كتاب عربي 21

الصحافة مسؤولية

شريف أيمن
1300x600
1300x600
إذا كان الصحفي مطالبا ببيان الحقائق، فإنه مطالب كذلك بألا يفعل ما من شأنه أن يتسبب في ضرر "جسيم" للمعنيين بالواقعة محل التغطية، فالصحفي مسؤول أمام خالقه أولا، ثم أمام ضميره ومجتمعه، ولا تنفك المسؤولية عن الصحفي طوال ممارسته المهنة.

أبرز ما يُثار عن الإشكالات الصحفية الأخلاقية يتعلق بالجرائم؛ فإذا تواجد الصحفي في محل جريمة، هل يجب عليه أن يوثقها أم يمنعها؟ وهو إشكال لا يمكن حلّه بإجابة واحدة جامدة؛ فالجرائم متفاوتة، وآثارها كذلك، وردّ الفعل من المجرم أيضا؛ فجريمة القتل مثلا ليست كسرقة سلعة من متجر، ومن ناحية الأثر لا يمكن إعادة المقتول إلى الحياة، بينما يمكن تعويض المسروق، أما من حيث رد الفعل، فقد يمكن منع المجرم من جُرمه إذا كانت هناك قوة كافية لمنعه، وقد لا تتوفر هذه القوة فيصير توثيق الجريمة هو الحل الوحيد لمجازاة من أجرم، لأن التدخل قد يجعل الصحفي ضحية أيضا، فيضيع التوثيق وينجو المذنب.

للاقتراب من المقصود أكثر، يمكن القول بأن الصحفي في الحروب مثلا يرتكز عمله على التوثيق، فهو لا يقدر على الفصل بين قوات مسلحة وهو لا يملك سوى قلمه أو آلة التصوير، لكن ذلك لا يمنع أن تأتي لحظات يمكنه من خلالها أن يمنع إزهاق روح "خاصة بين المدنيين"، إذا كان يمكنه أن يحذّر مارّا لا يدري أن هناك قناصا يقتل كل من يتحرك، فهنا يصير واجب الحفاظ على الحياة أوثق من واجب توثيق جرائم القناص الذي لا يفرق بين المدني والعسكري.

أيضا، هناك إشكال أكثر تعقيدا يتعلق بالمقابلات الصحفية، فالمتعارف عليه بأن الصحفي مسؤول عن الحفاظ على مصدره إذا طلب إبقاء هويته سرية، لكن هل يجب على الصحفي أن يستفز ضيفه ليجعله يخرج عن نطاق الحذر في ألفاظه، ويترتب على ذلك ضرر للضيف إذا كان في بلد قمعي؟ هذا هو الإشكال الأساسي الذي يطرحه المقال. صحيح أن كاتب المقال ليس صحفيا مخضرما ولا من شيوخ المهنة، لكن هذا لا يمنع التباحث مع أهل الاختصاص في المهنة، وأعتقد أن جواب السؤال، أن الصحفي مسؤول عن أمان مصدره إذا أظهر هويته، كما هو مسؤول عنها إذا أخفاها.

إن الضيف أو المصدر يكون أمام أحد ثلاثة أمور إذا ووجه بسؤال يضر بحريته؛ فإما أن يجيب بصراحة تعرضه للحبس أو القتل، بحسب درجة القمع في بلده، وإما أن يتهرب من الإجابة فيبدو خائفا، وهو ما يساعد في نشر ثقافة الخوف من السلطة القمعية، فالرموز السياسية عندما تتردد في النقد تصل الرسالة السلبية إلى المجتمع بأنه لا أحد يمكنه النقد، وأخيرا، قد يضطر المجيب عن السؤال إلى نفاق السلطة القمعية ليأمن جانبها، فيقع في حرج أخلاقي لم يكن ليتعرض له لولا الضغط عليه، بالإضافة لما يشيعه ذلك من ثقافة الخوف أيضا.

