هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث
المؤلف: د. غالي شُكري
الناشر: وزارة الثقافة المصرية، الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة 2020
لعل من فضلة القول إن نهضة مصر في عصر محمد علي (1805 ـ 1847) رافقت نهضة اليابان، ما يطرح السؤال: لماذا وصلت اليابان إلى ما وصلت إليه، بينما تراجعت مصر كل هذه المسافة؟!
لأن الكتاب هو في عِلم الاجتماع الثقافي المعاصر، نجد المؤلف قد بدأه بمدخل عن اتجاهات هذا العِلم، مركِّزًا على التيار الفرنسي، في نشأته، وتطوره. أما الإطار التاريخي لهذه الدراسة الأكاديمية الرصينة، فكان ما بين عصريْ محمد علي، وعبد الناصر. وقد استخدم شُكري النقد الاجتماعي المقارن أداة للتحليل، متتبعًا خطوات النهوض، والسقوط، على حد سواء.
خصَّص المؤلف القسم الأول من كتابه للإطار الاجتماعي للثقافة والثورة في مصر المعاصرة؛ بادئًا بالفصل الأول، تحت عنوان "الثقافة المصرية في مفترق الطرق"، منذ فجر النهضة (محمد علي)، إلى مرحلة الغليان، ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، فحركة الجيش (23 تموز/ يوليو 1952)، وعلاقتها بالديمقراطية، وانعكاسها على المناخ الثقافي، فالأزمة بين اليمين، واليسار، إلى تحوُّلات الستينيات الاجتماعية، وأثرها على الثقافة، واحتدام الصراع الأيديولوجي، عشية هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وغداتها، وكيف عكس التناقض بين الشكل، والمضمون في الثقافة المصرية، مكونات الشرخ الاجتماعي، فضلًا عن أحوال كل من الشباب، والعمال، والمثقفين (1968 ـ 1973)، وصولًا إلى الظواهر الجديدة: الهوية الاجتماعية، والانتحار، والصمت، والجنون.
ما من أحد يُنكر ما كان للثقافة المصرية في العصر الحديث من أثر بعيد في تكوين الأجيال العربية المتلاحقة، على مدى قرنين من الزمان. وقد يؤرخ البعض لبدايات هذه النهضة باليقظة القومية، التي أثارتها الحملة الفرنسية على مصر، أواخر القرن الثامن عشر، بينما البعض الآخر يؤرِّخ لها بتأسيس محمد علي للدولة الحديثة في مصر، وتمثَّلت البداية في الكفاح ضد الاستعمار، والتخلُّف. ما ولَّد قوى طبقية جديدة (البرجوازية)، التي نشأت ضعيفة، في حضن التجارة، ثم قويت بالأرض، والزراعة، والجسم البروقراطي لدولة الموظفين، قبل أن تكبر مع الصناعة، والماكينات. وظلت البرجوازية مرتبطة الوسائل، والغايات ببقية طبقات المجتمع المصري.
وكانت شيخوخة "حزب الوفد" إعلانًا لنهاية الدور التاريخي للبرجوازية المصرية. وجاء طه حسين ليُعلن أن "مستقبل الثقافة في مصر" هو الديمقراطية، وحدها. "وما أنبل الدفاع في قضية خاسرة"؛ لقد خسرت البرجوازية المصرية "معركتها"، قبيل الحرب العالمية الثانية، وظلت تصارع الموت، حتى العام 1952، ولعل قيام "اللجنة الوطنية للطلبة والعمال"، العام 1946، كان المؤشِّر الحاسم إلى أن البديل الوحيد للنظام المهتريء هو الجبهة الوطنية التقدُّمية.
غير أن تفتُّت التنظيمات الشعبية، وتشتُّتها، وشراسة التناقضات داخلها، أعاق قيام هذه الجبهة. وقد انعكست هذه المفارقة على الثقافة المصرية، بتعدُّد المنابر، والاتجاهات الفكرية، ومثَّل التاريخ الإسلامي "المهرب الوحيد"، بينما اتجه الجيل البرجوازي الجديد إلى الرومانتيكية، وربما كان الشعر هو أنضج تعبيرات هذا الاتجاه؛ وبذا، حصلت البرجوازية المصرية الكبيرة خاصة في الميدان الثقافي، على مكاسب سلبية، بهروب الكثيرين إلى الماضي، وبقوقعة المجتمع المصري داخل الحدود الإقليمية (ص 52 ـ 56).
لم يكن الشارع الثقافي موازيًا للشارع السياسي، حين أقبلت الطليعة العسكرية لتُغيِّره (23 تموز/ يوليو 1952)، وتركت الجو الثقافي يمرح ، بلا ضوابط، أو ضغوط. وهنا بدأ الانشقاق الحديث في الثقافة المصرية، بين الليبرالية، والراديكالية، بين اليمين واليسار (ص 60 ـ 62).
