مقالات مختارة

من أجل أن تبقى المنظمة ممثلا شرعيا وحيدا

عماد شقور
1300x600
1300x600

احتلت منظمة التحرير الفلسطينية موقعها: «ممثلاً شرعيا وحيداً للشعب العربي الفلسطيني» منذ النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، في القمّتين العربيّتين في الجزائر وفي الرّباط، ثم في منظمة الوحدة الإفريقية، وبعدها في منظمة عدم الإنحياز، وانتهى ذلك إلى اعتراف الأمم المتحدة، ثم الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ذاتها أخيراً، سنة 1993.


على أن ذلك لم يأتِ من فراغ، ولم يكن منّة من أحد. جاء ذلك الإعتراف الشامل بالمنظمة، بعد أن ترسّخ دورها هذا لدى الغالبية العظمى، الأشبه ما تكون بالإجماع عند الطّرف المعنيّ مباشرة، وهو الشعب الفلسطيني، بجماهيره: في مخيّمات اللّجوء والمنافي، وفي الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وفي المناطق المحتلة سنة 1948. تم ذلك عندما نجحت الثورة الفلسطينية، وعمودها الفقري حركة فتح، في التصدّي للسياسة الإسرائيلية، وإحباطها.


كان جوهر السياسة الإسرائيلية يقوم على خمسة أُسُس:
1ـ انكار وجود الشعب الفلسطيني كشعب له الحق في تقرير المصير، وفي الاستقلال وإقامة دولته المستقلة الخاصة به.


2ـ إن مشكلة بضع مئات الآلاف من اللاجئين الذين «هاجروا من أرض إسرائيل» بتحريض قادة الدول العربية المجاورة، هي مشكلة هذه الدول العربية، ولا تمانع إسرائيل أن تتولى الأمم المتحدة تشكيل «هيئة إغاثة» لهؤلاء اللاجئين، لبضع سنين، حيث «يموت الآباء وينسى الأولاد» حسب قول غولدا مئير.


3ـ إلحاق الضفّة الغربية، (بمدنها وقراها ومن لجأ إليها) بـ«إمارة شرق الأردن» بأي صيغة يتوافقون عليها، حيث لا علاقة لإسرائيل بهذا الموضوع.


4 ـ إلحاق قطاع غزّة، (ومن لجأوا اليه، وهم أكثر من عدد سكانه الأصليين) بالمملكة المصرية، بأي صيغة يتوافقون عليها، حيث لا علاقة لإسرائيل بهذا الموضوع ايضاً.


5ـ إخضاع مَن بقي مِن العرب الفلسطينيين داخل «خطوط الهدنة» التي تم وضعها ورسم خرائطها في اتفاقيات منفصلة مع «دول الطوق»: مصر والأردن وسوريا ولبنان، (وعددهم نحو 150 ألف نسمة) لنظام «الحكم العسكري» بهدف التضييق عليهم، ودفعهم وتشجيعهم لمغادرة مدنهم وقراهم، وتحويل من يبقى منهم الى «حطّابين وسُقاة ماء» على حد تعبير دافيد بن غوريون.


تم ذلك بفعل تضحيات آلاف مؤلّفة من الشهداء والجرحى والأسرى والمناضلين الفلسطينيين والعرب، وبفعل حنكة قيادة المنظمة السياسية، في توحيد كافة القوى والطاقات الفلسطينية المتوفّرة، والطاقات العربية الممكنة، والتحالفات المتينة على الصعيد الدولي.


ليس أمراً مفروغاً منه أن تكون منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً. لم يكن الأمر كذلك من قبل، وليس هو كذلك اليوم، ولا في مقبل الأيام ايضا. وبقاء المنظمة «ممثلاً شرعياً وحيداً» مشروط بمواصلة النضال، واعتماد سياسة حكيمة: تجمع ولا تفرّق، تستوعب ولا تُبعد، تحشد الطاقات الفلسطينية ولا تبدّدها. وأي تصرف يخالف ذلك، او اعتماد سياسة تتناقض مع هذه المبادئ، من جانب أي فلسطيني، هو تدمير للعمل الوطني الفلسطيني، وهو خطيئة وطنية، تستوجب المحاسبة والإدانة والعقاب.


هكذا فرضت منظمة التحرير «قضية فلسطين» كقضية تحرر واستقلال، وحق لشعب حي في تقرير المصير، وليست مجرد «قضية إنسانية للاجئين» وبعض قضايا مالية واقتصادية.
على أنه لا يجوز لهذا الحرص الشديد، والإعتزاز الكبير، بمنظمة التحرير الفلسطينية، أن ينسينا، ولو للحظة واحدة، حقيقتين جوهريتين:


ـ أولاهما: حقيقة أن المنظمة «أداة» لا أكثر، وليست هدفاً بحد ذاته، وأن «الهدف» هو التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، واسترداد كامل حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية المشروعة.

 

ـ وثانيتهما: حقيقة أن المنظمة تمكّنت، بفعل العمل النضالي الوطني، (وقاعدته الصلبة في تلك المرحلة، هي العمل الفدائي، واعتماد الكفاح المسلّح) من التصدي لجوهر السياسة الصهيونية/الإسرائيلية، وتم ذلك بتدرج، بخطوات متصاعدة، مستمرة ومتواصلة.


