بورتريه

موت هادئ لرجل اصطدم مع جميع الأنظمة بمصر

عمر عبد الرحمن
كثرت ألقابه فهو "الضرير المبصر"، "مفتي الجهاد"، "سجين النوايا" و"عدو الأنظمة".. وغيرها!

وكثر اللغط والكلام من حوله في حياته وفي مماته، وانتهت حياته الصاخبة مع جميع الأنظمة التي حكمت مصر منذ ثورة 23 يوليو عام 1952 وحتى رحيله بموت هادئ في السجون الأمريكية دون ضجيج.

ضرير، ومصاب بأمراض عدة كان من بينها سرطان البنكرياس والسكري، والروماتيزم والصداع المزمن، وأمراض القلب والضغط وعدم القدرة على الحركة إلا على كرسي متحرك.

عمر عبد الرحمن المولود بمدينة الجمالية بالدقهلية عام 1938، فقد البصر بعد عشرة أشهر من ولادته، حصل على الثانوية الأزهرية عام 1960، والتحق بكلية أصول الدين بالقاهرة وتخرج منها في عام 1965، ثم حصل على شهادة الماجستير، وعمل معيدا بالكلية مع استمراره بالخطابة متطوعا.

أوقف عن العمل في كلية أصول الدين عام 1969، ونقل من الجامعة إلى إدارة الأزهر بدون عمل، واستمرت المضايقات على هذا الحال، حتى اعتقاله في عام 1970 بعد وفاة جمال عبد الناصر.

بعد الإفراج عنه، تمكن من الحصول على شهادة دكتوراه وكان موضوعها "موقف القرآن من خصومه كما تصوره سورة التوبة"، وحصل على "رسالة العالمية" إلا أن ذلك لم يشفع له فمنع من التعين.

واستمر المنع حتى عام 1973 بعد أن استدعته الجامعة وأخبرته عن وجود وظائف شاغرة بكلية البنات وأصول الدين، واختار أسيوط، ومكث بالكلية أربع سنوات حتى عام 1977، ثم أعير إلى كلية البنات بالرياض حتى عام 1980، عاد بعدها إلى مصر.

اعتقل في عام 1981 ضمن قرارات التحفظ، بعد محاولته الهرب، وجرت محاكمته في قضية اغتيال السادات أمام المحكمة العسكرية ومحكمة أمن الدولة العليا، ورغم البراءة، ظل عبد الرحمن سجينا بعد أن قدم لمحكمة أمن الدولة العليا مرة أخرى بتهمة "قيادة تنظيم الجهاد وتولى مهمة الإفتاء بالتنظيم"، غير أنه حصل على البراءة أيضا في هذه القضية، التي استمرت ثلاث سنوات.

وبعد خروجه من السجن عام 1984، عاد مرة أخرى إلى الدعوة تحت مظلة "تنظيم الجهاد"، وسط مساومات من جانب الأجهزة الأمنية لتحجيم حركته، حتى فرض عليه الأمن الإقامة الجبرية بمنزله.

وفي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، سافر عبد الرحمن لأداء العمرة، ومن هناك توجه لعدة دول منها باكستان حيث التقى بقادة "الجهاديين" في معسكرات "المجاهدين" في بيشاور، وكانت محطته التالية السودان، وتمكن من الحصول على تأشيرة الدخول للولايات المتحدة من السفارة الأمريكية في الخرطوم عام 1990.

سافر إلى الولايات المتحدة ليقيم في ولاية نيوجرسي.

وإثر إدانته عام 1995 بالتورط في تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993، الذي أسفر عن مقتل ستة أشخاص، وإصابة أكثر من ألف آخرين، والتخطيط لشن اعتداءات أخرى بينها مهاجمة مقر الأمم المتحدة"، حُكم عليه بالسجن المؤبد وهي الاتهامات التي كان ينفيها بشدة.

 وفي السجن أعلن تأييده لمبادرة وقف العنف التي أعلنتها "الجماعة الإسلامية" بمصر عام 1997، بينما يؤكد زعيم تنظيم "القاعدة أيمن الظواهري" أن عمر عبد الرحمن بعث رسالة شديدة اللهجة إلى قيادات "الجماعة" وقتها يعنفهم فيها على صياغتهم لمبادرة وقف العنف التي أبرمت بين قيادات "الجماعة" والنظام المصري، ويعلن بشكل قاطع رفضه لهذه الخطوات، ويؤيد رفض مبادرة وقف العنف ويعتبرها تراجعات فكرية وليست مراجعات.

أمضى عبد الرحمن حياته في الولايات المتحدة في حبس انفرادي بلا مرافق، وبلا اتصالات خارجية، مما جعل المجتمع المدني يتدخل للوقوف معه، وكانت من بينهم المحامية الناشطة الحقوقية إلين ستيورات التي كانت تدافع عنه، والتي تم سجنها بتهمة مساعدته وتوصيل رسائله إلي أسرته وتلاميذه.

وبعد جهود قادها محاميه منتصر الزيات في مصر ورمزي كلارك في الولايات المتحدة سمح له بمكالمة هاتفية كل 15 يوما تتيحها له إدارة السجون الأمريكية.

