أفكَار

البشري.. المؤرخ المسكون بتجسير العلاقة بين مكونات الأمة

الراحل طارق البشري كان داعية الحوار والمصالحة والإصلاح والديمقراطية  (فيسبوك)
الراحل طارق البشري كان داعية الحوار والمصالحة والإصلاح والديمقراطية (فيسبوك)

كثيرا ما يكون الموت عاملا مهما لتحريك الانتباه إلى مشاريع فكرية لعظماء لم ينالوا حظهم الكافي من الدراسة، ولم تحظ رؤيتهم الفكرية والسياسية بما تستحق من بحث وتمحيص وتقليب نظر، لكن بالنسبة إلى المستشار طارق البشري، رحمه الله، فقد كان هناك طلب كثيف على كتاباته ودراساته ورؤاه الفكرية، ليس لأن الرجل يحمل تراكما معرفيا كبيرا، ولكن، لأن طريقه ومنهجه في التفكير تحمل شيئا مختلفا، فالرجل، كان يسكنه هم بناء الجماعة الوطنية، وكان يقرأ تاريخ مصر من وحي هذا الهم، بل ويقرأ تجارب الحريات السياسية والفكرية من هذه الزاوية، ويعالج الإشكالات التي يعاني منها المشهد الفكري والسياسي من الزاوية نفسها، بل ويؤصل لمدخل الإصلاح من نفس المشكاة.

الكثيرون تحدثوا عن الصفة التأريخية للرجل، فقد كتب يحلل تاريخ مصر السياسي، وكتب دراسات تقرأ تجارب الحركات السياسية فيها، بل وتجارب الشخصيات التاريخية مثل سعد زغلول ومصطفى النحاس وعبد الرحمان الرفاعي وأحمد حسين، لكن الاندماج في حقل الـتاريخ، وممارسة مهمة المؤرخ، لم تكن بمعزل عن هذه الرؤية، بل كثيرا ما صرح البشري في كتاباته، أن الداعي لتناول هذه الأحداث بالتفسير هو بناء الجماعة الوطنية، والبحث عن جامع يصهر المكونات السياسية المختلفة، في مشروع إصلاحي واحد يشتغل داخل السقف الوطني.

الحركات الإصلاحية من زاوية التأصيل بناء الجماعة الوطنية

فالذي يقرأ رؤيته لتطور الحركات الإصلاحية، تستوقفه نظرته التفسيرية الخاصة، فالرجل لا يرى أي قطيعة في تطور الحركة السياسية الإصلاحية في مصر، بل إنه يتبنى مقولة الامتداد التاريخي للحركة الإصلاحية، فيرصد في التاريخ حركتين إصلاحيتين متضاربتين، تلتهما حركات إصلاحية أخرى.

الأولى: حركة التجديد الفقهي والفكري التي استفتحتها ابن عبد الوهاب في نجد في القرن الثامن عشر، والثانية، كانت مع حركة الإصلاح المؤسسي التي قامت مع نهايات القرن الثامن عشر ونهايات القرن التاسع عشر، على امتداد السلطة المركزية للدولة العثمانية بين إسطنبول والقاهرة، ولاحظ البشري حالة الانفصام بين الحركتين، انعكست في الازدواجية بين الأبنية التقليدية وبين الأبنية الحديثة نظما وفكرا، وأن ذلك ما برر ظهور الموجة الإصلاحية الثانية، مستفتحة برجال الإصلاح مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد شريد رضا، لتعقبها بعد ذلك موجة أخرى من الحركات الإصلاحية بعد الحرب العالمية  الأولى، هي الحركات الإسلامية.

والذي يقرأ كتابه الحركة السياسية في مصر، أو كتابه "شخصيات تاريخية"، تستوقفه مرة أخرى رؤيته التأريخية الزاوية التي يقرأ من خلالها تنوع المضمون الإصلاحي والسياسي، فالرجل، قيد اهتمامه بالبحث في الحركات والمؤسسات، فما ليس حركيا، لا يشغب نفسه به، وركز في دراساته على الجامع الذي ينظم هذه الحركات، رغم اختلافها وتباينها بمعايير المضمون والشكل السياسي، وهو فكرها السياسي، وأسلوبها في تنزيل فكرها على واقع الأرض، وطريقة استجابة زعمائها للأحداث والتحديات والإكراهات الواقعية.

فما كان يشغل الرجل في دراسة الفكر السياسي لهذه الحركات وزعمائها هو النظر إلى الجماعة الوطنية وذلك بقصد تكوين جامع وبناء وحدة وطنية متماسكة، يلتقي عليها المخلصون من كل المكونات السياسية لخدمة الوطن وأداء مهمات الإصلاح فيه.

