مقالات مختارة

المناهج المدرسية … وإزالة بصمات الاستعمار منها!

أبو بكر خالد سعد الله
1300x600
1300x600

الباحث علي مغجي، أستاذ بجامعة كمبردج البريطانية مختص في قضايا اللامساواة والتهميش والإقصاء في المجتمعات، وله عديد المؤلفات في هذه المواضيع. وقبل أسبوع نشر -في أسبوعية “أنباء الجامعات في العالم UWN))” الصادرة في لندن- مقالا بعنوان “إزالة بصمات الاستعمار يتم بإضافة المعارف وليس بحذفها”. ويأتي هذا المقال إثر النقاشات الحادة، والساخرة أحيانا، التي شهدتها بريطانيا خلال الأشهر الماضية. وفي هذه النقاشات دعوات متضاربة لإعادة النظر في المناهج المدرسية ذات الصلة بتاريخ الاستعمار.
الاستعباد … والقطن البريطاني
وفي ظل هذا النقاش استاء كبار الساسة في بريطانيا، ودعوا إلى وقف هذه الحملة والاتهمات والعمل على “الدفاع عن تاريخ البلاد” ضد النشطاء الذين يريدون “إسقاط بريطانيا” ! وعلى كل حال، فهناك شبه إجماع على أن حذف بعض النصوص من المناهج المدرسية الخاصة بتاريخ بريطانيا سيكون بمثابة تحريف لتاريخ البلاد إذ أنه سيرسم صورة خاطئة لماضي بريطانيا عبر العصور. ويرى الكاتب علي مغجي أن هذه النظرة المطالبة بحذف نصوص من المناهج تعدّ فهما خاطئا ورؤية مضللة لأن الصواب يتطلب إضافة معارف للمناهج وليس تقليصها.
ذلك أن حجر الزاوية في تنقية المناهج المدرسية من الرؤية الاستعمارية هو التأكيد على أن الاستعمار والاستعباد كانا عمليتين مركزيتين في ظهور العالم المعاصر. ولإبراز هذا الجانب، يرى الكاتب أنه علينا أن نلقي الضوء على العديد من الأحداث التاريخية التي يتم التستر عليها يوما بعد يوم في المناهج التعليمية في الغرب. وفي هذا السياق، من المهمّ تتبع تطوّر العالم الحديث : من حقبة التصنيع إلى مرحلة نموّ الرأسمالية، إلى العولمة. فمن المستحيل أن نتجاهل ارتباط هذه الحقب التارخية بالاستعمار.
وضرب الكاتب عدة أمثلة لتوضيح رؤيته لكتابة التاريخ الاستعماري. والمثال الأول الذي أتى به يخصّ التصنيع البريطاني من القرن السابع عشر إلى القرن والتاسع عشر: يُعزى النجاح الباهر الذي عرفه هذا التصنيع في بريطانيا إلى ازدهار تجارة القطن والمنسوجات. لكنه ينبغي أن ندرك ونوضح في المناهج المدرسية بأن القطن البريطاني آنذاك كان يتم استيراده إلى حدّ كبير من استغلال العبيد في الولايات المتحدة. وفي ذات الوقت كانت بريطانيا تستورد تقنيات تحويل هذا القطن إلى منسوجات من الهند! والأدهى من هذا كله أن الكثير من صادرات القطن البريطاني تتّجه إلى مناطق من الإمبراطورية البريطانية، وعلى رأسها الهند، من أجل سحق الأسواق المحلية. وهكذا ندرك الصلة الأساسية التي كانت تربط الاستعباد (في الولايات المتحدة) والإمبراطورية البريطانية (في آسيا) والتصنيع البريطاني (في أوروبا).
ولذا يقول الكاتب أنه بدل فرض رقابة على أحداث الماضي التاريخي في المناهج المدرسية، كما يطالب البعض، فمن الأجدى أن نضيف إلى تلك المناهج هذه الحقائق التي تمّ طمسها في الكتب المدرسية البريطانية.
طمس الثورة الهايتية (1791-1804)
ويندهش الباحث علي مغجي من كون طلبة جامعته (جامعة كمبردج) لا يعرفون شيئا عن تاريخ الثورة الهايتية (1791-1804)، وهي أول ثورة ناجحة للعبيد في التاريخ الاستعماري. ففي ذلك الوقت كان القانون الفرنسي في المستعمرة هايتي يقضي باعتبار العبد مِلْكا عقّاريًا وبإعدامه إذا ما استعمل العنف ضد سيّده أو سرقه. ومع ذلك كان هؤلاء الطلبة جميعًا على دراية تامة بتاريخ الثورة الفرنسية (1789-1799) التي تزامن تاريخها مع ثورة العبيد في هايتي!
