الذاكرة السياسية

يحيى المتوكل: رفضنا إصلاح "الإمامة" وتمسكنا بالجمهورية

يحيى المتوكل يروي قصة سقوط نظام الإمامة في اليمن وقيام النظام الجمهوري  (عربي21)
يحيى المتوكل يروي قصة سقوط نظام الإمامة في اليمن وقيام النظام الجمهوري (عربي21)

اللواء يحيى المتوكل أحد أبرز ضباط الثورة اليمنية الأحرار ضد الملكية. هاشمي انشق عن أسرته وكان ركنا في كل الحكومات الجمهورية التي تلت الثورة السبتمبرية 1962. ساهم في الانقلاب على المشير عبدالله السلال وفي الإطاحة بحكم القاضي عبد الرحمن الإرياني، وكان عضوا في مجلس القيادة في حكم إبراهيم الحمدي، وصولا إلى عهد علي عبدالله صالح إاذ كان مستشاره الأول ونائبه في الحزب الحاكم. تولى سفارات اليمن في باريس وواشنطن والقاهرة. توفي عام 2003 في حادث سيارة مفجع.

الحلقات الثلاث التالية من ذاكرة المتوكل مستمدة من مروياته الخاصة لي، التي كان من المفترض أن تصدر في كتاب مستقل عن النخبة السياسية اليمنية، لكن المشروع لم يكتمل مع الأسف الشديد لأسباب مختلفة.

كنت أرغب في أن أتخرج طيارا


كنت راغبا في أن أتخرج طيارا. تعلمت في الكلية بضعة أشهر لدى مدرسين مصريين، ما لبث الإمام أحمد أن أمر بترحيلهم إثر مشاكل وقعت في العاصمة واتهم المصريين بالتحريض عليها. كان الإمام في روما عندما صدر قرار ترحيل المصريين وتجميد الدراسة في الكلية. 

في هذا الوقت، كان المشير عبدالله السلال رحمه الله مديرا للكلية، وقد أبدى حرصا على بقائها وعدم إقفالها بعد رحيل المصريين. بقينا مجمدين من دون رواتب لبضعة أشهر، اقتنع خلالها الإمام بالاستعانة بمدرسين روس، بعد أن فقد ثقته بالمدربين المصريين والعراقيين.

مع مجيء الروس، تحولت الكلية إلى المظلات والعلوم العسكرية الأخرى. تخرجتُ منها في العام 1961 ضابط مظلات. طلب المدربون الروس من الإمام بعد الانتهاء من التدريبات تنظيم استعراض للقفز بالمظلات في مدينة الحديدة. نزلنا من صنعاء إلى المدينة بواسطة السيارات واستغرقت الرحلة ثلاثة أيام بسبب الطرقات الوعرة والمتعثرة وغير المسفلتة. في هذا الوقت تعرض الإمام لمحاولة اغتيال في أثناء تدريباتنا التمهيدية للقفز. أطلق عليه النار الشهيد اللقية والشهيد العلفي (جرت محاولة لاغتيال الإمام أحمد عام 1961 في مستشفى الأحمدي في الحديدة نظمها محمد عبدالله العلفي ومحسن الهندوانة وعبدالله محمد اللقية)، الذي قتل في أثناء اشتباك مع جنود الإمام. 

ألغي استعراض المظلات وتعرضنا للتفتيش لمعرفة ما إذا كنا على علاقة بالمؤامرة. شعرنا بيأس وإحباط وكدنا نرجع إلى صنعاء، وإذا بالإمام يأمر فجأة باستئناف هبوط المظليين. كنت أول القافزين وكانت تجربة مثيرة ومشوقة. فتح الاحتكاك بالروس أعيننا على أشياء كثيرة متعلقة بنظامنا المتخلف، ثم جاءت محاولة اللقية الانقلابية، فانشرحنا لها وكنا نتمنى نجاحها. 

كانت لدينا أسباب كثيرة للقيام بالثورة. كنا وزملاؤنا في الكلية الحربية نشعر بأن مسؤولية التغيير تقع على عاتقنا. بدأت بالتواصل مع رفاقي في كلية الطيران لهذه الغاية في السنة الدراسية الأخيرة ومن بينهم المسوري (اللواء حسين محمد المسوري كان رئيسا لهيئة الأركان العامة عام 1969، وهو من الضباط الأوائل الذين شاركوا في ثورة أيلول / سبتمبر عام 1962) والحمدي (المقدم إبراهيم الحمدي رئيس الجمهورية الأسبق، الذي انقلب على القاضي عبد الرحمن الإرياني واغتيل في منزل الرئيس اللاحق أحمد الغشمي عام 1977). زاد في نقمتنا أن الإمام رفض منحنا الرتب العسكرية بعد التخرج. في هذا الوقت أقمت أول اتصال مع "الضباط الأحرار".

