مقالات مختارة

كم عمر الكذب؟ النظام المصري بين الترهل والأزمات الكاشفة

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

الصورة، تلك اللقطة الثابتة في الزمن التي نؤطرها وقد نكبّرها ونسلط الضوء عليها ونصيح بأعلى أصواتنا للفت الأنظار إليها، فهي واجهة دكاننا وبضاعتنا التي نروج؛ الصورة والانطباع، الذي ننجح إلى هذا الحد أو ذاك في خلقه وغرسه في أذهان من حولنا، وأحياناً في أذهاننا نحن بصورةٍ شخصية، شد ما نحتاج إلى ذلك.


الصورة أولاً، وفي عالم السياسة والمكانة الدولية، فإن قيمة الصورة والانطباع لا تقدر بثمن، فعن طريقها تتخلق الهيبة ويستقر النظام ويترسخ النفوذ، فلا يستطيع نظامٌ ولا يملك طاغيةٌ طموح ورفاهية أن يبدو ضعيفاً، أو يخلق انطباعاً بانعدام القدرة والكفاءة، ولعل ذلك يفسر كثيراً من الضربات السريعة، وعمليات الاغتيال والتخريب، التي تلجأ إليها أنظمةٌ، كالإيرانية والكيان الصهيوني، لبث الرعب والتأكيد على الهيبة للإبقاء على هذه الصورة، وما لجأت إليه أنظمة البعث في طبعتيها السورية والعراقية من تصفيةٍ للمعارضين في الخارج، وما لجأ إليه سابقاً على سبيل المثال، الاتحاد السوفييتي، والكتلة الشرقية حينها من عروضٍ عسكريةٍ، وعملياتٍ مخابراتية صار بعضها شهيراً لإخفاء الفشل والصدأ.


الصورة أولاً ولكن ليس آخراً، وبالتأكيد ليس للأبد، إذ آجلاً أو عاجلاً، وما لم يكن ذلك البلد في كوكبٍ معزول، فإنه سيُختبر، وستتعرض قدراته الحقيقية للتحدي والامتحان، خاصةً لو كان في بقعةٍ ساخنةٍ ومهمةٍ من العالم، وقد يتبين أن تلك «الصورة» قديمةٌ للغاية، شاخ من فيها وترهلوا، ناهيك من أن تكون مفبركة في بعض جوانبها، أو من الأساس، عبثت بألوانها وتفاصيلها يد مزورٍ محترف.


والشاهد أن السيسي لم يأت بانقلابه، إلا وقد تعرضت «صورة» مصر المستقرة القادرة، لاختبارٍ عنيفٍ هزها حتى الجذور، في نظر كلٍ من مواطنيها والعالم الخارجي، ويكفي أن نقرأ ما تراكم من شهاداتٍ للساسة الأمريكيين، إما في صورة مذكراتٍ أو تسريب لندرك كم الدهشة التي سيطرت عليهم لمرأى حجم السخط وتضعضع النظام الذي حسبوا منظومته الأمنية الضخمة منيعةً؛ على ضوء ما تكشف من كم التبديد والسرقة والفساد، أفاق المصريون على واقعٍ بائسٍ مترهلٍ رث، يتناقض مع صورة الذات التي يعتزون بها، وربما تشكل السلوى الوحيدة في واقعٍ لا تني صعوبته تزداد، وتسحقهم بمنتهى القسوة والخشونة، خاصةً في ظل أزمات الكهرباء والوقود وغياب الأمن (المصطنع جلها) ثم جاء تحدي الإرهاب (في سيناء بالأخص) ليؤكد أن الضعف والترهل وانعدام الكفاءة، طال المؤسسة العسكرية الضخمة، التي تبتلع قدراً ضخماً من ميزانية الدولة.


