في البلدان التعددية، لا سيما تلك التي تشهد انقسامات مجتمعية وسياسية. وقد حقق الأمريكيون ذلك من خلال تجربة «مجلس الحكم» الذي تم تشكيله في يوليو/تموز 2003، ثم ترسخ ذلك عبر «قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية» الصادر في مارس/آذار 2004. فقد استند كلاهما على أن العراق بلد تعددي لا يمكن أن يُحكم إلا من خلال «تقاسم السلطة» بين مكوناته الرئيسية: الشيعة والسنة والكرد.
في كتابه « التوافقية في مجتمع متعدد» يتحدث آرند ليبهارت عن أن إحدى القضايا الثابتة في علم السياسة هي صعوبة تحقق الديمقراطية المعيارية بنموذجها البريطاني الذي يقوم على مبدأ حكم الأكثرية، والذي يسميه نموذج المعارضة ـ ضد ـ الحكومة، في المجتمعات التعددية. وأن البديل لا بد أن يكون ما يسميه «الحكم بالإجماع»، أي الحكم من خلال ائتلاف واسع، ويتحدث عن أربع خصائص أساسية للديمقراطية التوافقية:
أولا. الحكم من خلال ائتلاف واسع يضم الزعماء السياسيين من القطاعات الهامة في المجتمع التعددي.
ثانيا. الفيتو المتبادل، الذي يستعمل كحماية إضافية لمصالح الأقليات الحيوية. فهذا الفيتو هو وحده ما يمنح كل مكون ضمانة كاملة للحماية الأساسية.
ثالثا. التمثيل النسبي في التعيينات في مجالات الخدمة المدنية، وفي تخصيص الأموال العامة.
رابعا. درجة عالية من الاستقلالية لكل مكون في إدارة شؤونه الداخلية الخاصة.
وقد حلل ليبهارت طبيعة الديمقراطية التوافقية بوصفها نموذجا نجح في أربعة بلدان أوروبية صغيرة هي النمسا، وبلجيكا، وهولندا، وسويسرا. فضلا عن بلدين آخرين هما لبنان وماليزيا. كما يتحدث عن إخفاق هذا النموذج في حالة قبرص. ثم انتهى الكاتب إلى إقرار الحقيقة التالية: «الخيار الواقعي بالنسبة إلى الكثير من المجتمعات التعددية في العالم غير الغربي ليس خيارا بين النموذج المعياري البريطاني للديمقراطية والنموذج التوافقي، بل بين النموذج التوافقي للديمقراطية وبين انعدام الديمقراطية تماما».
إن مراجعة سريعة لقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، في العراق، يكشف حرص الأمريكيين على إدخال بعض عناصر الديمقراطية التوافقية في هذا القانون/ الدستور المؤقت، ليس فيما يتعلق بالنظام السياسي، وإنما في تحديد طبيعة هذا النظام السياسي! عندما منحت المادة (162/ج) المكونات الأساسية، حق الفيتو لرفض الدستور، من خلال حق ثلثي ثلاث محافظات أو أكثر في رفضه. فقد أشارت المادة 36 إلى أن قرارات مجلس الرئاسة المكون من ثلاث شخصيات، ينتمون للمكونات الثلاثة الرئيسية، تتخذ بالإجماع، وبالتالي ليست هناك أية إمكانية لتمرير قرار لا يوافق عليه أحد الشخصيات الثلاثة الممثلة لمكوناتها.
كما قرر القانون في المادة 55 أن القانون يهدف إلى منع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية من خلال منح سلطات واسعة للحكومات المحلية، فضلا عن أن الممارسة السياسية، التي أنتجها الأمريكيون، كانت قد ضمنت إلى حد ما الحكم من خلال ائتلاف واسع، كما حاولت أن تضمن مسألة التمثيل النسبي في التعيينات، وإن اصطدم هذا الأمر بالتقديرات الأمريكية للحجم الديمغرافي لكل مكون في العراق، وهي تقديرات كانت نتاجا لضعف المعرفة الأمريكية بالكثير من الحقائق الاجتماعية والسياسية في العراق من جهة، وللمعلومات المضللة التي كانت تقدمها المعارضة العراقية لصانع القرار الأمريكي من جهة ثانية. فقد كان التقدير الذي يقلل من حجم السنة العرب جزءا من محاولة أمريكية لتسويق فكرة أن النظام الحاكم في العراق ليس شموليا، وديكتاتوريا، وعدائيا وحسب، لكنه يمثل الطائفة السنية حصرا، وهي أقلية ديمغرافية تحكم في العراق على حساب الآخرين.
مراجعة بسيطة للتقديرات الأمريكية الرسمية المختلفة لنسبة العرب السنة في العراق تكشف عن هذا التسييس المتعمد! على سبيل المثال جاء في التقرير الذي تصدره وزارة الخارجية الأمريكية عن الحرية الدينية في العالم لعام 2003، أن عدد السنة العرب في العراق يتراوح بين 12 ـ 15? فقط من مجموع السكان! في حين تحدث رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة بول بريمر، وكان هو الحاكم بأمره في العراق لمدة تزيد عن سنة، في مذكراته عن أن «الأقلية السنية» لا تشكل سوى 19? من المواطنين العراقيين!
