لم أعد استسيغ المقاهي؛ مهما كان مستواها، وكذلك كل أفعال الاضطرار اليومي، ولذلك سألته: هل الأمر يصل حد "الضرورة القصوى"، فنفى، وخيرني، فذهبت ألتقيه قرب ميدان الجيزة.
صديقي، يقيم، تقريبا، في المقاهي. يقيم بمعنى أنه منذ الاستيقاظ حتى النوم يكون هناك، والاختيار كان بين أيها أُفضل: العابرة أم المختارة، وشرح لي تصنيفه، وهو تصنيف يعتمد على مفهوم "قديم" لتعبير "محل الإقامة"، فقبل سنوات كنت تجد في بعض أوراق الحكومة خانة "محل الإقامة المختار"، فالمواطن قد يكون لديه أكثر من محل للإقامة، ولذلك عليه أن يختار من بينها واحدا، يُبلغ به الحكومة في الأوارق الرسمية التي يتعاملان من خلالها، كي تصله على محله "المختار" إشعاراتها الرسمية، وقد نهج صديقي نهجا حكوميا منضبطا فكان لديه دائما محلا مختارا، ودرت معه، سنوات، بين مقاهي؛ لم أعد قادرا على تذكر عددها.
في مقهى قرب ميدان الجيزة جرت الواقعة، ذهبت في الموعد المحدد، بالضبط، وبعد نظرة سريعة، أجبت على السؤال: حضرتك جاي للأستاذ...؟، وكان ترحيب العامل مفرطا، واعتذاره عن تأخر صديقي مبالغ فيه، خمس دقائق، وشعرت بحركة غير طبيعية، تنامت فشملت جانبا ليس صغيرا من المقهى، ثم اعتذارات من العامل، واقتراح بالانتقال لمكان آخر، اكتشفت عنده أن المقهى أوسع وأكبر مما تصورت، وزادت الضجة والحركة دقائق، ثم سكنت، وجاء صديقي، وحكى: البلدية تأتي، كل أسبوعين، تقريبا، تأخذ عددا من الكراسي، ويذهب المعلم ويدفع الغرامة، ويسترجعها، تتفاوت الفترة الزمنية بين كل "هجمة" وآخرى، كما يتفاوت عدد ونوعيات "العدة"، وزيادة في الاحاطة بالموضوع نادى، صديقي، على العامل، الذي شرح الأمر؛ ببعض التفصيل، ولم يعد لي سوى استفسار، فحولي كانت هناك "شيش" (أدوات لتدخين المعسل)، وتدخين "الشيشة" يتم علانية وبهمة على الرغم من أنها ممنوعة، بشكل قاطع، بسبب كوفيد 19، والعامل أوضح: مفهوم، ممنوع، لكننا مرتبين الحكاية، "الدوشة" (الضجة) اللي (التي) شوفتها (رأيتها) كانت بسببها، غرامة الشيشة الواحدة 400 جنيه، ومصادرة تامة، غرامة الكرسي 50 جنيه، الحملة اللي جت كلمتنا قبل ما تتحرك عشان نطلع 30 كرسي عشان الضابط ما يدخلش ويشوف الشيشية، ومع الشين الثانية رأيت عند مدخل المقهى عنصرا شرطيا فنظرت إليه بانتباه، وتابع العامل نظرتي إلى حيث تقع، ثم طار باتجاهه، وحين عاد قال: الصول عايز يدخل الحمام، وعايز كوفي مكس للضابط، وحلبة باللبن له.
كانت المصادفة فجة للغاية، فجة مع صبغة من الكوميديا السوداء، فبينما كنت اتجهز لمغادرة منزلي للقاء صديقي في محله المختار، في هذه الفترة من عمره، لأمر لا يصل إلى حد "الضرورة القصوى" سمعت صوت شادية وهي تغني "انا اسمي إيرما لا دوس"، لثوان، ثم سمعت أصوات ثانية من مسلسل هندي مدبلج بالعربية الفصحى، لثوان، وثالثة من مسلسل كارتوني باللغة الإنجليزية، فقد كانت فقرة من عشرات الفقرات اليومية الرتيبة للممارسة العائلية "المقدسة" في البيوت المصرية: طقس "تقليب القنوات"، الذي بات يثير نفوري من التلفزيون، على نحو لا يحتمل.