منذ البداية أدرك السيسي كم الضرر النفسي الذي لحق بالناس نتيجةً لاهتزاز (وربما سقوط) هذه الصورة، فعمد إلى اللعب على هذا الوتر مفرط الحساسية، متملقاً ذلك الاحتياج النفسي للعزة والمكانة، واعداً بمصر «قد الدنيا وأكبر من الدنيا» وسلك الطريق الأسهل فاندفع يبني مشروعاتٍ ضخمة، ترمم الهيبة، وتداوي الذات الجريحة وإن كانت ضئيلة الجدوى، أو منعدمتها، وعلى رأسها التفريعة الجديدة لقناة السويس، وأغرق الناس بإعلامٍ ومسلسلاتٍ تصب في القناة نفسها. كما في الاقتصاد رُدم العجز الضخم والمتنامي بالاستدانة، فقد ردمت الهوة بين الواقع الحقيقي المترهل، والقدرات الكلية المتواضعة بالكذب والكذب، ثم المزيد من الكذب، مشفوعاً بسيطرةٍ كلية على كل منافذ الإعلام، وصل حد الشراء الفعلي والتملك لها والدعوى الصريحة «ما تسمعوش كلام حد غيري» أي كذبٌ واحتكارٌ تام للرواية، بحيث تتسيد واحدةٌ فقط: رواية النظام الذي أسكت وحبس الأصوات الأخرى، بما قد يكون لديها من رواياتٍ وشهاداتٍ ورؤىً مغايرة. في السياسة الخارجية لجأ السيسي، المحافظ مزاجاً ومن ثم نظاماً، إلى الحذر حتى في عداواته، فاختار أن يضرب في ليبيا حيث التكلفة بسيطة والعائد كبير، من حيث ترميم «الصورة» والهيبة والمكانة في الإقليم، إلا أنه لم يتورط في اليمن مثلاً؛ ربما أوشك على الاندفاع إلى المستنقع الليبي، لما تشكله تلك الحدود الطويلة والعلاقات المتشابكة المتداخلة من ضغطٍ محتملٍ على نظامه، ومن ثم أعصابه، لاسيما في ضوء العداوة (التي صارت شخصيةً أحياناً) بينه وبين إردوغان ودعمه لجماعة الإخوان المسلمين بقنواتها الإعلامية، التي تبث من تركيا مشككةً وكاسرةً لاحتكاره الرواية، ومن ناحيةٍ أخرى لما تمثله السوق الليبية من فرصةٍ للاقتصاد المصري، والعمالة الفائضة، إلا أنه توقف أو أوقف بمعنى أدق.


يجوز أن النظام صعد وزايد كلامياً، إلا أن ذلك لم ترافقه إجراءاتٌ عدائية حقيقية ومكلفة في أي جبهةٍ، فاستمر التبادل التجاري مع تركيا على سبيل المثال الأقرب والأكثر دلالةً؛ لقد اختار السيسي ألا يحرج نفسه ويفضح الوضع الحقيقي لمصر، ريثما يتمكن من ترميم نظامه، ولما كان العالم الخارجي والغرب تحديداً، وعلى رأسه الولايات المتحدة مشغولٌ في المقام الأول بالتحدي الآتي من الشرق الأقصى ومن الصين بالأخص، فقد اتفقوا جميعاً، شرقاً وغرباً، في إجماعٍ شحيح على تثبيت الأنظمة، انطلاقاً، إما من قناعةٍ ترفض فكرة التغيير الثوري كالصين وروسيا مثلاً، أو لاستنتاجٍ بأن هذه الشعوب لا يلائمها، ولا تستحق غير تلك الأنظمة، وهؤلاء الزعماء؛ ثم جاء الوباء فشغلهم عنهم المزيد. فبغض النظر إذن، وفي فرصةٍ تاريخيةٍ فريدة، طفا نظام السيسي خارج نطاق الجاذبية، والتحديات السياسية الوجودية، فأمريكا وروسيا والصين وإسرائيل والمملكة السعودية تريده، فما تضير تركيا ولا ثمن ضخم لمناطحتها سياسياً، لاسيما وأن دولاً أوروبية تحاول تحجيم تركيا أيضاً. لذلك لم يقع السيسي تحت ضغط الحاجة إلى تغييرٍ حقيقي في هيكل الدولة، وكيفية توظيف الكوادر وشغل المساحات الشاغرة فظل يعتمد ويلجأ إلى الاستعانة في ذلك بالمصادر نفسها، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، ثقةً منه وإرضاءً لنهمها، ولأن ذلك ببساطة مبلغه من العلم، فهو لا يعرف غير أو أفضل من ذلك. لكن الجغرافيا، ومن ثم التاريخ لا مهرب منهما، فهما يفرضان واقعاً وسياقاتٍ وخياراتٍ محددة، ومصر في مركزها في قلب العالم، وعلى مفترق طرق الشرق والغرب، وعلى أحد أهم شرايين التجارة العالمية، لابد أن تُواجه بتحدياتٍ، إما آجلاً أو عاجلاً، وإن من شأنها أن تفضح الواقع. أحياناً تكون هذه التحديات وجودية، كسد النهضة مثلاً، الذي قد يهدد حصة مصر التاريخية من المياه، أو قد يستغل كوسيلة ضغطٍ ما احتاجت الإرادة السياسية الدولة أو الإقليمية لذلك، لابتزاز مصر، أو قد يكون التحدي عارضاً تماماً كجنوح السفينة في قناة السويس، بما كشفه من عدم المقدرة على التعامل مع كوارث تهدد أحد أهم مصادر العملة الصعبة، بما يعيد طرح الأسئلة عن جدوى ما ردم من مليارات الدولارات في تفريعةٍ لا جدوى منها.
إن الكذب أسهل، وقد يكون مريحاً أحياناً، وكذلك خداع النفس، لكن الواقع لن يلبث أن يكشف ويفضح، لاسيما لو تمت الاستكانة للكذب والتمادي في التردي والتفريط: حينذاك لا يصبح السؤال ما إذا كان الكذب سينكشف بل كم سيطول؟ كم عمر الكذب؟

 

(القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)