والحقيقة أنّه لا وجود لإحصائية دقيقة تظهر الحجم الحقيقي لكل مكون. ومن الواضح من النماذج الخاصة بالتعداد السكاني المفترض أنه لا توجد آليات لمعرفة الوزن الديمغرافي للمكونات جميعها. ومن هنا، فإن الادعاءات المتعلقة بهذا الأمر ستبقى قائمة، وستحددها علاقات القوة، مما يمنع الوصول إلى تمثيل نسبي حقيقي حتى في القوات المسلحة مثلما تحدث عنه الدستور، وهو ما وجدناه في السجالات المتعلقة بالتوازن.
ولكن عملية كتابة الدستور شهدت محاولات منهجية لرفض هذا الأنموذج، على الرغم من نص الدستور على أن العراق بلد تعددي (المادة 3)، مع بعض الإشارات إلى بعض خصائص النظام الديمقراطي التوافقي، مثل وجوب مراعاة «التوازن» بين مكونات المجتمع العراقي في بناء القوات المسلحة (المادة 9/أولا)، وإدارة كل مكون لشؤونه الخاصة فيما يتعلق بالأحوال الشخصية (المادة 41)، وإدارة الأوقاف والشؤون الدينية (المادة 43/ب).
إلا أن القراءة الدقيقة للدستور وتحليل مواده تكشف عن نظام سياسي قائم على أساس أنموذج «أكثروي» ـ نسبة إلى الأكثرية. وبما أنّنا أمام تماه تام بين الأكثرية السياسية والأكثرية الديمغرافية، بسبب طبيعة القوى السياسية الرئيسة في العراق، وبسبب طبيعة الاستقطاب الطائفي (الإثني والمذهبي) القائم، فهذا يعني أن «الأكثرية الديمغرافية»، من خلال تمثيلها النسبي في البرلمان، لديها القدرة ـ ولو نظريا ـ على احتكار السلطة. فقد نصّت المادة (49/ثانيا) على ما يلي:
«تتخذ القرارات في جلسات مجلس النواب بالأغلبية البسيطة بعد تحقق النصاب ما لم ينص على خلاف ذلك». وعلى الرغم من أن الدستور اشترط «الأغلبية المطلقة» في بعض القرارات، إلا أن المحكمة الاتحادية العليا أطاحت بهذا الشرط، عندما نصت في قرار لها (القرار رقم 23 اتحادية 2007)، أن الأغلبية المطلقة هي نفسها الأغلبية البسيطة! وهذا يعني أن العنصر الأول والأهم في الديمقراطية التوافقية لا يتحقق، فالأغلبية البسيطة تطيح تماما بمبدأ الحكم بائتلاف واسع.
وقد أغفل الدستور الحديث عن «الفيتو المتبادل»، ما عدا الجملة التي نُقلت من «قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية»، التي تتحدث عن رفض ثلثي ثلاث محافظات أو أكثر، وإن كانت المادة 126/ ثانيا وثالثا تلغي تلقائيا هذا الشرط حين تفترض إمكانية تعديل الدستور بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية، من دون إشارة إلى صلاحية ثلثي ثلاث محافظات لتعطيل ذلك. ولا يمكن عدّ صلاحية (مجلس الرئاسة) في عدم المصادقة على القوانين (المادة 73/ثانيا) نوعا من الفيتو الرئاسيّ يمكن الدفع به، لأن بإمكان مجلس النواب تجاوز صلاحية الرئيس هذه (المادة 138/ج)، فضلا عن أن رئيس الجمهورية، بعد انتهاء العمل بمجلس الرئاسة، لا يمتلك هذه الصلاحية، ومن ثمّ لا يمكن أن يعكس ذلك مبدأ الفيتو المتبادل المقصود هنا.
وقد أغفل الدستور أيضا الإشارة إلى قضية التمثيل النسبي في التعيينات في الإدارة المدنية العامة.
أما بالنسبة إلى الخاصية الرابعة للديمقراطية التوافقية والمتعلقة بالإدارة الذاتية، فهي متحققة فيما يخص إقليم كردستان حصرا، بسبب رفض مسألة تشكيل الأقاليم؛ فقد رفض رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي، دون مسوغ دستوري أو قانوني، الطلبات التي قدمتها محافظتا صلاح الدين وديالى مخالفا بذلك الدستور والقانون النافذ، وهو الأمر الذي يكشف عن وجود إرادة سياسية لدى الفاعل السياسي الشيعي بعدم السماح بتحقق الإدارة الذاتية في المحافظات.
في الواقع، لم تكن الممارسة السياسية التي شهدها العراق، خلال السنوات الماضية، سوى ممارسة براغماتية، مفروضة أمريكيا، ولا تستند إلى أي إطار دستوري أو قانوني، لذلك لم تتحول إلى أعراف متفق عليها. ومن ثم لا بد للفاعل السياسي العراقي، خاصة في ظل الحديث عن تسوية/ مصالحة وطنية، أن يعترف بأنه من الضروري إيجاد صيغة لإعادة النموذج الديمقراطي التوافقي، عبر آلياته المعروفة، أو عبر آليات أخرى، يتم الاتفاق عليها، وهو ما يجب أن تتضمنه الوثيقة الموازية للدستور والتي طرحناها في مقال سابق كحل يعيد هيكلة النظام السياسي ويضمن بناء الدولة، ومخرج وحيد للأزمة العراقية.