هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يضع التاريخ جورج جاكسون في مكانه الصحيح، كمناضل ثوريّ، قضى 11 عاما من عمره القصير في السجون الأمريكية، ظل خلالها يدافع عن حقوق الأقليات والمضطهدين في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي كل بقعة في الأرض يطؤها الاحتلال والأدوات الاستبدادية التي تليه، عن طريق خططه للإضراب، وحشده وتوحيده للسجناء، ومقالاته وتنظيراته وأفكاره الثورية.
صُنّف جورج جاكسون المولود في 23 أيلول/ سبتمبر عام 1941 في ولاية شيكاغو، في بداية حياته ضمن اجتماعات البروليتاريا الرثّة بوصف الألماني فريدريك إنجلز، حيث كان يعيش حياةً بائسة، وسط مئات الآلاف غيره من البؤساء أصحاب البشرة السوداء المُحاصرين بحدود إمبريالية بيضاء، لا منّه مثقفا ثوريا ولا منّه عاملا في آلة إنتاج رأسمالية كبيرة.
دخل جاكسون السجن عندما ناهز الـ18 عاما، بتهمة سرقة 70 دولارا، ليُحكم عليه بالسجن لمدة عامٍ واحد، لكنّه لم يخرج بعد انقضاء مدّة سجنه، ثقّف جاكسون نفسه بنفسه، في السجن بدأ يتعرف على الكتب والكتّاب، على الأفكار والتنظيرات والممارسات والتنظيمات، على الدولة الأمريكية. السجون أو المنظومة العقابية بمفهومها الأوسع كمؤسساتٍ من مؤسسات الدولة هي مثال واضح وصريح لمعرفة كيف تُدار الدولة الحديثة، كما توضح ذلك بعض من كتابات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة د- علي مقلد، تقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، ط1 بيروت، عام 1990، ص 40 – 41).
حول العنف، التحرر، الإمبريالية
كل يومٍ مضى في سجن جاكسون، اكتسب فيه ممارسةً جديدة، شعبية أكبر، فكرة وكتاب أعمق، انضم جورج لحركة الفهود السود، وهي حركة تأسست في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1966، بعد مقتل المناضل الأمريكي الأسود مالك الشبّاز -مالكوم إكس قبل اعتناقه الإسلام-، من أجل الدفاع عن حقوق أصحاب البشرة السوداء في الولايات المتحدة الأمريكية، ارتبطت نضالات الحركة أيضا بالدفاع والتضامن مع قضايا الأقليات المضطهدين والقابعين تحت احتلال النار والحديد من إمبريالياتٍ أُخرى حول العالم من أقصاه إلى أدناه.
اكتسب جورج ثقافةً واسعة، معرفة جمّة حول التاريخ والحرب والاستبداد والممارسات الثورية، هذا بفضل عشرات الكتب المُهربة إليه التي عثروا عليها في زنزانته، تلك الكتب احتوت أفكار ماركس وتروتسكي وماو وغيرهم من منظّري ومُمارسي الثورة والتحرر، وقصيدة "عدو الشمس" للشاعر والمناضل الفلسطيني سميح القاسم.
نظر جاكسون إلى الإمبريالية كوحشٍ يقف أمام كل المُضطهدين في الأرض، يجب التخلص منه. الولايات المتحدة الأمريكية مثالا على هذا الوحش، المُساعد والداعم الأول للاحتلال الصهيوني لأرض وشعب فلسطين. ارتبط جورج وحركة الفهود السود بالقضية الفلسطينية، حيث سمحت المجلة الصادرة عن الحركة لأعضاء منظمة التحرير الفلسطينية بالكتابة في الدورية الصادرة عنها، لكي يحدّثوا العالم عن قضيتهم عبر عشرات آلاف من النسخ الموزعة للمجلة حول العالم، فضلا عن إصدار بياناتٍ للحركة، كما في بيان عام 1970، شددّوا فيه على دعمهم للشعب الفلسطيني لتحرير أرضه كاملةً من العدوان والاحتلال الصهيوني.
ترجم جاكسون الأفكار والنظريات التي جُمّعت في عقله إلى عشرات المقالات التي كان يكتبها ويهرّبها للخارج لتُنشر في الدوريات الصادرة عن الحركة، وبسببها تم تحشيد عشرات الآلاف من المُهمّشين السود في الولايات المتحدة الأمريكية حول الحركة، ليزيد زخمها وقوّتها في مطالبتها بحقوقها كاملةً كمواطنين لا حيوانات أو درجاتٍ أقل من البشرية البيضاء، كما أنه نشر لجاكسون فيما بعد كتابين، رسائل السجن the prison letter، ودم في عيني Blood in my eye.
