ومن بين الأمور التي أغفلها البيان عن قصد، لأنها مسألة الخلافية الشيعية/شيعية، موضوع زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق. في الوقت الذي تحدث فيه البيان الأمريكي عن تطرق الطرفين إلى الموضوعين: «الخطر الذي تشكله إيران في المنطقة بأكملها»، والتأكيد الأمريكي على «الزيادة التدريجية للجيش الأمريكي» في العراق.
بعيدا عن موضوع المصداقية، الذي لا مكان له في السياسة العراقية اليوم، فقد بدأ العراق يواجه موقفا أمريكيا مختلفا عما كان عليه الأمر خلال سنوات ما بعد الاحتلال، وربما السنوات القليلة التي سبقت الاحتلال. فقد كان ثمة موقف أمريكي «براغماتي» للتعامل مع القوة السياسية الشيعية على الرغم من معرفته الدقيقة بطبيعة العلاقة الإشكالية بين هذه القوى وإيران، حيث اضطر الأمريكيون في مرحلة ما قبل الاحتلال إلى التعامل مع «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية»، الذي نشأ في إيران من حركات شيعية عراقية معارضة، وكان على علاقة عضوية بإيران، بوصفه ممثلا للشيعة في العراق. هكذا دعا الأمريكيون السيد عبد العزيز الحكيم إلى واشنطن، كما كان المجلس حاضرا بقوة في مؤتمر لندن قبيل الاحتلال، وسمح للسيد محمد باقر الحكيم في حينها الدخول إلى العراق بموكب كبير من أنصاره بعيد الاحتلال، بشرط الدخول من غير أسلحة!
بعد الاحتلال، مارس الأمريكيون لعبة مزدوجة في العراق، فقد كانوا على قناعة واضحة، بأن الفاعلين السياسيين الشيعة، لهم علاقاتهم الاستراتيجية مع إيران، وهي علاقات لا يمكن زعزعتها أو التدخل فيها باي شكل! وقد اقتنع الأمريكيون حينها، تحديدا بعد ظهور مؤشرات على وجود مقاومة «سنية» آخذة بالتصاعد، أنه ليس من مصلحتهم الدخول في مواجهة مع الفاعل السياسي الشيعي بشأن هذه العلاقة مع إيران، كما كان الأمريكيون عقلانيين في التعاطي مع «التدخلات» الإيرانية «التكتيكية» في العراق والتي تدعم الفاعل الشيعي المعارض للوجود الأمريكي. مع هذا كان ثمة خطاب أمريكي معلن عن عدم السماح لإيران بالتدخل في العراق!
في المقابل كان الإيرانيون قد حسموا أمرهم في ممارسة لعبة مزدوجة مضادة في التعاطي مع العراق، استراتيجيا كان الإيرانيون حريصين على إنتاج كتلة صلدة تتيح للفاعلين الشيعة المختلفين الهيمنة على الدولة في العراق، وحريصين أيضا على دعمها بقوة، وبالتالي ضمان مصالحهم، وتكتيكيا كانوا يدعمون بشكل صريح القوى الشيعية المناهضة للاحتلال، سواء عبر دعمها للمجموعات الشيعية الرافضة للاحتلال الأمريكي، تحديدا جيش المهدي، الذي تشكل بداية الاحتلال، أو المجموعات التي انشقت عنه لاحقا، أو مع بعض المجموعات المسلحة التي لها علاقة عضوية بإيران، تحديدا في محافظة البصرة التي كانت خاضعة للسيطرة البريطانية.
وكانت اللحظة الأكثر رمزية في هذه اللعبة المزدوجة التي مارسها الطرفان الأمريكي والإيراني، هي اتفاقهما على تأييد الولاية الثانية لرئيس مجلس الوزراء نوري المالكي في العام 2010.
فالأمريكيون كانوا يرغبون في استمرار «الهدوء الهش» الذي حققته خطة زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق، من اجل تأمين انسحابهم الذي قرر في نهاية العام 2011. والإيرانيون بدأوا يقتنعون أن المالكي، الذي لم يكن حتى تلك اللحظة رجلهم الحقيقي في العراق، هو الأقدر على الحفاظ على هيمنة الفاعل الشيعي على الدولة في العراق، وهي الهيمنة التي تصب في النهاية في صالح المشروع الإيراني. وقد أثبتت الوقائع اللاحقة، تحديدا بعد بداية الثورة السورية، أن القراءة الإيرانية للمشهد العراقي كانت دقيقة إلى حد بعيد.
بعد دخول تنظيم الدولة/ داعش إلى الموصل، استمر التعاطي الأمريكي والإيراني كليهما بالاستراتيجية المزدوجة نفسها، وبدا الفاعل السياسي الشيعي القابض على السلطة في العراق، منسجما تماما مع هذا التعاطي! ومع حرص أمريكا على إبعاد إيران عن التحالف الدولي الذي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة داعش، فإنها كانت تدرك جيدا بان الدور الإيراني في هذه المواجهة اخذ شكلا تصاعديا، مع تحول الميليشيات التابعة لها في العراق إلى قوة حقيقية عبر إنشاء هيئة الحشد الشعبي، والتي استخدمت فتوى السيد السيستاني لإضفاء الشرعية على نشاطها على الأرض الذي كان سابقا لهذه الفتوى.
وعلى الأرض أيضا كان الأمريكيون يغضون الطرف عن تسليح هذه الميليشيات بالأسلحة الأمريكية، ولم يبدوا أي اعتراض ماعدا فيما اختص بالتحويرات التي تقوم بها هذه الميليشيات على الأسلحة الأمريكية! وقد سكتوا أيضا عن الانتهاكات التي تقوم بها، والتي وصفها تقرير لجنة حقوق الإنسان في مرحلة مبكرة بانها جرائم ضد الإنسانية ترقى إلى أن تكون جرائم حرب! بل إن الأمريكيين وفروا دعما جويا لهذه الميليشيات في الكثير من المعارك، تحديدا في معركة بيجي والفلوجة! وظلت المحاولات الأمريكية في إطار «تخفيف الحساسيات» من مشاركة هذه الميليشيات في بعض المناطق، أكثر منه موقفا رافضا لها.
فهل تشكل المكالمة بين ترامب والعبادي بداية تحول الموقف الأمريكي عن قواعد اللعبة المزدوجة تجاه إيران والتي مورست فعليا كل هذه السنوات الماضية؟
تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب أثناء حملته الانتخابات تكشف أن الرجل، مثل سابقه، ليست لديه استراتيجية عمل واضحة في العراق، وأن موقفه من إيران يتعلق بالملف النووي الإيراني أكثر من النفوذ الإيراني في المنطقة. تحديدا في الموضوعين اللذين تم «إخفاؤها» عراقيا! والمتعلقة بالموقف من «الخطر» الإيراني في المنطقة، وزيادة عدد القوات الأمريكية في العراقية، وتبدو ملامح استراتيجية الرئيس ترامب المستقبلية تجاه العراق متجهة نحو محاولة إبعاده عن إيران وضمه إلى تحالف أمريكي جديد من جهة. وربط النفوذ الإيراني في المنطقة بملفها النووي من جهة أخرى!
مع ذلك، من المبكر الإقرار بوجود هكذا خطط، ولكن من المؤكد في السياق نفسه أن اللعبة المزدوجة لم تعد صالحة في العراق أبدا.