كتاب عربي 21

فرنسا.. الضوء الأخضر للانقلاب

طارق أوشن
1300x600
1300x600

بمجرد أن نشرت مجموعة من العسكريين الفرنسيين، بينهم عشرون جنرالا متقاعدا، بيانا على مجلة معروفة بتوجهاتها اليمينية، حذروا فيه مما أسموه تفكك الدولة وكالوا فيه كثيرا من الاتهامات للمسؤولين السياسيين المدنيين المنتخبين لإدارة البلاد، توالت ردود الفعل بين مرحب ومندد على هوى بوصلة المصلحة الانتخابية تجييشا للأنصار واستمالة للمترددين في أفق الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها بعد سنة من الآن. 

وزيرة الجيوش الفرنسية اعتبرت ما أقدم عليه العسكريون أمرا غير مقبول ولا مسؤول، وطالبت بمعاقبة من ثبت توقيعه على البيان ممن لا يزالون في الخدمة. 

لم يتأخر الرد، حيث أعلن قائد القوات المسلحة الفرنسية أن من تم تحديدهم من "المتمردين" سيلقون عقوبات تأديبية عسكرية قد تصل حد الفصل من الخدمة بمرسوم رئاسي. هكذا هي فرنسا، وهكذا هو إيمانويل ماكرون، لا يقبلان أي تدخل للعسكر في الحياة المدنية ولا يتهاونون في إنزال العقوبة بمن يتمرد على التقاليد العسكرية الراسخة التي تحصر مجال عمل العسكريين داخل الثكنات وعلى الحدود.

انتهى مجال النظرية فماذا عن التطبيق؟

في نفس أسبوع نشر البيان العسكري الفرنسي، كان إيمانويل ماكرون يجلس بجانب جنرالات الحرب الموكول إليهم تسيير عدد من بلدان الساحل الإفريقي نيابة عن فرنسا، وهم يودعون في جنازة عسكرية "مهيبة" ركنا من أركان الحكم العسكري في أفريقيا. 

كانت جنازة إدريس ديبي، الرئيس التشادي السابق، مناسبة ليجتمع ماكرون بـ "قادة" دول الساحل والجوار من البرهان إلى محمد إدريس ديبي، ابن أبيه ووريثه الذي أخذت فرنسا علما بـ "انقلابه" على الدستور وإنشائه مجلسا عسكريا للحكم بعد مقتل أبيه بساعات. 

فرنسا اعتبرت ما حدث في نجامينا "انتقالا مدنيا عسكريا" يستحق الدعم والمساندة غير المشروطتين. ولرفع الحرج على "راعية الحريات والديمقراطية"، لم يتأخر محمد إدريس ديبي عن الإعلان عن عزم مجلسه تنظيم انتخابات "نزيهة" في أقرب وقت ممكن، لن تخرج نتيجتها عما حصل عليه والده يوما واحدا قبل مقتله وهو يتفاخر مع جنوده بدحر متمردين جاؤوه من الجنوب الليبي بسلاح لن يكون إلا فرنسيا من بقايا دعم الميليشيات الأجنبية هناك. قبل ذلك، لم يتوان إيمانويل ماكرون في التغريد رثاء لديبي/ الأب كما كان دأبه بعد كل عملية مسلحة تستهدف جنوده المنتشرين في القواعد العسكرية المزروعة في جغرافيا المستعمرات السابقة/ الحالية.

ازدواجية المعايير وحَوَل العين الفرنسية في تعاملها مع قضايا القارة الإفريقية وتدخلها المباشر في هندسة قراراتها وتعيين حكامها ليست جديدة. صحيح أن الذريعة التي تسوقها فرنسا اليوم صارت "محاربة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة"، وهي الذريعة التي توافق عليها الانقلابيون حيثما وجدوا، لكن التاريخ مليء بالشواهد والأحداث التي فضح الأرشيف بعضها، وفضح العسكر/ عملاء فرنسا أنفسهم كثيرا منها.

في العام 2017، أجرى ثلاثة صحفيين فرنسيين لقاء حواريا مع الرئيس ادريس ديبي، وحاولوا كالعادة إحراجه بالحديث عن بقائه في السلطة لعقود. ادريس ديبي يعرف أن الحوارات الصحفية والمقالات المكتوبة بوحي من الدولة الفرنسية لا تستهدف غير مزيد من الضغط حينا وتبرئة الذمة أمام الرأي العام حينا آخر. لأجل ذلك، لم يتوان في تذكير "محاوريه" أن بلادهم، التي تنتقد استمراره في الحكم، هي من أوفدت، ضدا على رغبته الشخصية، خبيرا في الفقه الدستوري لم يتذكر حتى اسمه، ليقوم بتفصيل الدستور التشادي على مقاس عدد الولايات التي تريدها فرنسا ل"ديكتاتورها المفضل" في الحكم.

النتيجة، أن ديبي وغيره كثيرون، يتربعون على العرش، بحماية فرنسية عسكرية ومخابراتية، حتى الموت أو الانقلاب مقابل الاستمرار في دعم وتنفيذ الخطط الفرنسية في تكريس ما تبقى لها من نفوذ واستنزاف ثروات القارة الطبيعية أو ما تبقى منها. فرنسا التي مهدت لاستدامة حكم ديبي دستوريا هي نفسها التي تدخلت لمرات عدة، من خلال قاعدتها العسكرية بالساحل، لدحر المتمردين ومنعهم من دخول نجامينا، وهو الوعد الذي قطعه ايمانويل ماكرون على نفسه وعلى عاتق باريس في أن تظل في مواجهة من "يهدد استقرار تشاد الآن ولاحقا".