لقد خسرت البرجوازية المصرية "معركتها"، قبيل الحرب العالمية الثانية، وظلت تصارع الموت، حتى العام 1952، ولعل قيام "اللجنة الوطنية للطلبة والعمال"، العام 1946، كان المؤشِّر الحاسم إلى أن البديل الوحيد للنظام المهتريء هو الجبهة الوطنية التقدُّمية.
أما أن الجناح اليساري في مجلس قيادة الثورة قد اختار التنحي عن مواقع المسؤلية، ويقصد المؤلف هنا كلًا من يوسف صدِّيق، وخالد محيي الدين (ص 63)، فمردود عليه بأن الإثنين تم إقصاؤهما، عنوةً، ولم يختاروا التنحيّ.
نأتي إلى قول شكري، في الصفحة نفسها، إن إعدام العاملين خميس، والبقري، في كفرالدوار (أيلول/ سبتمبر 1952)، ثم إعدام بعض أقطاب الإخوان (خريف 1954)، قد بلور، إلى حد كبير، التعبير السياسي للثورة عن طموحات البرجوازية المتوسطة، الأمر الذي تأكد بعد قوانين الإصلاح الزراعي، وتمصير البنوك الأجنبية، واتفاقية الجلاء. فلا أدري كيف تكون الإعدامات التعسفية، الجائرة تعبيرًا عن البرجوازية المتوسطة؟! خاصةً مع تعامل "حركة الجيش" الملطَّف مع المالك الكبير، عدلي لملوم، الذي قاوم السلطة بالسلاح، عندما أتت لمصادرة جزءًا من أراضيه؟!
اتخذت "الثورة" قرارين ثقافيين خطيرين، أولهما مجانية التعليم، وثانيهما حق الأديب والفنان في التفرُّغ والإبداع، وإن لم يُعطيا ثمارهما المرجوة؛ لهيمنة الأطقم المحافظة على مقاليد السلطة، في الجامعات، ومؤسسات الثقافة (ص 65).
أشار شُكري إلى أن سبب اعتقال اليساريين في "الجمهورية العربية المتحدة" (شتاء، وربيع 1959)، كان اقتراب اليسار من محطة التوحيد. ويبدو أن المؤلِّف لم يطلع على وثائق الخارجية الأمريكية المنشورة، والمتضمنة تقريرًا للسفير الأمريكي في مصر (مطلع كانون الثاني/ يناير 1958)، أكَّد فيه أن محمد حسنين هيكل، المقرَّب جدًا من عبد الناصر، قد زاره، وأبلغه بأن عبد الناصر يؤكِّد لواشنطن بأن الوحدة المصرية ـ السورية ليست ضد أمريكا، بل ضد الشيوعيين! فضلًا عن تقرير لاحق، أشار فيه السفير نفسه بأن عبد الناصر التقاه في احتفال لإحدى السفارات، واستفسر منه عما إذا كان هيكل قد قابله، فطمأنه السفير بأنه التقاه، وأبلغه بما كان!
وقد أدت حملات الاعتقال اللاحقة للوحدة هذا التوجُّه. وإن كان عبد الناصر قد مارس النقد الذاتي، غداة الانفصال على ضربه القوى التقدُّمية! وحين زار الرئيس السوفياتي، نيكيتا خروشوف مصر، ربيع 1964، صدر بيان مشترك، اعترف فيه عبد الناصر بأن اعتقالات الشيوعيين (1959 ـ 1964) هي "من أخطاء الماضي"!
المؤلِّف لم يطلع على وثائق الخارجية الأمريكية المنشورة، والمتضمنة تقريرًا للسفير الأمريكي في مصر (مطلع كانون الثاني/ يناير 1958)، أكَّد فيه أن محمد حسنين هيكل، المقرَّب جدًا من عبد الناصر، قد زاره، وأبلغه بأن عبد الناصر يؤكِّد لواشنطن بأن الوحدة المصرية ـ السورية ليست ضد أمريكا، بل ضد الشيوعيين!
على أن حقبة عبد الناصر انتهت بوفاته (28/ 9/ 1970)؛ بعد أن كان البيت آيلًا للسقوط، ولكن أصحابه هيأوا المناخ للعدو المتربص في صمت أن يتعجَّل طريقه إلى إلحاق الهزيمة بالعرب، في حرب 1967.