لم يكن المستشار طارق البشري مشغولا بفكرة إثبات التباينات بين المكونات السياسية التي عرفتها مصر، بل على العكس من ذلك تماما، فقد كان ينظر لفائلها المختلفة على أساس أنها تمثل مكونات الجماعة الوطنية، التي يحتفظ كل واحد منها بأسلوبه في الدفاع عن المرجعية الإسلامية، والحفاظ على وحدة الوطن ضد الأجنبي المستعمر، وبناء الدولة الوطنية، وتحقيق التنمية والإصلاح. ومن جميل استعارات طارق البشري أنه كان يعتبر الجماعة الوطنية شجرة جامعة، بأفرع كثيرة حاول في كتابه شخصيات تاريخية دراسة أربعة أفرع لها، وتمنى لو تتاح له الفرصة لدراسة أفرع أخرى لم يتناولها من قبل البحث.

طارق البشري والطموح لبناء تيار أساسي للأمة

ويمثل كتاب طارق البشري، "نحن تيار أساسي للأمة"، وكذا كتابه "الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر" نموذجا للإنتاج الفكري الذي حاول بلورة المشروع الوطني، أو فكرة التيار الأساسي في الأمة، الذي يجمع كل المكونات والأطياف ضمن توليفة تحترم صيغ التعدد وتدبير الخلاف، وتنضبط للأطر الدستورية الجامعة، وتحترم المؤسسات، وتتأطر بسقف وطني من الأهداف التي لا يخرج عنها أحد. 

والفكرة في حقيقتها هي ثمرة نقد لمسار الصراع بين التيارات الفكرية والسياسية التي عرفها الوطن العربي، ومحاولة للتأسيس للمصالحة بين جهود المكونات الفكرية والسياسية داخل الأمة، أي بين جهود الإصلاح الفكري الذي اضطلعت بها تيارات الأمة المختلفة، وجهود الإصلاح المؤسساتي التي اضطلعت بها النظم السياسية منذ تأسيس الدولة القومية. 

يقول طارق البشري موضحا فكرة التيار الأساسي للأمة: "يقصد بالتيار السياسي للأمة الإطار الجامع لقوى الجماعة والحاضن لها، وهو الذي يجمعها ويحافظ على تعددها وتنوعها في الوقت ذاته. إنه ما يعبر عن وحدة الجماعة من حيث الخطوط العريضة للمكون الثقافي العام، ومن حيث إدراك المصالح العامة لهذه الجماعة، دون أن يخل ذلك بإمكانات التعدد والتنوع والخلاف داخل هذه الوحدة". 

ويعرف البشري المشروع الوطني الذي يدعو إليه بقوله: "إنه في ظني الخطوط العامة لما يتراضى على إنجازه أهل جيل أو أهل مرحلة تاريخية معينة، وهو مجمل الأهداف التي تبدو في مرحلة تاريخية أنها تشكل أهم ما يتعين تحقيقه، هو إجمالي ما يتراءى لأهل تلك المرحلة من مشاكل لجماعتهم ومن وجوه لحلها".
 
ويدقق البشري في كتاب آخر، مفهوم المشروع الوطني الذي يدعو إليه، فيرى أنه:" مجمل الأهداف التي يتراضى أهل جيل معين أو مرحلة تاريخية معينة على إنجازها، وهي تكون على قدر من الترابط والتكامل، بحيث إنه فيما يتحقق من تفاصيل، يكون تصورا شاملا للأوضاع الاجتماعية المطلوبة. فثمة مفردات بناء وتشييد، سياسي واجتماعي واقتصادي، يتعلق ببناء المؤسسات وبالإنتاج، وبالسياسات الداخلية والخارجية، وهي مفردات تتشكل منها رؤية عامة".

طارق البشري وتجسير العلاقة بين القوميين والإسلاميين وبين الإسلاميين والعلمانيين

وقد بلغت هم بناء التيار الأساسي للأمة في فكر طارق البشري إلى درجة البحث المتواصل من أجل تجسير العلاقة بين مكونات الأمة، لاسيما التي تعرف احترابا فكريا وسياسيا (الإسلاميون والقوميون) أو التي تعرف حالة من الصراع الوجودي (الإسلاميون والعلمانيون)، وقد سعى طارق البشري من خلال كتابه "الإسلام والعروبة" إلى التأصيل لقاعدة فكرية وسياسية تنهي الخصومة بين الإسلام والقومية، وتجسر العلاقة بينهما، وتجمد الخلافات الثانوية بين تياري الأمة الأساسيين الإسلامي والقومي، تصرفهما إلى الإجابة عن التناقض الأساسي المتمثل في مناهضة الامبريالية والصهيونية.