التخطيط للثورة

انتميت إلى خلية "الضباط الأحرار" التي كان يرأسها العقيد صالح الأشول، وباشرت بتكوين خلايا أخرى في كلية الطيران. جمعنا تبرعات لتغطية تكاليف حركتنا. كان مرتبي يومها عشر دنانير ماريا تيريزا (هي عملة نمساوية كانت سائدة في شمال اليمن في العهد الإمامي)، أي ما يقارب الـ 10 دولارات، كنا نقتطع جزءا من الراتب لدعم الحركة. كنت عريف الكلية وأقدم متخرج فيها، ومن ثم مسؤولا عن مخازن السلاح. كنا نحضر للثورة بواقعية ومن دون تسرع أو تهويل كي لا يتكرر ما جرى عام 1948 وعام 1955. لكن الروح الثورية كانت قد صارت متأججة لدى كل الناس. الجمهورية كانت بديلنا للنظام الذي وصل إلى درجة من التخلف لا يمكن تحملها. 

كلفني زملائي في التنظيم أن أقابل الإمام كي يسمح لنا بالتخرج. ذهبت لهذه الغاية إلى تعز وكانت رحلتي الأولى إلى هذه المدينة. كنت ضابطا من الناحية العملية لكن من دون رتبة. جلست في تعز في دار الضيافة التابعة للدولة. سمعت هناك بالانفصال بين سوريا ومصر. أثرنا ضجة في حينه وعبرنا عن غضبنا ضد الانفصاليين. علم الإمام بغضبنا فطردني من دار الضيافة. نمت عند زملائي في مطار تعز وواظبت على زيارة دار ضيافة الإمام بهدف الحصول على الرتبة، لكنه رفض استقبالي فتوجهت لولي عهده الإمام البدر، الذي وافق على استقبالي وعلى تخرج دفعتنا.

 


                 يحيى المتوكل مع الحمدي والغشمي رئيسان ماتا اغتيالا

 

عدنا إلى الكلية بعد التخرج بانتظار أن يجدوا لنا إطارا نعمل فيه، لكنهم طردونا وبدأنا نبحث عن سكن في المدينة، إلى أن تبنى إخواننا في الكلية الحربية قضيتنا وضمونا إلى مدرسة الأسلحة، وهي للتخصص بعد التخرج. اخترت التدرب على سلاح المدفعية وكان يشرف على هذا القسم الشهيد المرحوم محمد مطهر، الذي قتل من بعد وكان رئيسا للأركان. وقد بات معروفا أن مطهر وعلي عبد المغني هما قائدا الثورة الفعليان ضد الإمام. استمرت الدورة ثمانية أشهر حتى أيلول (سبتمبر) 1962، وكان من المفترض أن نختمها بالذخيرة الحية على المدفعية الروسية، لكن خبر وفاة الإمام أحمد غيّر مسار الأحداث. لم نكن قد أعددنا أنفسنا للتحرك، لكننا بدأنا اجتماعات علنية واستنفرنا خلايا التنظيم.

ارتأى في البداية الأستاذ أحمد محمد نعمان والأستاذ محمد محمود الزبيري، وهما من قادة الثورة المدنيين أن الإمام البدر خليفة الإمام أحمد يمكن أن يأتي بأفكار جديدة وبنظام منفتح يحمل الخير لليمن. لم يكن هذا رأينا. كنا نعتقد أن لا بديل عن النظام الإمامي إلا الثورة والجمهورية. وقد جاء خطاب العرش الذي ألقاه البدر ليعزز من قناعتنا بوجوب قيام الثورة، إذ أكد أنه سيسير على خطى والده ونهجه، وأنه سيتعاون لهذه الغاية مع الأمير الحسن، الذي طلب منه العودة إلى اليمن مع آخرين من جناحه (كان هذا الأمير عم الإمام ومكروها في الشارع اليمني). لذا بدأنا نعد العدة للثورة. كان تنظيمنا بدائيا وبريئا في الآن معا، يتألف من 120 ضابطا كلهم من المنتسبين إلى الكلية الحربية. انطلقت ثورتنا من الكلية في صنعاء، حيث كنا نجتمع يوميا في الصباح والمساء بعد موت الإمام أحمد لتحديد مهمة كل منا.

