قضايا وآراء

الإنسان في القرآن.. التوحيد والشرك (3)

أحمد أبو رتيمة
الإنسان في القرآن
الإنسان في القرآن
التوحيد ونقيضه الشرك من أكثر القضايا مركزيةً في القرآن، وكل رسالات الرسل تدعو الناس إلى توحيد الله تعالى وألا يشركوا به شيئاً.

وما دام القرآن يقصد تزكية الإنسان، فلا بدَّ أن يكون هناك معنى نفسيٌّ في التوحيد والشرك؛ ذو علاقة وثيقة بعالَم الإنسان الداخلي.

ماذا يعني أن يؤمن الإنسان بإله واحدٍ أو بآلهةٍ متعدِّدة؟

التوحيد هو حالة الانسجام النفسي الكامل، فهو يعني أن يتخلص القلب من كل العلائق غير الله، فيؤمن بأن هناك إلهاً واحداً يملك الضر والنفع والموت والحياة والرزق، وأنَّ كل ما دون هذا الإله من هوى ومالٍ وسلطةٍ وحزبٍ وعشيرةٍ وقوةٍ فإنهم زائلون ونصرتهم غير مضمونة:

- "وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير".

- "فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ".

وصول القلب إلى هذه الحالة يورثه السلام والطمأنينة، لأن توحيد الوجهة والغاية يريح النفس ويحررها من صراعاتها، وهذه هي الحالة الإبراهيمية حين كفر بكل الآلهة وتخلص من التعلق بالوطن والزوجة والولد وأسلم قلبه لله وحده: "إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ".

السلامة والسلام والإسلام كلها مشتقة من أصلٍ واحدٍ، وتعني تحرر القلب من كل العلاقات وتوحُّده في اتجاه الغاية الكبرى: "بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".

فالإسلام من حيث اللفظ والمعنى ليس قالباً أيديولوجياً، بل هو حالة قلبية إذا بلغها أي إنسان حقَّق حالة السلام فلا يخاف ولا يحزن ولا تشتته الصراعات، وهذا هو معنى الشرك الذي يناقض التوحيد.

ضرب الله مثلاً بليغاً لتبيان حقيقة الشرك: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ".

الشركاء المتشاكسون هم مثال تصارع الغايات داخل نفس الإنسان، هذه الحالة الصراعية الشقاقية تمزق كل من لم يستقر في قلبه توحيد الله، لأن قلبه لن يخلص لغاية واحدة من دون الله، بل ستتنازعه الحسابات والهموم ما بين إرضاء الهوى والشهوة والمال والعشيرة والسادة والكبراء والسمعة، فهو يتمزق داخلياً لأن قلبه قد تفرق وغاياته قد توزَّعت فسيعيش حياته محروماً من السلام والسكينة. وفي هذه الآية نلاحظ مرةً أخرى استعمال لفظة "سلماً" القريبة من السلامة والسلام والإسلام.

التوحيد يورِّث الأمن

البحث عن الأمن غاية وجودية في حياة الإنسان، والخوف كان دافع الضلال والزيغ والشرك بالله وإذلال الإنسان نفسَه للآخرين ممن يبتغي عندهم العزة والنصرة.

في المعالجة القرآنية فإن الأمن مرتبط بالعالم الداخلي للإنسان وليس بالظروف الخارجية المحيطة، فالخوف يتولَّد من انقطاع اتصال الإنسان بمصدر القوة والملجأ الكلي في هذا الوجود، أكثر مما يرتبط بحدث محدد، وقد بيَّن القرآن هذه المعادلة:

"وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ".

العلاقة هي أن الذي يؤمن في قلبه إيماناً صادقاً بأن هناك إلهاً حافظاً رحيماً مدبراً لأموره، فإن ذلك سيسكب شعور الأمن في قلبه.

أما مثل المشرك: "وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ".

إنه في حالة دائمة من الخوف الوجودي من المجهول، يخاف لأنه لا يعرف أين هو وماذا يراد به في هذه الحياة وأين المصير.