وسبق أن حصلت هيئة الدفاع عنه على موافقة أمريكية بدراسة أمر نقله من سجنه بالولايات المتحدة إلى السجن في أي دولة أخرى، بشرط وصول موافقة من هذه الدولة، ورفضت الحكومات المصرية المتعاقبة تسلمه وحبسه بالسجون المصرية، دون أن تقدم أسبابا، وفق العائلة، رغم عرض واشنطن ذلك أكثر من مرة.

وتزايدت آمال عائلته بالإفراج عنه من السجون الأمريكية في أعقاب ثورة 25 يناير ووصول "جماعة الإخوان المسلمين" إلى الحكم، وتولي الرئيس محمد مرسي الرئاسة، وإطلاق وعد بالإفراج عنه في عام 2012.

وكان عبد الرحمن بعث برسالة من داخل سجنه أيد فيها انتخاب مرسي، ثم هنأه بعد ذلك بالفوز وتولي الرئاسة في مصر.

وأكد مرسي في أول خطاب له بميدان التحرير، في يونيو/ حزيران عام 2012، على أنه سيبذل جهده لإطلاق سراح عبد الرحمن.

وإبان حكم مرسي اعتصم عدد من أعضاء "الجماعة الإسلامية" أمام مقر السفارة الأمريكية لشهور مطالبين بالإفراج عنه، لكن الحكومة الأمريكية رفضت جميع المطالب الرسمية وغير الرسمية بإخلاء سبيله.

وكان عمر عبد الرحمن اشتكى في آخر اتصال مع أسرته مطلع الشهر الجاري من زيادة القيود التي فرضتها سلطات السجن في أمريكا عليه، عقب تولي دونالد ترمب الرئاسة، ومنها مصادرة الأدوية وجهاز الراديو، قبل أن تبلغ الإدارة الأمريكية زوجته باستعدادها لنقل عبد الرحمن لإكمال عقوبة السجن في بلاده.

 وعزت عائلته قبول السلطات الأمريكية بتسليم عبد الرحمن إلى التراجع الشديد في حالته الصحية، لكن الوقت لم يمهله.

كما كشفت "الجماعة الإسلامية"، قبل ساعات من وفاته، عن جهود مكثفة تبذل لنقله إلى قطر، وذلك بعد إبلاغ الإدارة الأمريكية استعدادها لترحيله إلى أي بلد عربي أو إسلامي ترغب في استقباله بعد تدهور صحته وفقدانه القدرة على النطق والحركة.

وأكد هذه الروايات المستشار الإعلامي في "الجماعة الإسلامية" خالد الشريف والذي أشار إلى أن قادة "حزب البناء والتنمية" الذراع السياسي للجماعة وعدة شخصيات إسلامية وعربية على رأسها رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي، تواصلت مع الجهات القطرية للموافقة على استقبال عمر عبد الرحمن.

واتهم الشريف، السلطات الأمريكية بالكشف عن ملابسات تدهور الحالة الصحية لعمر عبد الرحمن بعد إضرابه عن تناول الدواء احتجاجا على سوء المعاملة ومنعه من الاتصال التليفوني بأسرته.

وقال إن "السلطات الأمريكية مارست القتل البطيء بحق الشيخ الضرير وتعمدت إيذاءه ومنعه من حقوقه الإنسانية بعد أن لفقت له التهم وسجنته ظلما مدى الحياة" بحسب شريف.

وكان الأكثر إثارة في وفاة عبد الرحمن موافقة الحكومة المصرية على استقبال جثمانه ليدفن في مسقط رأسه بهدوء ودون مشاكل أو صدامات مع النظام وأجهزته.

وهو الرجل الذي حرم صلاة الجنازة على جثمان الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر وكفره، وفتوى أخرى بوجوب إسقاط نظام السادات واستحلال دمه لعقده معاهدة صلح مع "إسرائيل".

ومن أبرز فتاوى عبد الرحمن التي كانت سببا في الصدام بينه وبين النظام المصري والسلطات الأمريكية فتواه باستهداف الطائرات والمصالح الإسرائيلية الأمريكية، وفتواه لمنفذي تفجيرات نيويورك عام 1993 التي نفاها هو، وكذلك فتواه للمصري السيد نصير الذي أدين بتهمة التورط في قتل الحاخام مائير كاهانا زعيم حركة "كأخ" المتطرفة في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1990، فضلا عن أنه أعلن تبرؤه من مراجعات "الجماعة الإسلامية"، كما رفض المراجعات في عام 2000.

ويقول بعض المتابعين لسيرة الرجل إن فتواه كانت وراء تكفير فرج فودة، ونجيب محفوظ.

واعترف قاتل فرج فودة أنه نفذ فتوى عبد الرحمن التي أشارت إلى أنه لا إثم شرعيا يقع بقتله، وفي العام 1994 اعترف شخص حاول اغتيال الكاتب نجيب محفوظ تنفيذا لفتوى أمير الجماعة عمر عبد الرحمن بزعم أن محفوظ هاجم الإسلام في كتبه لذا يستحل دمه.

رحيل بدون عواصف وحروب كلاميه لشيخ أزهري، لم يعترف حتى رحيله بأي من التهم التي نسبت إليه أو فيما يتعلق بنتائج فتواه، واستقبال هادئ دون عقبات لجثمانه من نظام يعادي كل ما يتعلق بالإسلام السياسي.