وعلى الرغم من أنه لاحظ جدية الحوار الإسلامي القومي وصراحته وكثرة نقاط الالتقاء بين التيارين القومي والإسلامي، وذلك بالمقارنة مع ملاحظته للطابع المراوغ للحوار الإسلامي العلماني، ومحدودية الجدية فيه، إلا أنه أصر على خوض تمرين الحوار لتجسير العلاقة بين مكونات الأمة، فكتب كتابا بعنوان: "الحوار الإسلامي العلماني" بقصد التوصل إلى التقارب المنشود بين هذين المكونين الأساسيين في الأمة.

 

المثير في التنقيب التاريخي الذي قام به البشري، قطعه بأن نشأة العلمانية العربية كانت وطنية، تحمل الهم الوطني، وأنه لم يظهر في الوطن العربي لأول مرة، تيار علماني على شاكلة ما وقع في تركيا في عهد أتاتورك، بل إن ما يميز هذه العلمانية الوطنية العربية حرصها الكبير على استمالة الشعور الديني السياسي للجماهير،

 



وقد التزم طارق البشري مرة أخرى منهج التنقيب التأريخي، وتوقف عند نشأة العلمانية العربية، وتكوينها الفكري، وأشكال توطين المشاريع الغربية في الوطن العربي، وخلص في استقرائه التأريخي إلى أن الفكرة العلمانية في العالم العربي لم تكن يوما ما مصدرا للشرعية ولا معايير للاحتكام، فلم تتعد في شتى تلويناتها ومستوياتها كونها نماذج تنظيمية تقتبس لإدارة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية (النظام النيابي الدستوري، أشكال نظم شركات الأموال في النشاط الاقتصادي، أشكال نظم الجمعيات الخيرية والتعاونية في الأنشطة الاجتماعية وغيرها من المؤسسات الأخرى)، بينما بقيت التكوينات الفكرية والصياغات الوجدانية ورؤى المستقبل وتصورات المدنية الفاضلة للإنسان العربي ومعايير التحاكم في السلوك والتعامل والتداول استمرت إسلامية تنهل من الإسلام باعتباره مصدرا للشرعية والاحتكام.

والمثير في التنقيب التاريخي الذي قام به البشري، قطعه بأن نشأة العلمانية العربية كانت وطنية، تحمل الهم الوطني، وأنه لم يظهر في الوطن العربي لأول مرة، تيار علماني على شاكلة ما وقع في تركيا في عهد أتاتورك، بل إن ما يميز هذه العلمانية الوطنية العربية حرصها الكبير على استمالة الشعور الديني السياسي للجماهير، وأنها إنما وصفت بكونها علمانية لابتعادها عن التوجهات الإسلامية في صورها التطبيقية ونزوعها إلى التطبيقات العصرية في ممارستها العملية، وأيضا لكونها تضمنت دعوات إقليمية في سوريا (المطالبة بوحدة الشام) ومصر (المطالبة بوحدة وادي النيل لتشمل مصر والسودان) ، فكانت دعوتها مخالفة للتوجهات الإسلامية من حيث كونها تخرج عن الإطار العروبي والإسلامي إلى الإطار الجغرافي البشري، ولاحظ البشري في تفسيره التاريخي لنشأة العلمانية الوطنية في الوطن العربي أنها لم تحمل قط مشروعا مستقبليا معارضا للإسلام، وإنما دعت إلى تبني النماذج الغربية ومحاكاتها في التنفيذ العملي.

لقد حاول البشري من خلال الحفر التاريخي في أصول العلمانية الوطنية التي تأسست في الوطن العربي البحث عن استعادة جذور اللقاء الممكنة بين الإسلاميين والعلمانيين، من خلال دعوة ضمنية للعلمانيين إلى مراجعة أصولهم قبل أن تحدث التحولات التي أخرجت التيار العلماني عن جذوره الوطنية، كما حاول تنبيه الإسلاميين إلى أن الصراع مع العلمانيين من زاوية قراءة أي علمانية باعتبارها معارضة للإسلام، هو صراع مفض إلى قسم الجماعة الوطنية وتبديد طاقتها وعرقلة أي إمكانية لنهوضها.

وهكذا، وسواء تعلق الأمر بتجسير العلاقة بين المكون الإسلامي والمكون العربي، أو البحث في تاريخ العلمانية الوطنية في العالم العربي لتأصيل الأرضية المشتركة الممكنة لحوار الإسلاميين والعلمانيين، فإن مشروع الرجل لم يتعد بإعادة بناء الجماعة الوطنية وإنهاء حالة الاستقطاب والتجنيد بين مكوناتها، والتفكير في المشتركات التي تجعل أفق العمل التعاوني والتشاركي ممكنا، والبحث عن الصيغ التي من شأنها تجنب الاحتراب حول القضايا الخلافية.