جاء القِسم الثاني "جدلية النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث"، وقد تضمن فصلين، أولهما "من الحق الإلهي إلى العقد الاجتماعي"، بادئًا بإلقاء الضوء على اللقاء بالحضارة الغربية الحديثة، الذي تم على يدي محمد علي باشا، ومن قبله الحملة الفرنسية على مصر، إلى ثنائية الإسلام والغرب في تكوين المثقَّف المصري، آنذاك، فتوزع، بين النقل والإبداع، بين الرؤيا والواقع، في مواجهة الهوة بين البشارة الفكرية، والبناء الاجتماعي، وهيكل السلطة، مع ازدواج الموقف من التراث والعصر، وبدايات الحل التوفيقي لإشكالية التخلف، والتقدُّم، وظهور براغماتية "الاستهلاك"، الجانب المادي من منجزات الحضارة الحديثة، ثم سقوط النهضة الأولى، ليظهر جمال الدين الأفغاني، وتبدأ النهضة الثانية، الوضع الذي عبَّر عنه أحمد عرابي، وعبد الله النديم، قبل أن يمتد الجِسر اللبناني في النهضة، من بطرس البستاني، إلى شبلي شميِّل، وفرح أنطون، وأديب إسحاق، ويعقوب صنُّوع، ومارون نقَّاش، إلى أن كانت معركة تحرير المرأة، ورائدها قاسم أمين.
في الفصل الثاني، ألقى المؤلِّف حزمة من الأضواء على ما أسماه "معارك العقل والديمقراطية تحت الحكم الدستوري"؛ بدءًا من معركة الشيخ علي عبد الرازق، وكتابه "الإسلام وأصول الحكم"، الذي دعا فيه إلى فصل الدين عن الدولة، وتداعيات دعوته هذه، ثم معركة طه حسين، وكتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي اعتمد منهج الشك الديكارتي، واعتبر شكري ظاهرة عبد الرازق، وحسين امتدادًا لأحد جذور النهضة الأولى. ثم كان سقوط النهضة الثالثة.
في "نتائج البحث"، عالج المؤلف خصوصية التطور، وعناصر التحدي والاستجابة، كما قارن بين نظاميْ محمد علي، وعبد الناصر. وتعامل شكري مع عروبة مصر، واستقلالها الوطني، كاشفًا الطبقات الإقليمية المتحالفة مع الأجنبي، في مجتمعٍ متخلِّف.
ألحق المؤلف جُملة من الهوامش على هذا كله؛ أكَّدت على أن شرارة النهضة الأولى أسبق من الاحتكاك بالغرب، ومن حكم محمد علي. وأجرى شُكري مقارنات ضرورية، بين الأمة والوطن، والتأصيل والمعاصرة، والثوابت والمتغيرات، وبين مقولة "مصر قُطر نامٍ" أم "عالم متطور"، إلى المقوِّمات، الداخلية والخارجية، من أجل برنامج جديد للنهضة.
***
وبعد، فنحن أمام كتاب فريد في علم الاجتماع الثقافي، لمفكِّر وناقد أدبي مُخضرم، مرموق، بتحليل شامل للفكر المصري الحديث، رائدًا في تناول ظاهرة النهضة، كوجه لظاهرة السقوط.
لكن شكري لم يُركِّز على إصرار تغييب عبد الناصر للديمقراطية؛ ما أوهن الجبهة الداخلية، وترك الفساد، والاستبداد يرتعان، ودمَّر القوى السياسية الفاعلة، من اليمين واليسار؛ فكانت الهزائم العسكرية، التي عجزت أجهزة الإعلام المصرية عن إخفائها، أو تجميلها.
إلى ذلك، لماذا لم يُشِر المؤلف إلى ولع عبد الناصر بالانتقاء في الفكر، والتجريب في الممارسة، وهما اللذان توليا نقل عبد الناصر من المرحلة الوطنية البحتة (1952 ـ 1954)، إلى مشارف القومية (1954 ـ 1956)، فالتوغُّل في القومية (1958 ـ 1961)، وخلالها لم ير عبد الناصر عيبًا في التنسيق مع واشنطن، في سبيل إسقاط حكم عبد الكريم قاسم الوطني الديمقراطي في العراق، الذي كان كل ما فعله أنه طلب تأجيل انضمام العراق إلى "الجمهورية العربية المتحدة"، في وحدة فورية اندماجية، والبدء باتحاد كونفدرالي، يتدرج إلى الوحدة، حتى تتجنب الوحدة الجديدة الأخطاء التي كانت في إجراءات الوحدة مع سوريا. والمفارقة أن عبد الناصر دلف إلى مرحلة "الاشتراكية" في عِز هذا النسيق (صيف 1961)!
يبقى أن هذا الكتاب بالغ الأهمية، لكل من يريد أن يُلِم بتطور مصر، السياسي والثقافي، منذ حقبة محمد علي، وحتى نهاية حقبة الناصرية. وإن كان من الأفضل أن تُجري دار النشر تعديلات طفيفة في الداخل، بعد مرور نحو نصف قرن على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، بدل أن تكتفي الدار بشطب إهداء المؤلِّف كتابه هذا إلى مناضل، ومفكِّر تم اغتياله، بوزن إسماعيل المهدوي.