نبعت المصادفة من أن العنصر الشرطي؛ الذي لم أتبين درجته أو رتبته بنفسي، تجسد في مخيلتي على هيئة الممثل إبراهيم سعفان، وبعد أن أوضح العامل أنه "صول"، اشتغلت (مخيلتي) فصاغت الأمر هكذا: هل الصول يشبه فعلا إبراهيم سعفان؟، وكان الأمر يستحق بعض الوقت فسألت صديقي أن ينظر إلى الصول عندما يخرج، فصاح على العامل، وطلب منه أن يجعل الصول يقترب ليتحقق، وهنا وثبت المصادفة لأفق مذهل، فبينما الصول يمسك بـ "الكوفي مكس" الخاص بالضابط بيده اليمني، وباليسري يرشف سريعا من "الحلبة باللبن" ناداه العامل: ممكن لحظة يا صول إبراهيم؟.
إبراهيم!.
رشفة سريعة ثانية، ووقف أمامنا، وصديقي مذهولا، وأنا أكاد أقع من على الكرسي من فرط الضحك ومن فجاجة اكتمال المصادفة، هكذا كنت أعتقد، لأنه يصعب تصور أن لها ذروة، أبعد من هذا، ذروة لا مثيل لها، فالصول إبراهيم قرأ ما تشي به هيئتنا، صديقي وأنا، وهز رأسه، ورشف؛ ثالثة، وهز مرة آخرى، وقال: مش كتير، لكن بيحصل، يوقفني واحد، أو واحدة، وهي زيكم، مسخسخة، اعمل إيه، خلقة ربنا، حاولت أحلق الشنب لكن ما جبش نتيجة. تقولوا إيه وتعملوا إيه لو شوفتوا الضابط.
يدرك الصول إبراهيم أنه نسخة طبق الأصل من إبراهيم سعفان في شبابه. وقد غادرنا، وصديقي ينفث الأنفاس الأولى، يسميها "البكارة"، شهيق متقطع، ثلاث أو أربع مرات، الفعل معتمد لدى "أصحاب المزاج"، إنها مرحلة "تبكير" تجعل الفحم "يوهوج"، ويأتي الزفير بسحابة دخان مثالية، ثم أخذ، صديقي، المصادفة لأفقها "المستحيل"، فبدأ يتكلم متذكرا وقائع، ومتخيلا مسارات، ومفسرا غوامض، وأنا لم تكن لدي مقدرة على القيام بأى فعل سوى الاصغاء، فبعد أن يخبرني أنه بمجرد أن خرج الصول إبراهيم حضر مشهد عايدة (اسم شخصية شادية في فيلم "عفريت مراتي") وهي تدخل شقتها ممسكة بطرف رابطة عنق يظهر في أخرها وجه إبراهيم سعفان، ثم ارتباكه حين وجد حضورا غير متوقعين، وقيامه بالسلام عليهم واحدا واحدا، بعد أن يقول، صديقي، هذا، دون أن أخبره بما جري في البيت، فما الذي يمكنني فعله سوى الاصغاء، الإصغاء لصديقي وهو يكمل المصادفة/ المفارقة الكلية/ المفارقة الوجودية.
حكى أنه صلى صغيرا وكان إبراهيم سعفان إماما، ذلك أن أحد أخواله أخذه للصلاة في مسجد كبير بحي الدقي، وأنهما تأخرا عن الوقت، لكنهما وجدا جماعة صغيرة تصلي فانضما لها، وفور الفروغ من الصلاة تبين لخاله أن إمام هذه الجماعة الصغيرة، التي لم تلحق بالوقت كان، إبراهيم سعفان، فذهب يسلم عليه، وسحب صديقي معه، فسلم الصغير المندهش، ورتب الممثل الإمام على رأسه.
ويواصل صديقي: كان يسكن بالقرب من المسجد، وهو أولا وأخيرا أزهريا ووصل في الوظيفة العامة إلى درجة وكيل وزارة الأوقاف، هكذا أخبرني خالي، ولم أدقق روايته، فقد كنت أحب إبراهيم سعفان كثيرا، وعرفت أن له أفضال على الكثير من الممثلين والممثلات، وأنه كان مرجعا معتمدا في اللغة والإلقاء. لكن ما يغريني الآن بالتفكير والحديث هو هذه المصادفة، لكنها تنحرف في تفكيري قليلا بعيدا عن إبراهيم سعفان، وتتمحور حول إيرما لا دوس، ليس الأغنية، ولكن الفيلم، ليس في نسخته الأمريكية، بل في تمصيره غير المتقن.