يقول الكاتب بهذا الصدد إنه حريّ بالمناهج المدرسية في الغرب أن تربط هاتين الثورتين الاجتماعيتين ببعضهما البعض. ذلك أن هذا التوجّه في كتابة التاريخ الذي نلقّنه في المدارس سيمكّن الجميع من رؤية كيف كانت الثورة الفرنسية، في واقع الأمر، ثورة تخصّ نخبة من الناس يعيشون في أوروبا داخل “البلد الأم” للإمبراطورية الفرنسية آنذاك، وأن عمل هذه النخبة العنصرية كانت منطلقا لثورات ضد الدولة الفرنسية في مستعمراتها. فقد أثبت الثوار الهايتيون أن التصريحات الثورية الفرنسية -مثل “يولد الرجال أحرارًا، ويظلون كذلك، وهم متساوون في الحقوق” وأن “هذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمان ومقاومة الاضطهاد”- تصريحات عارية من الصحة تتعارض بشكل أساسي مع ممارسات السلطة الفرنسية التي كانت تكيل بمكيالين داخل إمبراطوريتها وخارج وطنها الأم.
ويلاحظ الكاتب أن كل ذلك يحدث والثورتان الهايتية والفرنسية هما حدثان أساسيان في التاريخ الحديث. ومع ذلك لا نجد في المناهج الغربية في كل مراحل التعليم سوى التركيز على الثورة الفرنسية دون التحقيق في الثورة الهايتية. ويختم كلامه بالإشارة إلى أن “إنهاء استعمار المناهج” يتم بمعالجة هذا الإجحاف في تقديم المعارف. وهكذا فإن التركيز على الأحداث التاريخية المحذوفة وإعادة الاعتبار لها وإبراز الترابط العميق بين ما يجري من وقائع في العالم سيؤدي إلى إزالة بصمات الاستعمار من مناهجنا.
أول إبادة جماعية في القرن العشرين
وقدم الكاتب مثالا آخر يتعلق بتاريخ النازية والفاشية في أوروبا مشيرا إلى أن هذا التاريخ يشكّل عنصرا أساسيًا في التاريخ البريطاني. غير أننا لا نربط بين الفاشية الأوروبية والاستعمار الأوروبي، مما يجعل الأمر يبدو كما لو أن النازية الأوروبية تطوّرت بشكل مستقل عن الإمبراطوريات الأوروبية. فأول إبادة جماعية في القرن العشرين (1904-1908) كان ضحيتها شعب ناميبيا في إفريقيا، وقامت بها الإمبراطورية الألمانية. وكان للشخصيات الرئيسية المشاركة في هذه الإبادة دور فعّال في استخدام نفس التقنيات عند النازيين!
كما أن النازيين استعملوا الطرق الاستعمارية في الإبادة الجماعية التي استخدمتها الإمبراطورية البريطانية عندما فرضت مثلا المجاعة في بلاد البنغال وأيرلندا، إذ كان يُنظر لهذه الطريقة على أنها الطريقة الأكثر فعالية -من حيث التكلفة- لإبادة أعداد كبيرة من الناس. ولا ننسى أيضا أن الإسبان استعملوا طرقا مماثلة في غزوهم للقارة الأمريكية. ويلاحظ الكاتب أيضا أن بعض الحركات المناهضة للاستعمار استلهمت أيضا من النازيين. وضرب مثلا بزعيم القومية الهندوسية فير سافاركار Veer Savarkar (1883-1966) المناهض للاستعمار في القرن العشرين، والذي كان يرى أن معاملة هتلر لليهود نموذجا مناسبا لـحل مشكلة المسلمين في الهند.
تُعدّ إزالة البصمات الاستعمارية من المناهج المدرسية مسعى ضروريًا يتعيّن على المؤسسات التعليمية القيام به. وهذه الإزالة ينبغي ألا تتضمن “حذف” أحداث تاريخية وتجاهلها، أو مصادرة مؤلفين، أو حرق كتب ووثائق. إنها عملية ضرورية لتطوير التعليم. ذلك هو رأي الباحث البريطاني علي مغجي في التعامل مع التاريخ الاستعماري في كتبهم المدرسية. ليتنا نتأمّل في هذا الرأي!

