هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ثمة مقاربات إبداعية متنوعة لفكرة الهرم وآلام الشيخوخة وما يكابده الإنسان حين يبلغها. بالطبع تفتح الشيخوخة وتوابعها، كالخوف من تداعي الجسد واقتراب الموت، بابا واسعا للخيال والتأمل.
من الروايات التي حققت شهرة عالمية بسبب تناولها الذكي لهذا الموضوع روايتا "الجميلات النائمات" للياباني كاواباتا، و"ذكرى عاهراتي الحزينات" للكولومبي ماركيز. تلتقي الروايتان على الانطلاق من نقطة محددة: إحساس رجل عجوز بافتقاد ممارسة الحب، وحنينه للنساء اللاتي مارس الحب معهن في شبابه.
حققت الروايتان شهرة عالمية، وكان ماركيز قد صرح بأن الكتاب الذي يتمنى أن يكون هو مؤلفه هو الجميلات النائمات لكاواباتا.
من السهل توقع السبب في شهرة الروايتين، ففضلا عن شهرة كاتبيهما، يمكننا استشراف سحرهما؛ من منا لا ينجذب إلى رواية تتناول عجوزا ذاويا يهرب إلى ذكريات شبابه عبر زيارة شابات جميلات، متذكرا حبيباته القديمات، مستغرقا في حنين جارف لشبابه الحلو ورهبة عنيفة من موته الوشيك؟
في الجميلات النائمات يقصد بطل الرواية العجوز بيتا يزوره العجائز ليقضوا وقتا مع فتيات جميلات، دون أن يمسوهن، بل يكتفون بتأمل شبابهن وجمالهن. ويصف بطل الرواية مظهر كل فتاة ينعم بصحبتها وهي نائمة تحت تأثير مخدر، وينبش ذكرياته ليستخرج منها امرأة أحبها تذكره بها الفتاة النائمة.
أما في ذكرى عاهراتي الحزينات، واتساقا مع نزوع ماركيز للجرأة في معالجة هواجس الجنس، فبطله صحفي مغمور يكتب عمودا أسبوعيا مملا في الجريدة ذاتها منذ عشرات السنين، وحين يبلغ التسعين يحتفل بالاتصال بمسؤولة بيت دعارة كان زبونها منذ شبابه، طالبا أن تزوره فتاة عذراء ليشتري عذريتها، غير أنه، مسحور بجمالها الفتي، يتراجع عن فكرته ويكتفي بتأمل جمالها وتحرير مشاعره الإنسانية نحوها ونحو النساء اللاتي أحبهن من قبل، متذكرا نزواته القديمة التي امتد بعضها لصبيان من أطفال الشوارع.
تذكرت هاتين الروايتين وأنا أقرأ "غرفتان وصالة" لإبراهيم أصلان. دون وعي، قارنت بينها من جهة وبينهما من جهة أخرى.
يختط أصلان لنفسه طريقا آخر، يبدو لي جديدا، ولم يسبق لي أن قرأت عملا يشبهه. فأولا تعمد أصلان خلخلة بنية نصه، معتبرا أنه متتالية قصصية، أي مجموعة نصوص متتالية تعالج موضوعا ما دون أن تكون رواية متكاملة ذات حبكة واضحة. هي إذن مجرد مواقف يجمعها كاتبها معا.
ولعلي أستطيع القول إن أصلان قصد إلى ذلك؛ أي قصد إلى طرح منظور متحرك للرؤية، يقدم مواقف غير مترابطة تتسق مع ذاكرة عجوز يطل على حياته من عل، يتأملها فلا يجد إلا مواقف وذكريات ومتناثرة، تحضره أهمها وأقربها إلى قلبه، دون أن تؤلف قالبا كاملا لرواية، ومن أين لها بهذه الوحدة ما دامت تتكئ على ذاكرة عجوز قلق خائف من الموت؟
على أن هذه البنية السردية فتحت لأصلان مساحات واسعة يتنقل بينها دون حاجة لتقديم مبررات أو أحداث تشرحها، فانتقى أروع ما يمكن أن يتذكره رجل عجوز وأكثر ما يثير شجننا من تأملاته وذكرياته.