السيسي سعيد بوسام جوقة "اللاشرف" الذي قلده ماكرون بعيدا عن وسائل الإعلام كأنها خطيئة تستحق الستر، وهو أسعد بتفصيل الدستور على مقاسه وعلى "اكتساحه" للانتخابات. كان بالإمكان أن يكون ادريس ديبي عبرة لمن لا يعتبر، لكن السيسي لم يشهد يوما ساحات للمعارك ولو منحوه لقب المشير، وحتى في زياراته لكليات الشرطة يخاطب المتدربين من وراء حجاب.

في بيان العسكريين الفرنسيين حديث عن تهديد الإسلام السياسي لقيم الجمهورية، واحتفاء بالمرحلة الاستعمارية باعتبارها كانت وسيلة لنشر الحضارة الغربية، وكلها أفكار تتوافق فعليا مع ما تؤمن به غالبية الطبقة السياسية الفرنسية، لكنه الخوف من تعاظم دور العسكر في توجيه السياسات والضغط على السياسيين. ايمانويل ماكرون كان استهل رئاسته، في العام 2017، بخلاف حاد مع رئيس الأركان وقتها الجنرال بيير دو فيلييه حيث حذره من معارضته علنا لقرار خفض الإنفاق الدفاعي. ماكرون صرح يومها إنه "ليس أمام رئيس الأركان سوى الموافقة على ما يقول"، مضيفا أنه "إذا وقع خلاف بين رئيس الأركان والرئيس.. يذهب رئيس الأركان"، وكذلك كان. 

 

فرنسا، التي انتفضت ضد بيان عشرين جنرالا بالداخل، لم تعد اليوم مكتفية بإعطاء الضوء الأصفر، إذ انتقلت لمرحلة منح الضوء الأخضر للانقلابيين حيثما وجدوا، فدعمت بيان خمسة عشر جنرالا تشاديا، قبل أن يشرف رئيسها بشكل مباشر، دونا عن أي رئيس غربي وفي زمن الوباء والحجر الصحي، على تثبيت أركان عسكري ناشئ بدأ خطواته الأولى في مدارسها قبل أن يتعهده الوالد بالرعاية والتربية الصحيحة في خدمة أهداف القوة الاستعمارية،

 



اليوم يطل شبح بيير دوفيليه مجددا كمنافس مرتقب في الانتخابات الرئاسية القادمة، ولن يكون مستغربا وصول الأخير لسدة الحكم في بلد لا يزال فيه الجنرال شارل دوغول رمزا للأمة، ولا تزال فيه وزارة للجيوش في التركيبة الحكومية، بديلا لتسمية وزارة الدفاع المتعارف عليها عالميا، وكأن المرحلة مجرد امتداد لحكم الامبراطور نابليون بونابرت وغزواته التوسعية لما وراء البحار.

في العام 2006، شهدت المحاكم الفرنسية جلسات محاكمة المرتزق الشهير بوب دينار، وأصدرت عليه حكما مخففا مع وقف التنفيذ. التهمة كانت المشاركة في تدبير انقلاب فاشل بدولة البنين وآخر بجزر القمر، التي حكمها فعليا لعقود بعد أن أوصل لسدة الرئاسة بها أحمد عبد الله. في أثناء المحاكمة، دافع رئيس سابق للاستخبارات الفرنسية عن دينار بالقول "عندما تعجز أجهزة المخابرات على القيام بأنواع محددة من العمليات الخاصة، تلجأ إلى تشكيلات موازية، وهذا هو الحال الذي كان عليه بوب دينار". دينار نفسه رد، حين سئل ذات مرة عن معرفة السلطات الفرنسية بنشاطاته وموافقتها عليها، بالقول " ليس بالضبط، تلقيت ضوءا أصفر فقط". 

بوب دينار الذي خدم في العسكرية الفرنسية وشارك بتدبير عشرات الانقلابات بالقارة السمراء، كان اليد غير الرسمية لأجهزة بلاده في هندسة بيوت الحكم الافريقية بما يتوافق ومصالح فرنسا باعتباره مؤسس أولى الجيوش الخاصة كما هو الحال اليوم مع قوات فاغنر الروسية وقبلها قوات بلاك ووتر الأمريكية وشبيهاتها. 

فرنسا، التي انتفضت ضد بيان عشرين جنرالا بالداخل، لم تعد اليوم مكتفية بإعطاء الضوء الأصفر، إذ انتقلت لمرحلة منح الضوء الأخضر للانقلابيين حيثما وجدوا، فدعمت بيان خمسة عشر جنرالا تشاديا، قبل أن يشرف رئيسها بشكل مباشر، دونا عن أي رئيس غربي وفي زمن الوباء والحجر الصحي، على تثبيت أركان عسكري ناشئ بدأ خطواته الأولى في مدارسها قبل أن يتعهده الوالد بالرعاية والتربية الصحيحة في خدمة أهداف القوة الاستعمارية، مقابل الحماية حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. 

القواعد العسكرية الفرنسية وفتح البلاد للاستخبارات الإسرائيلية لم تدفع عن ديبي/ الأب مصير الموت في أرض المواجهة حيث لم ينفعه لا تفصيل دستور ولا انتخابات مزورة كان حصدها قبل أن يغادر دنيانا بيوم. 


التعليقات (1)
حضارة النفاق
الجمعة، 30-04-2021 01:33 م
حضارة قطع الرؤوس و الإحتفاظ بها في المتاحف، إبادة جزء من الشعب الشعب الجزائري و آلروندي و...

خبر عاجل