هذا الأمن الوجودي والخوف الوجودي هو أعمق في نفس الإنسان من نوبات الخوف أو الأمن الطارئة، وكم من مؤمن مطمئن قلبه بالإيمان كان يشعر براحة عميقة بينما القذائف تنهمر فوق رأسه، وكم من ظالمٍ يأوي في قرىً محصنةٍ وهو يفترق رعباً لأنه غير واثق من عدالته الداخلية ومنقطع الاتصال بمصدر الأمن الكليِّ في هذا الوجود.

الطمأنينة والريبة

يفرِّق القرآن بين فريقين من الناس، وهما الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، والفريق الآخر الذين لا يؤمنون فهم في شكٍّ مريب:

- "وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ".

- "وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ".

- "مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ".

- "وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ".

- "بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ".

هذا الشك المريب الذي يدينه القرآن ليس هو الشك العلمي الذي يهدف إلى تقصي الأدلة والتثبت من الدعوى، فهذا شك محمود، بل مطلوب، ولولا التحقق لاستطاع أي أحد ادعاء أي شيء.

لكن الشكَّ المريب هو حالة مرض نفسي تنمو في داخل الإنسان بسبب اختلاط قلبه بالشهوات والأهواء وعدم تجرده للحق، فيعاقبه الله بأن يحرمه الطمأنينة فلا يرى الحقائق البيِّنة لأن مرآة بصيرته قد تكدَّرت.

ومن الملاحظ في الآيات السابقة ارتباط مرض "الريب" بالسلوك، فالمريب هو ذاته مناع الخير والمعتدي، لأن السلوك يؤثر على عالم التصورات الداخلية والاتجاهات النفسية.

العلاقة بين الفكر والسلوك علاقة في اتجاهين، وكما أن الفكرة تنتج سلوكاً، فإن السلوك ينتج فكرةً، فإذا اعتقد الإنسان أن جلب المال سيسعده فسينتج عن هذه الفكرة أنه سيسعى فعلاً إلى جلب المال.

أما الاتجاه الآخر فإن الإنسان إذا أدمن سلوكاً خاطئاً فإنه سيسعى إلى تبرير وتأصيل هذا السلوك نفسياً عبر مخادعة نفسه، فيعتنق تصوراً داخلياً يبرر فيه هذا السلوك، أي أنه قام بالفعل أولاً ثم بحث عن حجة فكرية لتبرير ذلك الفعل.

فإذا كان مسار الإنسان في الحياة هو العدوان ومنع الخير فإن فكرة اليوم الآخر ستمثل قيداً ثقيلاً على التمادي في هذه الممارسة، فيبدأ المعتدي مناع الخير بالإيحاء إلى نفسه بأفكار تتوافق مع سلوكه، فيشكِّك باليوم الآخر والحساب، حتى يصل فعلاً إلى حالة الشك والعجز عن الإيمان مهما تواردت الأدلة وتبيَّنت الآيات له.

قصة صاحب الجنتين

تُعدُّ قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف مثالاً بيِّناً في القرآن الكريم لتبيان العلاقة بين الإيمان والسلوك: "وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً".

يلاحظ في هذا المشهد أن نقطة البداية في كفر الرجل كانت سلوكاً، فهو معجب بجنته ويتمنى خلود هذا النعيم في الدنيا، ولما كان الحساب قيداً ثقيلاً على التمادي في أمنيته وضبط سلوكه في الحياة بالتواضع والإنفاق، فإنه أراد التخلص من هذا القيد، فأوحى إلى نفسه فكرةً قائمةً على الظنِّ وليس على العلم، بأنه لا يعتقد أن الساعة قائمة.

هذه القصة تبدِّد وهم موضوعية الإنسان وعقلانيته، فالإنسان يتبع هواه ويفكر رغائبيًّا وفق ما يتمنى وليس وفق ما يقتضيه الحق وأدلته.

لذلك فإن الفرق الجوهري الذي يصنعه الدين أنه ينتج "إنسان الحق" في مقابل "إنسان الهوى والرغبة".

الإنسان الشاهد بالحق هو الذي يبني موقفه في الحياة وفق ما تتبين له الأدلة والبراهين، ولا ينسج قناعاته وفق أهوائه وميول نفسه، أي أن المؤمن الحق الذي يصوغه القرآن هو الإنسان العلمي، بالمعنى الدقيق والواسع للعلميَّة ومقتضياتها.

يتبع..

twitter.com/aburtema
التعليقات (0)