مقالات مختارة

العراق: خرافة الشفافية!

يحيى الكبيسي
1300x600
1300x600

تضمن قانون انتخابات مجلس النواب رقم 9 لعام 2020 مادة ألزمت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بالتعاقد، كما نصت هذه المادة، مع «إحدى الشركات العالمية الرصينة ذات الخبرة بالاختصاص التكنولوجي، ولديها أعمال مماثلة لفحص برمجيات أجهزة الاقتراع (أجهزة تسريع النتائج) والأجهزة الملحقة بها» (المادة 38/ ثالثا).


وجاء في تقرير بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، التي تضم مكتبا خاصا للمساعدة الانتخابية، الصادر في 5 شباط/ فبراير 2021 حول الاستعدادات والعملية الانتخابية في العراق (التقرير رقم 5)، تحت عنوان: «تدقيق نتائج إدارة نظم تكنولوجيا المعلومات»، أن مفوضية الانتخابات قد أطلقت مناقصة لاختيار شركة للقيام بهذا الأمر، وأنه تم إرسال الدعوات «إلى عشر شركات» اقترحتها بعثة الأمم المتحدة، وأن المفوضية قد نظمت «مؤتمرا عبر الفيديو مع مقدمي العطاءات»، وأن شركتين قد قدمتا عروضا رسمية، ويتم تقييم العطاءات الخاصة بهما.


في 27 آذ ار/ مارس 2021 أعلنت المفوضية أن مجلس المفوضين قد وافق «بالإجماع» على اختيار شركة PWC البريطانية «الفاحصة لأجهزة الاقتراع والأجهزة الملحقة بها والبرامجيات المستخدمة والوسط الناقل وجهاز الإرسال وسيرفرات إعلان النتائج». وأن هذا الاختيار قد تم بعد عدة مراحل «تم في ضوئها التأكد من رصانتها واستيفائها للشروط والمواصفات الفنية المطلوبة، والأفضل بين الشركات التي رشحها مكتب الأمم المتحدة للمساعدة الانتخابية في العراق».


في 9 نيسان/ أبريل 2021 أوضحت الأمم المتحدة في تقريرها حول الاستعدادات والعملية الانتخابية في العراق (التقرير رقم 7) أنه بعد اختيار المفوضية للشركة البريطانية Price Waterhouse Coopers (PWC) تلقت المفوضية «ردود فعل من عدد من كبار القادة السياسيين وممثلي الكتل السياسية، تطلب توضيحا بشأن عملية الاختيار والتشكيك بارتباط شركة PWC العراق، بشركة PWC الأم في الملكة المتحدة». وأنه في 30 آذار/ مارس، قررت المفوضية «عدم منح العقد لشركة PWC»، وبدلا من ذلك قررت متابعة المفاوضات مع شركة Hensoldt الألمانية! لتنتهي بعثة الأمم المتحدة إلى التأكيد أنها ليست في وضع يمكّنها من الحكم على هذا القرار، وأنها تواصل «تذكير المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بأهمية مصداقيتها كهيئة مستقلة»!


وفي 11 نيسان/ أبريل 2021 أعلنت المفوضية أنها قد أبرمت عقدا مع شركة ((HENSOLDT الألمانية لفحص الأجهزة والبرامجيات المتعلقة بالانتخابات «بعد أيام من التفاوض مع هذه الشركة الموصى بها من مكتب الأمم المتحدة في العراق»، دون الإشارة إلى الشركة البريطانية (PWC ) التي تم اختيارها «بالإجماع» قبل أسبوعين فقط!


في 17 نيسان/ أبريل 2021 أصدرت المفوضية «توضيحا للرأي العام العراقي» تقول فيه؛ إنها «اكتشفت» بعد «التحري» مع وزارة التخطيط ومسجل الشركات ووزارة الخارجية، أن الشركة البريطانية (PWC ) حسب إجابة الملحقية التجارية في لندن، ليس لديها أي فرع داخل بريطانيا أو خارجها، كما أن مسجل الشركات بيّن في إجابته، أن الشركة مسجلة كشركة عراقية مستقلة، وليست فرعا لشركة دولية او محلية!

