هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يحفظ الجميع البيت الشعري
لأبي القاسم الشابي :"اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
..."ويتم تداوله في الشارع التونسي وفي مواقع التواصل الاجتماعي بين هذا
وذاك، إلى أن صار هذا البيت أشبه بعملة ممسوحة أو صك توبة عند البعض يستخدمه لتأكيد
ثوريته وانتمائه للشعب، وصرنا، نحن، نتقزز من الزج بهذا البيت في كل الخطابات
والتعلل به في كل الممارسات وكأنهم لم نفهم أبو الشابي...وفي المقابل ورغم هذا
الكم من "الخطابيين" الذين "يتعكزون" على إرادة الشابي فقد
تراجع الاهتمام بالشاعر التونسي؛ ولعله توقف، رغم تنوع وجوه معالجة إبداعه نقديا
وبحثيا. وهنا يمكن القول بأن عمر الشابي في الأكاديميا قصير شبيها في ذلك بقصر
سنوات مقامه بين الأحياء حيث فارق الحياة وهو في الخامسة والعشرين.
قبل أن يموت بسنة واحدة انتهى الشابي من إعداد
ديوانه "أغاني الحياة "وقد ضمنه قصيده الشهير "إرادة الحياة"،
هذا القصيد الذي تحول، فيما بعد، بيته الأول “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد
أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر" إلى شعار
لأغلبية التحركات الاجتماعية والتيارات السياسية والجماهير الغفيرة ولكن ظلت
العلاقة بين الجمهور وهذا البيت علاقة سطحية أو لنتفق على أنها لم تتعدى حدود
"الشعبوية".
هل فهمنا فعلا "إرادة" الشابي وهل
أدركنا فلسفته في الحياة؟ وهل توقف الشابي عند الإرادة المطلقة للشعب؟ ألم يشترط
على هذا الشعب إرادة أخرى حتى يستمد منها المعنى الحقيقي لإرادته؟
لنتوقف إذن عند هذه العلاقة بين
الشابي والمتلقي من زمنه إلى زماننا. من زمن كان الشعب فيه تحت ربقة الاستعمار
الفرنسي إلى زماننا الذي تستعمرنا فيه مخاوفنا وحدود معرفتنا واطلاعنا والتأثر
المطلق بوسائل الإعلام إلى درجة تحوّل فعل التلقي إلى فعل تبعية بالأساس. لنتفكر
إذن الشابي ولنتغلغل في الأبعاد الحقيقية لإراداته في الحياة. هذا الشاعر
الرومنطيقي الذي دمج العاطفة مع العقل في لقاء موعود مع حياة منشودة ظل يدافع عنها
رغم وجع قلبه.
سبع وثمانون سنة تمر على رحيله ولم يفهموه بعد
وربما هذا ليس غريبا على شاعر قضى حياته ضجِرًا ومتذمرا من عدم فهم رسالته بل أن
من بين أصدقائه من سخر من شعره. وهو الذي كان يتطلع إلى فجر جديد للبلاد التّونسية
وقد غادرنا ذات فجر 9 أكتوبر 1934.
سنوات قليلة وتبلغ الذكرى سنتها المائة أي
القرن وإلى اليوم ما زال الشابي لم يتعدى منطقة العاطفة والانفعالية في ذهنية جزء
من الشارع التونسي وفي بعض القراءات السطحية لأعماله. الجميع يتكلم عن إرادة الشعب
ولكن هل نفهم حقا إرادة الشعب كما أرادها الشابي؟ هل نفهم هذا الشاعر الذي كتب عن
الموت فقال: "فأنا السعيد المتحول عن عالم الآثام والبغضاء"؟
لنتفق أن الشابي كتب أغاني الحياة متشائما
ومتذمرا من واقعه.
لقد كان متذمرا ومستاء جدا من
الاستعمار وجهل الشعب وسباته وقد ورد في مذكراته بتاريخ: الأربعاء 1 جانفي 1930:
"في سكون الليل ها أنا جالس وحدي في هاته الغرفة الصامتة إلى مكتبي الحزين،
أفكر بأيامي الماضية التي كفنتها الدموع والأحزان... وأستعرض رسوم الحياة الخالية
التي تناثرت من شريط ليالي وأيامي وذهبت بها صروف الوجود إلى أودية النسيان
البعيدة النائية." وكتب بتاريخ 7 جانفي 1930: "أشعر الآن إني غريب عن
هذا الوجود وأنني ما ازداد يوما في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة
وشعورا بمعاني هاته الغربة الأليمة. غربة من يطوف مجاهل الأرض ويجوب أقاصي المجهول
ثم يأتي يتحدث إلى قومه عن رحلاته البعيدة فلا يجد واحدا منهم يفهم من لغة نفسه
شيئا." ثم يقولها صراحة: "أشعر الآن إني غريب على أبناء بلدي."
أي إرادة دافع عنها الشابي غير إرادة الشعب؟
لقد ربط الشابي إرادة الحياة وإرادة الشعب
تحديدا بإرادة العمل وحب العمل. فلا يمكن الخروج من الأزمات التي تحاصر البشرية
إلا بالعمل. وكان يعتبر أن رسالته في الحياة: "أن يرتفع بالشعور ويسمو
بالطبائع ويأخذ الشعب إلى مثله الأعلى." ليدافع عن فكرة أن كل إنسان على هذه
الأرض إنما هو حمال إلى رسالة وفي أحد المرات أسر لأحد أصدقائه "أنه لا
يحزنني شيء في هذه الدنيا أكثر مما يحزنني التفكير في أن أموت قبل أن أؤدي رسالتي
التي أحس أني لم أخلق لغيرها في هذا العالم." والرسالة لا يمكن تحقيقها دون
العمل الذي يصل بالشعب إلى مثله الأعلى.