شكّلت رسائل وأفكار وممارسات جاكسون قلقا لدى الإدارة البيضاء من حدوث تمرّد واشتعال غضب ملايين من أصحاب البشرة السوداء تجاه سياساتهم، فيقول جاكسون في إحدى رسائله بشأن عدم احتقار أو استبعاد البروليتاريا الرثّة بل والعمل على ضمّهم واحتوائهم ضمن الصفوف الثورية المنظمة: "في وقتٍ مبكّرٍ من تاريخ التصنيع، صاغ العمال شعار الحق في العمل. لا تزال حشودٌ من السود في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى يومنا هذا، محرومةً من هذا الحقّ الأساسي. هم يعيشون كعمالٍ عرضيين، وآخر من يُوظَفون وأول من يُفصلون. لا يجوز لنا أن نستبعد الخطّ الفاصل بين العاطلين عن العمل واللومبنبروليتريين من أجل تنظيمهم بين الصفوف الثورية".
دمج جاكسون بين نضال السود في كل دولة تمارس فصلٍ عنصري وبين نضال شعوب العالم الثالث، حينَ تحدّث في كتابة "دم في عيني BLOOD IN MY EYE" عن إمكانيتهما الاثنين في محاربة عدوٍ واحد، متمثل في السادة الرأسماليين الذين يديرون أنماط الإنتاج وسياسات الدول والحروب والاحتلال والأسر والتعذيب والقتل من أجل مصالحهم على حساب الأغلبية الفقيرة من الشعوب الفقيرة والمُضطهدة.
حول المقاومة السجينيّة
أيضا، حاول جاكسون التطرّق إلى تفكيك ممارسات الاستبداد بحقّ السجناء داخل السجون الأمريكية، المؤسسات العقابية في الدول الحديثة التي تستخدم ممارساتها المُهينة والمُنتهكة لحقوق السجناء، بل وتُعيد إنتاج وهندسة أجساد سجنائها لتحوّلهم إلى أرقام بلا اسم أو ذات أو كينونةٍ لها حقوقها واحتياجاتها.
حيث في شباط/ فبراير من عام 1970، نظّم سجناء سجن سان كوينتين احتجاجات سلميّة للمطالبة بتحسين ظروف الاحتجاز، وتحسين ظروف المعيشة، والحدّ من العمل الإلزامي والمعاملة المهينة المعتمدة على الضرب والتعذيب والتأديب، انتقلت بعد ذلك تلك الاحتجاجات إلى سجونٍ أمريكية أُخرى، لتبدأ الإدارت الأمنية القابعة داخل السجون وخارجها في قمع تلك الاحتجاجات ومحاولة إخماد نيران غضبها ورجوع السجناء مرّةً أُخرى إلى حظائر الطاعة والخضوع.
من يعرف جيدا طريقة إدارة المؤسسات العقابية لمعيشة سجنائها، سواء كانت معرفته من خلال القراءة والدراسة أو من خلال الممارسة -أي كان سجينا سابقا- يدرك استحالة حدوث حالة مقاومة جماعية من قِبل السجناء ضد نمط معيشتهم، لذلك أحدث جورج نجاحا كبيرا من خلال تنظيمه لحالة مقاومة جماعيّة داخل السجن، وعمله على توحيد السجناء ومعرفة حقّهم، بدلا من استقواء بعضهم على بعضٍ، وتسليط القوي على الضعيف الذي يتمّ غالبا تحت عين إدارة السجن.
لم يكن جاكسون منظرا أو مُمارسا لأفكار إصلاحية، بل إنه كان يؤمن بالعنف المشروع والحرب تجاه الإمبريالية على أنّهما فعلٌ أساسيّ للتحرير، ليس لهم فقط، بل لكل البشر بتباين ألوانهم وأعراقهم، الفاقدين لكرامتهم وحريتهم وحقوقهم في كلّ العالم، في كل مكانٍ وفي كل وقتٍ، هذا أيضا ما اتفق عليّه أيضا النفسانيّ والاجتماعيّ الفرنسي فرانز فانون (1952-1961)، حول العنف وإمكانيات المقاومة لدى الشعوب ضد المُستعمر، لما رآه بعيّنه وعايشه من ممارسات الفرنسيين المحتلّين بحق شعب الجزائر وأرضها (فرانز فانون، معذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة ط1 2014)
تخلّصت إدارة سجن "سان كوينتين" من زعيم الاحتجاجات بالداخل ومشعلها بالخارج، عن طريق تلفيق تهمة له ولرفيقيه، وهما "فلييتا درمغو وجون كلتشيت" وهي قتل حارس داخل السجن، وتم الحكم عليهم بالموت، وبالفعل قد نفذت السلطة حكمها عن طريق تصفيتهم جسديا ضربا بالرصاص، في آب/ أغسطس عام 1971.