التواطؤ الجماعي يحكم كل شيء في العراق، فالشفافية مصطلح لا وجود له في هذا السياق، وغير مفكر فيها أصلا خارج إطار الدعاية

وكما هو واضح، فإن هذا «التوضيح» يتناقض أولا مع ما قالته المفوضية من قبل بأن اختيار هذه الشركة قد تم بعد «التأكد من رصانتها واستيفائها للشروط والمواصفات الفنية المطلوبة، والأفضل بين الشركات التي رشحها مكتب الأمم المتحدة للمساعدة الانتخابية في العراق»! ويتناقض ثانيا مع الوقائع الثابتة التي تثبت أن هذه الشركة البريطانية لديها فرعان في العراق، في بغداد وأربيل، وأنها تعمل في العراق منذ العام 2006، وأنها تقدم الخدمات الاستشارية والتدقيق والضرائب للهيئات الحكومية الرئيسية في العراق، وأنها «جزء من عملية إعادة الهيكلة والإصلاح لمختلف الهيئات الحكومية والبنوك في العراق، وأن «معهد الشرق الأوسط للقطاع العام ((MEPSI» التابع لها قد ساعد في بناء القدرات الوطنية العراقية، من خلال تدريب الموظفين الحكوميين! وأنها كانت عملت في مشاريع الأمم المتحدة في العراق، فقد قدمت الشركة خدمات استشارية لوزارة التخطيط العراقية في سياق استراتيجية التنمية الوطنية في العام 2010 في إطار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي! كما قامت الشركة بتدقيق حسابات صندوق تنمية العراق، الذي تم تأسيسه بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 في 21 أيار/ مايو 2003! والأهم من كل ذلك أنها لا تزال تصدر سنويا تقريرها الخاص المتعلق بـ «تصدير النفط والاستهلاك المحلي وتطوير الحقول (IEITI)»، ضمن مبادرة شفافية الصناعة الاستخراجية النفطية العراقية. ومراجعة هذه التقارير تكشف عن التعاون الذي تقدمه «الوزارات العراقية والهيئات ذات الصلة» معها! والملاحق المثبتة في هذه التقارير تكشف، أيضا، عن الرسائل التي وجهتها الشركة إلى وزارة الصناعة والمعادن العراقية، وشركة سومو لتسويق النفط العراقي لتزويدها بالمعلومات المتعلقة بموضوع التقارير!


إن التدقيق في تقرير الأمم المتحدة الصادر في 9 نيسان 2021 يوضح أن المفوضية «تراجعت» عن قرارها بعد ثلاثة أيام فقط من «اختيارها بالإجماع» لشركة PWC البريطانية و«التأكد من رصانتها»، وأن هذا التراجع كان بفعل «ردود فعل» عدد من كبار القادة السياسيين وممثلي الكتل السياسية! والتدقيق في صيغة البيان، يظهر عدم اقتناع البعثة بحجج المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، بدليل تذكير المفوضية بمصداقيتها كهيئة مستقلة!


والسؤال هنا: لماذا تأخرت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في توضيح ما جرى للرأي العام طيلة 17 يوما؟ فالأمم المتحدة تخبرنا أن قرار استبعاد الشركة البريطانية اتخذ بتاريخ 30 آذار/ مارس، في حين صدر التوضيح بتاريخ 17 نيسان/ أبريل.


ولماذا لم يتضمن هذا التوضيح موضوع «ردود فعل» الفاعلين السياسيين المعترضة على الشركة البريطانية؟


ولماذا تضمن التوضيح معلومات غير دقيقة عن الشركة البريطانية وأفرعها في العراق، بل والتشكيك بوجودها أصلا، وأن الشركة «ليس لديها فرع داخل بريطانيا أو خارجه»، على الرغم من تعامل الشركة مع مؤسسات الدولة العراقية المختلفة طوال سنوات؟


ولماذا كان هذا الصمت الملفت من قبل الجميع، إذ لا نجد «ردة فعل» من الفاعلين السياسيين تجاه ما جرى، برغم أهمية هذا الموضوع وارتباطه بدقة الفحص المتعلق بالإلكترونيات المستخدمة في تحديد طبيعة الانتخابات!


بالتأكيد لن يجيب أحد على هذه الأسئلة في سياق التواطؤ الجماعي الذي يحكم كل شيء في العراق، فالشفافية مصطلح لا وجود له في هذا السياق، وغير مفكر فيها أصلا خارج إطار الدعاية، لكن عندما يتعلق الأمر بانتخابات التزوير فيها بدأ من الأساس وقبل إجرائها، عبر «اشتراط» قانونها استخدام البطاقة الإلكترونية القابلة للتزوير بدلا عن البطاقة البايومترية، فإنّ إمكانية ضمان نزاهتها «تكنولوجيا» تبدو وهما إلى حد بعيد، لاسيما مع الشكوك الواسعة المتعلقة بطبيعة الأجهزة المستخدمة من جهة، وحجم التسييس الذي يحكم العملية الانتخابية ككل من جهة ثانية!

 

عن القدس العربي

0
التعليقات (0)

خبر عاجل