كنت على علاقة شخصية بقائدي الحركة علي عبد المغني ومحمد مطهر، لذا كلفت عشية يوم الثورة بالذهاب إلى منزل الفريق حسن العمري الذي كان يخزن بعض القنابل في بيته، على أن أنقلها أنا وابنه إلى مقر القيادة، حيث نعد العدة للانطلاق. كان العمري متعاطفا مع الثورة من دون أن يخطط لها، وكان معه أيضا عبد السلام صبرة وحلقة من ضباط ثورة العام 1948، التي انتهت باغتيال الإمام يحيى. كانت هذه الحلقة تواكب عملنا وتوافق على ما نقوم به لكنها ظلت سرية.

المشير السلال

لم يكن المشير السلال معنا ولكنه كان يعرف تحركاتنا. كان قريبا من البدر (الإمام الوريث) ورئيس حرسه الشخصي وأحد القادة الكبار في عهده. كان يعلم بوجود حركة، لكن ما كان يعرف ساعة الصفر لانطلاقها.
 
بالمقابل، كان عبداللطيف ضيف الله (رئيس أركان الجيش اليمني لاحقا وأول رئيس وزراء في عهد الثورة) وعبدالله جزيلان (لواء في الجيش اليمني كان مديرا لمدرسة السلاح، ومن أبرز قادة الثورة اليمنية) على علم بتحركنا لأنهما مقيمان في الكلية. 

عشية 22 أيلول (سبتمبر)، وزعنا المهام وكان موقعي هو قيادة المدفعية، وعليّ أن أتحرك من الكلية الحربية إلى مقبرة خزيمة برئاسة القائد محمد مطهر. وتم تشكيل فريق آخر بقيادة عبدالله صبرة وشرف الكبسي وعلي قاسم المؤيد للاقتحام بواسطة الدبابات. كان على هذا الفريق أن يحتل الإذاعة.

علي عبد المغني ومحمد مطهر، قادا التحرك ورتبا الخطة، ويعود الفضل لهما في قيادة الثورة. كانت التعليمات تقضي بإعداد المدافع وربطها بالسيارات، وأن نتأهب لساعة الصفر وكانت قبل منتصف الليل، على أن ننتظر إشارة من العقيد حسين السكري وهو ضابط في الحرس الإمامي.. كان مكلفا بإطلاق النار على الإمام البدر، وأن يعطيني إشارة بذلك فأباشر بقصف المواقع المحددة بواسطة المدافع التي نصبتها في مقبرة خزيمة. تعطل مسدس العقيد السكري، هو عميد الآن، في أثناء إطلاق الرصاص على الإمام البدر فانتبه قائد الحرس وأمر باعتقاله، فخشي أن يقبض عليه وبادر إلى إطلاق النار على نفسه، لم تأتنا إشارة منه حتى الساعة الحادية عشرة والنصف فاتخذنا القرار بالتحرك.

جاءت الإشارة من عبدالله جزيلان في الكلية الحربية، فقطعت خطوط الهاتف عن طريق حسن العمري وهو مسؤول المواصلات، ثم تحركت الدبابات والمدرعات والأفراد لاقتحام الإذاعة وبيت الإمام. 

نحن جهزنا المدفعية لكنها كانت تحتاج إلى ذخيرة. طلبنا من عساكر لا صلة لهم بالثورة أن يأتونا بالذخيرة وكان يدربهم حمود بيدر. رفضوا وقالوا لا تعليمات لدينا ومنعوا بيدر من الاستجابة لنا، وبعد أخذ ورد قلنا لهم إن هذه أوامر الإمام، وأن هناك محاولة انقلابية من جماعة الأمير الحسن (عم الإمام البدر) فسلمونا 45 طلقة عيار 76، وهي الذخيرة المخصصة للتدريب على ما أعتقد. 

وزعنا الذخيرة على المدافع وكنت أنا قائد مدفع. تابعنا حركة الدبابات لكنها للأسف لم تتمكن من اقتحام القصر الإمامي، لأنها كانت تسير في زقاق ضيق. قاوم جماعة الإمام وصبوا البترول على الدبابة الوحيدة التي تمكنت من الوصول إلى القصر، فاستشهد الشراعي (الملازم محمد الشراعي كان قائدا لإحدى الدبابات المتوجهة إلى القصر الإمامي) وضابط آخر، في حين بدأت النار تنطلق من بيوت الإمام والأمراء على الثوار.