(الشروق الجزائرية)

1
التعليقات (1)
همام الحارث
الأربعاء، 22-09-2021 03:53 م
مقال الأستاذ الدكتور "أبو بكر خالد سعد الله " حفظه الله جيد و يحتاج إلى قراءة متدبرة متعمقة. في عصرنا الحالي ، لا توجد موضوعية و منهجية علمية في الغالب سوى في مواضيع العلوم الطبيعية و في بعض مواضيع الإنسانيات التي قد تخضع للملاحظة و التجريب و الاستنتاج . أما في موضوع التاريخ ، سواء القديم منه أو الحديث ، فهو مليء بالأكاذيب و التحريف و التزييف التي صنعتها أيدي مؤرخين كانوا يعملون لخدمة الاستعمار الأوروبي و هو ينطلق في العالم ليغزو البلدان و يستعبد أهلها و ينهب ثرواتها . تدرك النخبة المثقفة في أوروبا أن تاريخ بلادها الاستعماري كان أكثر ملئاً بالبقع السوداء من غيرهم و أن بلادهم ما تحركت لغزو بلاد الآخرين سوى بدافع امتلاك القوة و ليس لأن لديهم رسالة سامية تنويرية يريدون نشرها في شعوب تلك البلاد التي يحتلونها . لم يكتسب "السيد الأوروبي" العقول و القلوب في المستعمرات بل كان أهل تلك البلاد الخاضعة يتمنون زوال كابوس الاستعمار في كل حين بل و حاولوا القيام بذلك من خلال ثورات و صدامات و اضطرابات. بعد ذلك ، تحولت اللعبة السياسة الاستعمارية من التواجد المباشر إلى التواجد غير المباشر فقرروا منح البلدان المستعمرة "بفتح الميم الثانية" كذبتين كبيرتين : حق تقرير المصير ، الاستقلال . الذي حصل أن الاستعمار هو من قرَر و ليست الشعوب المقهورة ، و لم يكن الاستقلال صادقاً فلقد خرج الاستعمار من الباب و عاد من النافذة أو حتى بالعكس . رأى الشعب علماً استعمارياً ينزل في الظاهر بينما قطعة قماش "رسمها الاستعمار على عجل " ترتفع كعلم للبلد الذي نال الاستقلال الوهمي . قام الاستعمار المتغطرس الحاقد بتعيين متحكمين يدينون له بالولاء التام و خدم هؤلاء مصالح الاستعمار بشكل أساسي و استعملوا أجهزة القمع لإبقاء الشعوب في حظيرة الاستعمار مما أدى إلى أن يصفهم البعض بأنهم "كلاب حراسة " مع عدم تأييدي لهذا الوصف الذي فيه مهانة لهذه المخلوقات . الحاصل أن رواية التاريخ ، الذي جرى و يجري تأليفه ، تكون من مادح أو قادح و كلاهما لا يؤخذ منه إلا بعد التدقيق الشديد و التفكير الممحص أي أن لا نكتفي بما يقوله "المؤرخ" و إنما أن نقرأ و نسمع ما يقوله "مفكر التاريخ" .