لكني سأخبرك أولا عن قريبتي: كانت مولعة بالفنانة نادية الجندي، قبل زواجها، لم يفتها فيلما في أسبوعه الأول، وعندما تمت خطبتها، عرفت أن خطيبها لا يحب نادية، وأنه مجنون بعادل إمام، ومثلما تفعل مع أفلام نادية يفعل مع أفلام عادل، ثم حدثت المفاجأة الكبرى في الأسبوع الثالث من زواجهما، وذهب العريسان إلى "خمسة باب" في ليلة عرضه الأولى، وخرجا منه يتعاركان، هو يسب نادية، وهي تمسح بكرامته وكرامة عادل بلاط صالة السينما، فرمى يمين الطلاق الأولى: عليّ الطلاق مفيش نادية بعد كدا.
بعد أيام حين قرأا، معا، خبر منع الفيلم من العرض، تصالحا، واعتبرا أن الفيلم كان "نحس" على الكل.
زرتهما بعد الصلح بأشهر، كان حملها يتعبها، وكان زوجها فرحا لأنه حصل على عقد عمل مغري في دولة خليجية، وتداعى منا الكلام حتى وصل إلى أسماء المولود المقترحة، وحدث ما تقول عنه البلاغة: ران الصمت، أعدت الاستفسار: لو بنت حتسموها أيه، ولو ولد حتسموه أيه، ومرة آخرى: ران الصمت، هو ينظر للسقف، وهي تنظر لبطنها وتحرك كفيها بصورة غامضة، لم أفهم منها شيئا، ولا أدرى كيف خطر السبب بذهني، وكيف تجرأت على طرحه على الفور، فقد كان، بالفعل، مصرّا على عادل، إذا كان ولدا، وهي على نادية، إذا كانت بنتا.
وكنا ثلاثتنا في وضع غريب، فأنا كنت محرجا من إنفلات ذهني ولساني، متحصنا بصمت من اكتشف أنه يقف وسط حقل ألغام، ويتطلع حوله دون جدوى، وهما يردان أن أنهي الزيارة سريعا كي يتفرغ كل منهما للآخر.
تريد أن تعرف ما حدث بعد ذلك، لماذا لا تتكلم، سأخبرك بما هو أكثر غرابة، الآن، ثم سأحكي لك، أتعرف ما هو اسم قريبتي واسم زوجها؟، إنها عايدة، زوجة صالح.
1
شارك
التعليقات (1)
نسيت إسمي
الإثنين، 20-09-202112:32 م
'' الصدفة تقود صديقين إلى العثور على كنز ضخم '' تلعب الصدفة أحياناً دوراً هاماً في حياتنا وتقلبها رأساً على عقباً، وتحل ألغازاً وتكشف أسراراً كثيرة، وتقود بعض الناس إلى الثروة، وهذا ما فعلته الصدفة هذه المرة مع كلاً من بور رينارد 44 عاماً وصديقه مايكل جوين 52 عاماً، حيث قادتهم خلال بحثهم عن خاتم زواج مفقود إلى العثور على كنز ضخم مدفون تحت الأرض. خلال بحث الصديقين عن خاتم زواج فقد من أحدهم خلال العطلة الأسبوعية، التي قضاها في أحد الحقول الأيرلندية في مدينة باليكاسل، عثروا على كنز مدفون تحت الأرض قدرت قيمته بنحو 100 ألف إسترليني، وهي عبارة عن 84 عملة نقدية تعود للقرن السادس عشر. وفقاً لأحد خبراء العملات النقدية التاريخية والأثرية، فإن إحدى العملات المعدنية التي عثر عليها الصديقان، خاصة بالملك هنري الثامن وهي نادرة للغاية وتقدر قيمتها وحدها بأكثر من 5 آلاف إسترليني. الصحف البريطانية تحدثت عن الأمر، وكشفت سعر العملات التي عثر عليها الصديقان، وتضمنت المجموعة التي عثر عليها الصديقان، عملات معدنية أخرى، مثل واحدة تعود لعام 1546، عندما حكم الملك الشهير إدوارد السادس، يمكن أن تصل قيمتها إلى 3 آلاف جنيه إسترليني . وأرسل الصديقان القطع النقدية إلى متحف ألستر في المملكة المتحدة، لتحديد لمعاينتها من قبل الخبراء. وبالرغم من أن عملية التحقق قد تستغرق أشهر، فإن خبراء آخرين أكدوا لبول أن قيمة هذه القطع المعدنية قد تصل إلى 100 ألف جنيه إسترليني.