الشاعر عبد العزيز المقالح والشيخ عبدالله الأحمر

في هذا الوقت، تمكنت القوة التي ذهبت إلى الإذاعة من السيطرة عليها بقيادة علي قاسم المؤيد ومساعدة أحمد الناصر الذي أذاع البيان الأول وتلاه من بعد عبد العزيز المقالح ومحمد الفسيل، وتمكنت القوة التي ذهبت إلى قلعة ومخازن السلاح من محاصرتها. باشرنا بإطلاق المدفعية مع بزوغ الفجر. أشعلنا النار في بيت الإمام (دار البشائر) ثم قصفنا بعض البيوت التي تطلق النار على الثوار، حسمت المدفعية الموقف لأن الإمام أدرك أن النار تطلق من الخلف على منزله فقرر الهرب. أطلقنا 25 طلقة على بيت الإمام والباقي على البيوت الأخرى. 

انتظرنا من بعد استسلام قصر السلاح والثكنات التي لم تعلن موقفا من الثورة. وكان الموقف عصيبا في الصباح. ذهبت مع وفد إلى المشير عبد الله السلال كي ينضم إلينا، فرحب بالفكرة وأعطى أمرا بفتح قصر السلاح، وكان هذا انتصارا كبيرا لنا حيث تزودنا بالأسلحة والذخائر.

هرب الإمام الساعة العاشرة صباحا وأعلنت الجمهورية. كانت الإذاعة تنقل صورة الثورة وشكلت انتصارا كبيرا لنا إذ تجمع الناس في الساحات وجاؤونا بالحلوى والعنب.. في هذا الوقت بدأت الإعدامات وكان أولها رئيس محكمة الاستئناف وهو من بيت المتوكل ومن أعوان الإمام. كان رجلا طاعنا في السن جاؤوا به وأعدموه خوفا من أن يتكرر ما حصل عام 1948. وأعدم أقارب الإمام وبعض وزرائه. 

 

يحيى المتوكل مع إبراهيم الحمدي رئيس الجمهورية الأسبق ومحسن العيني رئيس الوزراء

في اليوم التالي بدأنا نخطط لما بعد إسقاط الإمامة. نحن أعلنا أن الإمام قتل لكنه في الواقع نجا وهرب إلى مناطق القبائل للاستعانة بها. ذهب إلى حجة كما فعل أبوه، لكنه ما كاد يصل إليها حتى كان الضباط قد شكلوا فرقا لتعقبه بقيادة علي سيف الخولاني، الذي سرعان ما سيطر على حجة فاضطر البدر أن يواصل سيره شمالا، وبدأنا نشعر بخطورة الموقف.

على صعيد آخر، عاد الزبيري (الشاعر محمد محمود الزبيري وكان أحد أهم رموز الثورة المدنيين)، والبيضاني (عبد الرحمن البيضاني كاتب وسياسي وشاعر هو نائب رئيس مجلس قيادة الثورة في بدايتها) من مصر التي أرسلت لنا مجموعة من الضباط لاستطلاع الموقف. البيضاني أخذ الثورة نحو مهاجمة السعودية واستخدم لغة صوت العرب. 

في اليوم الثالث للثورة، كلفت بقيادة حملة في المنطقة الشمالية الغربية التي تضم مدينة شهارة، وكانت بعض المناطق تقاتل مع الإمام. أما الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر فكان مسجونا في سجن المحابشة في حجة. خرج من السجن وكلف بالذهاب إلى المنطقة نفسها. وصلت إلى مدينة خمر التي وصل إليها أيضا الشيخ عبد الله وبدأنا ننسق معا. جمع أفراد القبائل الذين اتحدوا مع قواتي، وكانت تضم مدافع ومدرعات وضباط الجيش وأطقما نظامية. خطب الشيخ عبد الله بالقبائل ودعاهم للسير معنا.. واصلنا سيرنا حتى وصلنا إلى مدينة شهارة مسقط رأسي وهي كانت تميل إلى الإمامة. ثم طاردنا الإماميين إلى أن جاءنا مدد من الضباط والجنود المصريين. كانت العمليات تدور بين مد وجزر حتى شهر شباط (فبراير) من العام 1963.

 

اقرأ أيضا: يحيى المتوكل.. هاشمي انشق عن أسرته ودمر القصر الملكي


التعليقات (0)