فهو ينتقل برشاقة بين مواقف تخص ولديه حين كانا صغيرين، ثم حين تزوجا، كما يتذكر زوجته الراحلة ويبلغ ذروة في السرد حين يصل إلى لحظة وفاتها، مثلما يخصص مساحة مؤثرة لجاره محمود وأسرته.
ليس في النص كلمات عاطفية، ولا شكاوى صريحة. مجرد مواقف وذكريات وتأملات، لكنها معا قادرة على زلزلة نفس القارئ.
لسبب لا أعرفه لم يكد أصلان يتطرق إلى موضوع الجنس وذكرياته، ربما اعتبر أنه استُهلِك من قبل، أو لعله أراد التفرد في ملعبه؛ ملعب تحويل العادي إلى موضوع أدبي ثري.
في العادي واليومي، يكتشف أصلان إمكانات هائلة لاختزال المشاعر والتعبير عن أسى أي إنسان كهل. مثلا أفرد أصلان مساحة كبيرة لذكريات البطل مع طاقم أسنانه الصناعية.
اقرأ أيضا : اللون الفلسطيني لشعر أمل دنقل!
عبر تجربته مع الطاقم، نشعر بما مر به، بدءا من الكيفية التي طلبت بها زوجته أن يشتري طقم أسنان بعد حصوله على مكافأة نهاية خدمته، وخناقته الطريفة معها لتسميتها طاقم الأسنان: "عدة أسنان"، مرورا بتجربة الكشف والشراء ثم مشكلات الطاقم وكيفية تخزينه، وانتهاء بهجره تماما.
ثم يدخل النص إلى مناطق أخرى في الحكي حتى نصل إلى موقف بالغ القسوة. ذهب العجوز إلى صديق واقترض منه مالا ثم اكتشف ضياعه فور وصوله لبيته، فعاد للبحث عنه، ليسقط على سلالم بيت صديقه، ويخرج من العمارة يائسا متألما.
على المقهى يحاول تنظيف ملابسه وتفحص الإصابات التي لحقت به، حتى يكتشف كدمة وجرحا في ذقنه بسبب الارتطام بالسلالم، فيفاجئنا بالقول لنفسه بأنه من حسن الحظ أنه توقف عن ارتداء طاقم الأسنان، وإلا كانت ستقطع لسانه لحظة الاصطدام بالسلالم! لم أملك نفسي فضحكت رغم سوداوية المشهد.
لعل هذه المقدرة الاستثنائية على التقاط تفاصيل صغيرة لكن صادقة وقوية الدلالة، مما تفرد به أصلان وساهم في تألقه. فعبر التقاط تفاصيل بسيطة كتلك، خلب ألبابنا وأدهشنا؛ كيف لتفاصيل يومية نراها كل يوم أو نسمعها أن تحتوي على هذا المخزون القوي من المشاعر والأفكار؟
في لقطة موت زوجة البطل رأينا مشهدا طريفا ويوميا للغاية: الزوجة في غرفة داخلية، والعجوز يشاهد فيلما حيث رن جرس التلفون في الفيلم فظنته الزوجة رنين تلفون البيت، نادت على أولادها ليرد أحدهم على التلفون فضحك العجوز وقام يخبرها ضاحكا أن الرنين في الفيلم لا الواقع، فإذا بها ميتة في جلستها! هكذا يصفع الموت: في أشد لحظات الحياة يومية وتفاهة وطرافة.
وتتصل هذه القدرة بالقبض على التناقضات الصغيرة، التي نخجل من التعاطي معها بأي حال. مثلا توهم العجوز أن إحدى ساقيه أقصر من الأخرى، والسبب مضحك: كسرة زائدة في البنطلون أوهمته بذلك، خاف وسيطر عليه القلق، حتى فاتح صديقه على المقهى بذلك، بعد أن تعمد السير البطيء أمامه أولا ليرى إن كان سيكتشف المشكلة من تلقاء نفسه أم لا. أستطيع أن أتذكر كثيرا من مواقف العجائز التي يفكرون فيها بتلك الطريقة تماما.
هذا الاصطياد الذكي لطرائفنا وحماقاتنا التي لا يراها أحد.. هو سمة إبداعية أصلانية بامتياز، حتى إننا أجرأ على القول بأن إعجابي ودهشتي بقراءة نصه كان، لا يقل عن إعجابي بجميلات كاواباتا وعاهرات ماركيز!