بدأت أولى لبنات جعل المنظمة ممثّلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني مع انطلاق الشرارة الأولى لـ«معركة الكرامة» يوم 21 آذار/مارس 1968، حيث صمد فدائيو حركة فتح، وقوات الثورة الفلسطينية، وتصدّوا بشجاعة فائقة، للهجوم الإسرائيلي، مدعومين من المدفعية الأردنية بقيادة قائدها، الوطني الأردني، والقومي العربي، الراحل مشهور حديثة الجازي، وكان ذلك أوّل هزيمة لجيش الاحتلال الإسرائيلي «الذي لا يقهر» بعد تسعة أشهُر فقط من معارك حزيران/يونيو 1967. كانت تلك الشرارة بمثابة «الصاعق» الذي فجر الطاقات الفلسطينية في مخيمات اللجوء وفي التجمّعات الفلسطينية، خاصة في دول الخليج العربي، وفي اتحادات الطلاب الفلسطينيين في الجامعات الأوروبية خاصة. وكان الزعيم العربي جمال عبد الناصر أوّل من التقط معنى وابعاد معركة الكرامة، فأطلق جملته الشهيرة، أن «الثورة الفلسطينية وُجدتْ لتبقى» واستقبل «الناطق الرسمي باسم حركة فتح» الأخ أبو عمّار، وثلاثة أعضاء من اللجنة المركزية لحركة فتح: صلاح خلف (أبو إياد) خالد الحسن (أبو السعيد) وفاروق القدومي (أبو اللطف) و«مُعتمد الإقليم» هايل عبد الحميد (أبو الهول) وأمر بتقدير الدّعم العسكري المطلوب لحركة فتح، ولبّى طلب إطلاق إذاعة «صوت العاصفة» من القاهرة، وأصبحت مصر، القاعدة الحقيقية لـ«الهرَم العربي» قاعدة آمنة لفتح والثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير، وزاد على ذلك بأن فتَح الباب للعمل الفلسطيني السياسي والدبلوماسي على الصعيد الدولي، ابتداءً من اصطحاب الأخ أبو عمار في أول زيارة رسمية له إلى موسكو، وقدّمه إلى قيادات الاتحاد السوفياتي. وكان ذلك مترافقاً مع انضمام آلاف من الشباب والكفاءات الفلسطينية والعربية إلى حركة فتح، (بهدف العطاء والتضحية) وأصبحت المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين في دول اللجوء والمنافي.


لحق بذلك اعتماد المنظمة ممثلاً شرعياً وحيداً لجماهير شعبنا في الضفة والقطاع، عندما ارتكبت إسرائيل حماقة السماح بإجراء انتخابات محلية للبلديات مدن الضفة والقطاع، على أمل أن تشكل نتائج هذه الانتخابات جسما قياديا ينافس منظمة التحرير ولا يلتزم بقراراتها، ولا يدعم سياستها.. وكانت المفاجأة أن الغالبية الساحقة من المنتخَبين أعلنوا ولاءهم للمنظمة وقيادتها، والتزامهم بقراراتها.


أما في مناطق الإحتلال الأولى 1948، ورغم نجاح إسرائيل في التصدي لأول محاولة تشكيل إطار قيادي وطني لتلك الجماهير، وهو «الجبهة الشعبية» التي بادر جبّور جبّور، (رئيس بلدية شفاعمرو) وينّي ينّي، (رئيس المجلس المحلي لقرية كفر ياسيف) وغيرهما، ونجاح إسرائيل في التّصدي للمحاولة الثانية، (وهي إقامة «حركة الأرض» في نهاية الخمسينيات، بمبادرة من منصور كردوش وصالح برانسي وحنا مسمار وحبيب قهوجي وصبري جريس ومحمد ميعاري وفخري جدَي وغيرهم) إلا أن إسرائيل فشلت في تصديها للمحاولة الثالثة، عندما تكاتفت القوى الوطنية والقومية واليسارية في «يوم الأرض» 30 آذار/مارس 1976، وقاد نجاح هذه الخطوة الى تشكيل «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» فاكتمل العقد تماماً وأصبحت المنظمة عملياً ورسمياً هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.


عندما شكّلت حركة فتح العمود الفقري للثورة الفلسطينية ولمنظمة التحرير الفلسطينية، تصرّفت قيادتها الشرعية، ممثَّلة بالزعيم الفلسطيني الخالد، ياسر عرفات، ومن معه في قيادة فتح ولجنتها المركزية من القادة الكبار، على أنها كذلك، وعلى أنها العمود الفقري فقط، لا أكثر، وأن لكل عضو في الجسم الفلسطيني دوره الذي لا غنى عنه، وأن مجموع تلك الأعضاء، (من فصائل ومنظمات وأحزاب وكفاءات مميَّزة ومستقلين) ممثَّلة في «الرأس» بشكل عادل وملائم، وتمتثل لتوجيهاته، سواء كانت تلك التوجيهات مقررة بالإجماع، ( وهو نادر الحدوث) أو بالأغلبية أو التوافق، وحق التّحفّظ، كما حصل فعلاً في مسألتي توجّه الأخ أبو عمار لإلقاء خطابه باسم الشعب الفلسطيني في الأمم المتحدة سنة 1974، وفي مسألة المشاركة في «مؤتمر جنيف» (سنة 1974 ايضاً) في حال وُجِّهَت دعوة للمنظمة للمشاركة فيه.


أين نحن الآن من كل هذا؟
هل من المُجدي، وطنياً، أن نتخلّى عمّا هو قائم، ونقفز نحو المجهول، في عتمة هذا الليل الفلسطيني والعربي؟


هذا الليل لن يطول. وفي الأُفق بصيص أمل ونور من الجزائر، بل ومن قاعدة الهرم العربي: مصر، ومن جانب الشقيق التوأم: الأردن، إضافة الى بداية علامات تعافٍ في سوريا والعراق.

 

(عن صحيفة القدس العربي)

0
التعليقات (0)