البشري والنظرة إلى الأنظمة السياسية

وبالطريقة ذاتها، أي تحكيم زاوية بناء الجماعة الوطنية في منهج النظر، حاول البشري أن يقرأ موضوعا آخر له حساسية شديدة، فجوهر الإصلاح في الوطن العربي، لا يمكن النفاذ إليه دون تحديد الموقف من الأنظمة السياسية، وشكل التعاطي معها، وقبل ذلك، منهج النظر إليها.

فقد سلك البشري المنهج الـتاريخي ذاته، فنأى بنفسه عن التناولات السياسية الفجة، إنما ذهب بحفره التاريخي بعيدا يحاول فهم نشأة الأنظمة السياسية وسيرتها، ودور الغرب في تطويرها، وكيفية استحالة الأفكار والمفاهيم إلى مؤسسات، والازدواجية التي أطرت الحياة السياسية والاجتماعية من وجود أبنية تقليدية مرتبطة بالتراكم الذي حصله واقع الإسلام وتطبيقاته المختلفة، بالأبنية العصرية التي فرضها الاستعمار، ملاحظا على هذا المستوى حجم الاضطراب التي تعانيه الكيانات السياسية من جراء تراجع الوسائل التقليدية التي كانت تستخدمها الجماعة للتعبير وعدم ملاءمة النظم والمؤسسات البديلة أو عدك كفاءتها في إعادة اللحمة بين السلطة والجماعة.

وما يثير في نظرة البشري العميقة، مقارنته بين النظم الغربية التي حاولت تأسيس جماعتها السياسية وفقا لمفهوم المواطنة، فجعلت من المواطنة أساسا للانتماء ومن النظم الديمقراطية أدوات للحماية والدفاع عن الجماعة السياسية، وبين النظم السياسية في العالم العربي، التي تعثرت فيها قيم المواطنة والانتقال نحو الديمقراطية، مما جعلها فاقدة لأساس الشرعية، فلا هي استندت إلى مفهوم الجماعة، الذي وفرت الخبرة التاريخية للأمة، ولا هي استندت إلى أساسيات النظم الغربية في الانتماء وفي الدفاع عن الجماعة السياسية، مما جعلها تعيش اضطرابا في العلاقة بين السلطة والمجتمع،  بل جعلها في كثير من الأحيان تعيش أزمة الشرعية، لا من جهة شرعية الانتماء، ولا شرعية الحكم (الدمقرطة).

بهذا التفسير التاريخي، يؤصل البشري لرؤيته ونظرته للأنظمة السياسية، وأنها في حاجة إلى أن تجدد شرعيتها من خلال الاستناد إلى الجماعة السياسية من جهة، ومن جهة ثانية من خلال البناء الديمقراطي، فبالأول تبنى شرعية الانغراس في الجماعة، وبالثاني تبنى شرعية الدولة العادلة القائمة بواجبها في حفظ الأمن القومي للجماعة وحراسة قوى التماسك الداخلي لها.

البشري داعية الحوار والمصالحة والإصلاح والديمقراطية

لعل أكبر درس يتركه البشري من خلال كل مؤلفاته التي تتواطأ جميعها على اعتماد منهج واحد، هو أن مهمة الحوار أو المصالحة، أو الإصلاح، أو الديمقراطية، أو بناء الجماعة السياسية، كل هذه المهام في نظر البشري وإن كانت مطلبا أساسيا، إلا أن شرطها هو تأصليها في الوعي، وأن ذلك لا يمكن أن يكون خارج قراءة في التاريخ، أو خارج تأصيل وتجدير يعتمد الدرس التاريخي مرجعية له، فمع كتابات البشري التي تجاوزت العشرين كتابا، تفهم الجذور التاريخية لنشأة الجماعات السياسية، ونشأة القومية العربية، ونشأة العلماني الوطنية العربية، ونشأة الحركات الإسلامية، وتفهم أيضا سيرورة الحركات الإصلاحية، وتفهم أطروحة امتداد هذه الحركات على تباينها واختلافها، وتفهم سياق تشكل الأنظمة السياسية، بل وتفهم أيضا أزمتها  الراهنة في ضوء دروس التاريخ، وتخرج بخلاصة مهمة، مفادها أن مهام الإصلاح تتطلب جهدا تأصيليا عميقا، يتوجب على كل المكونات السياسية أن تقوم به، بما في ذلك الأنظمة السياسية، حتى يأتلف الجميع ويتواطأ على أرضية واحدة، يلتقي فيها الجميع لإعادة بناء الجماعة السياسية المتعددة الأفرع، وبناء الدولة الوطنية، وتأصيل البناء الديمقراطي للدولة، حتى يتم كسب رهانات الدولة والتنمية والإصلاح.


التعليقات (0)