هذا الإشكال معقّد، وقد لا يصادف هوى لدى كثير من الصحفيين، وربما أغلبهم، لكن من عاش في بيئة قمعية، وكان عُرضة للقمع سيدرك مغزى ذلك، وللأسف نجد من عاش في نفس البيئة يغذي ثقافة "وَضْع الضيف في الزاوية"، ولا يجد أمامه حلا سوى السقوط في النفاق أو في غياهب السجون، ويصير الصحفي مسؤولا عن سجنه بدرجة لا تقل عن مسؤولية السجّان المستبد، ولا يتخفف الصحفي من هذه المسؤولية بحجة أنه كان يقوم بعمله، وأنه كان يَسْتَنْطِق من أمامه، وهو الذي أبْدَا رأيه بحريته، فالمتكلِّم تحدث بدافع الخوف من الوصم الاجتماعي، أو بدافع المسؤولية التي ترتبت على سؤاله، وما كان له أن يقول رأيه الناقِد لو لم يُستَنْطَق، فأصبح الصحفي بذلك شريكا في السجن، قصد أو لم يقصد.

هذا المثال ليس مخصوصا بالصحفيين التابعين للأجهزة الأمنية في الدول القمعية، الذين يقومون باستضافة مصادر لتوريطهم ويترتب على هذا التوريط اعتقالهم، مثلما حدث مع أحد الدعاة في بلد عربي قمعي، تمت استضافته، واعتُقل بعد الحلقة مباشرة، بل هو مرتبط أيضا بالصحفيين في القنوات الحرة أو الحرة نسبيا، الذين يقومون بتغطية الأحداث في البلدان القمعية.

أيضا، هناك إشكال آخر يتعلق بالحفاظ على النسيج الاجتماعي في التغطية الخبرية، فمثلا إذا وقعت حادثة عنف في بلد لديه توترات طائفية مثل لبنان أو مصر، فواجب الصحفي ألا يتعمد الإثارة، ويكتفي بنقل الأحداث كما جرت دون إثارة في العناوين الأساسية أو الفرعية، أو في النص، والصحفي الخبيث يدرك كيف يصوغ مادة يقوم فيها بإبراز ما يثير التنازع في صورة سرد للوقائع، وهذا السلوك لا ينبغي أن يكون مقبولا في أخلاقيات المهنة، فالمسؤولية المجتمعية تسبق مسؤولية المهنة، وهذا لا يعني غض الطرف عن الحوادث الطائفية، بل يعني نقلها دون تثوير للأطراف المتخاصمة.

ويمتد هذا المعنى للصحفيين غير الموجّهين من أنظمة بلدانهم، فمثلا ذاع في مصر حديث قديم لأحد القساوسة البغضاء عن مقام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وانتشار حديث قديم بهذا الشكل مرهون بتوجيه من طرف ما، وتلقّفته الصحافة الموجهة، وانساقت وراءه مواقع مستقلة عن النظام السياسي المصري، أو معارضة له، فتجددت التوترات والمَسَبَّات بين المسلمين والمسيحيين على مواقع التواصل الاجتماعي، فأين المصلحة في الانجرار وراء حديث "قديم"؟ مناقشة هذه التصريحات تكون مقبولة إذا اقترنت بالواقع، أما استدعاؤها فلا يخرج عن كونه نوع من أنواع استمرار تمزيق النسيج المجتمعي، من نظام قمعي لا يبغي سوى الحفاظ على مقعده الوثير فوق وطن خَرِب وممزق.

إن الإشكالات الأخلاقية في العمل الصحفي كبيرة ومتشعّبة، لا يمكن حصرها في مقال واحد، لكن الأوضاع الصحفية العربية أثارت هذه النقاط مؤخرا، رغم ما تتعرض له من ضغوط من أنظمة لا همّ لها سوى إخفاء المعلومات وتزييف الحقائق، وإيلاء الإثارة الصحفية على النقل الدقيق والرزين للمعلومات، يُضيِّع الحقائق كما يهدف المستبدون، ونرجو أن تتخلص الصحافة من تلك الثقافة البغيضة، التي تقع فيها مؤسسات كبرى ولها سمعتها.
0
التعليقات (0)