لنفهم فلسفته في الحياة...
حتى نفهم فلسفة الشابي في الحياة والإرادة
التي يدافع عنها فيلزمنا العودة إلى أعماله التي سبقت ديوان "أغاني الحياة".
كان الشابي في مذكراته يبوح بمواقفه من
السياسة التونسية في مجابهة الاستعمار وكان في خلوته يتألم لذلك فكتب بتاريخ
الاثنين 27 جانفي 1930:" لقد أصبحت يائسا من المشاريع التونسية ناقما على
التونسيين لأنني أراهم يقولون كثيرا ولا يعملون إلا قليلا وإنني أراهم نبغاء في
بسط آرائهم ونظرياتهم والتحمس لها يدفعك إلى أن تأمل الآمال الكبار وتعتقد أنك
تخاطب روحا متجسدة في فكرة تلتهب حتى اذا جاء دور العمل تمزقت تلك البراقع وخمدت
تلك النزوات وتكشف البرقع البراق عن وجه الحقيقة الأربد وانجاب طلاء الشباب ونضارة
الفتوة المستعارة عن تجعدات الشيخوخة وقبور الخمول إن التونسيين الأن ذوو نظريات
فسيحة واسعة ولكنهم يدورون في منطقة ضيقة من الأعمال، لا تكاد تنتج شيئا. حدث من
شئت من الشباب التونسي فلا تلقى إلا حماسا وعزما وأفكارا ومشاريع." ويستدرك
الشابي قائلا: "ولكن ثق أنك حين تدعوه للعمل فلا تجد إلا عزائم خابية وشبابا
هرما يغط في سبات الأحلام اللذيذة."
وكان أكثر ما ينغّص عليه حياته ما يراه من
سبات شديد لدى الشعب، فكتب النبي المجهول يقول فيها البيت الشهير: "يا شعبي
ليتني كنت حطابا فاهوي بفأسي ...." وفي قصيده "إلى الشعب" كان أبو
القاسم الشابي غاضبا كالبركان، كالإعصار ساخطا:" فاين يا شعب قلبك الخفاق
الحساس.. أين الطموح أين الأحلام...أين يا شعب روحك الشاعر الفنان أين الخيال والإلهام،
أين العزم.
بل حين لاحظ خمول وتقاعس صديقه محمد الحليوي
عن الكتابة، راسله بتاريخ 20 مارس 1930 قائلا:" وإذن فلتكتب ولتعمل ولتطرد
عنك خواطر الراحة والسكون فان شعبك في حاجة إليك وليس لك شيء من العذر في أن تسكن
ولا تعمل فإنني لأجدر منك بالعذر وأنا بين دروس قانونية متوافرة تكد الذهن وتقتل
الوجدان ومطالعات في القانون أكثر تغثية للنفس وإركادا للعاطفة وإخمادا للتفكير من
أي شيء في هذه الدنيا"
ونادى الشعب قائلا: "إن تونس لفي حاجة
إلى أن تتقدم بخطوات ثابتة إلى سبل النور والزهور. إن تونس لفي حاجة إلى أن ترفع
رأسها حاليا حتى تشاهد أنوار السماء وشموسها وحتى تقبل شفتاها أضواء النجوم، ولئن
كانت تونس فقيرة إلى هذا الضرب من أبنائها هذا الضرب الذي يحن إلى أن يعيش عيشة
كلها حق ولذة وجمال وكذلك إحساس وشعور وعواطف... إن كانت تونس فقيرة إلى هذا النوع
من أبنائها ليجب عن النفر القليل منهم أن يبذلوا كل ما في جندهم".
هل نحن نعمل بالطريقة التي تكلم عنها الشابي
حتى تكون لهذه الإرادة الشعبية قوة العاصفة التي لا تكسر. ماذا لو يسأل كل فرد من
موقعه ماذا قدم لبلده؟ هل أنت وأنا راضون على ما نقدمه لوطننا؟ انه من السهل جدا
صياغة خطاب واستعراض معارفنا الثقافية ودرايتنا الفكرية بما يحيط بنا ولكن لا قيمة
لذلك دون عمل ودون حركات عملية في اتجاه البناء والإصلاح. فماذا لو أعدتم قراءة
الشابي، إني أراه وهو يقول بين سطوره وفي حروفه: "اصمتوا واعملوا ...يكفي من الخطابات
التي تحمل مشاريعا وهمية"
أليس العمل بالأصل قيمة مقدسة؟
هل فهمنا الشابي؟ ثم كيف نظلم شاعرا كان لا
يزال يتطور بعد كتابته تلك القصيدة؟ هو صاحب النشيد الجبار الذي فيه "لا يعرف
الشكوى الذليلة".
لقد قال الشابي في قصيد الثعبان المقدس:
"فكر لتدرك ما أريد..." ففكر لتدرك فلسفة الإرادة عند الشابي ولا تتعكّز
عليها بمشاريع وهميه.