بورتريه

الأفغاني.. حياة مثيرة للجدل وموت غامض

عربي21
عربي21
حياة شاقة مليئة بالمتاعب والدسائس حفلت بالجدل والإثارة، والتنقل بين المدن العربية والإسلامية والأوروبية بحثا عن الهوية والحداثة الإسلامية.

يعد من أبرز دعاة الثورة ضد الاستعمار ومواجهة التخلف في العالمين العربي والإسلامي.

وكان من رواد الإصلاح الذين وقفوا حياتهم ووقتهم على الدعوة إلى توحيد العالم الإسلامي، وتحريره من الاستعمار والاستغلال، رغم الصعاب الكثيرة التي رافقت مسيرته منذ والدته وحتى وفاته المثيرة للجدل أيضا.

ولد جمال الدين الأفغاني عام 1838، في بلدة أسد آباد غربي العاصمة الأفغانية كابول. تعلم اللغتين العربية والفارسية، ودرس القرآن والعلوم الإسلامية والعلوم، ثم سافر إلى الهند لدراسة بعض العلوم العصرية، وقصد الحجاز لأداء فريضة الحج ثم رجع إلى أفغانستان حيث تقلد إحدى الوظائف الحكومية في عصر الملك محمد أعظم خان، ولكن وقعت حرب أهلية انتهت باحتلال الأمير شير علي خان والمدعوم من البريطانيين لكابول عام 1868.

وعقب ذلك رحل الأفغاني إلى الهند حيث فرض الإنجليز حصارا حول بيته لمنع لقائه بالعلماء والأتباع المسلمين، وبعد شهر تم ترحيله عن طريق البحر إلى مصر.

ومن مصر اتجه إلى إسطنبول فأحسن سلطانها عبد العزيز محمود استقباله وذاعت شهرته وارتفعت منزلته، ولقيت دعوته بضرورة التعجيل بالإصلاح صدى طيبا لدى العثمانيين.

وعين جمال الدين عضوا في مجلس المعارف الأعلى في الأستانة، وهناك لقي معارضة وهجوما من بعض علماء الأستانة وخطباء المساجد الذين لم يرقهم كثير من آرائه وأقواله، وشكك البعض في عقيدته، فعاد الأفغاني لمصر عام 1871 ولقي ترحيبا ومنحته الحكومة منزلا بخان الخليلي وراتبا شهريا.

وكان لجرأته وصراحته أكبر الأثر في التفاف الناس حوله، فأصبح له مريدون كثيرون، فحسده الشيوخ لحظوته عند الناس. وخاض الأفغاني غمار السياسة المصرية، ودعا المصريين إلى ضرورة تنظيم أمور الحكم، وكان يعلن عن بغضه للإنجليز، ولا يخفي عداءه لهم في أية مناسبة.

,في مصر انضم الأفغاني للحركة الماسونية التي رفعت شعار "حرية إخاء مساواة"، ولكنه عندما اكتشف علاقة قيادات المحفل بالاستعمار، قاد التمرد ضد المحفل الغربي، وأسس محفلا ماسونيا شرقيا ارتبط بعلاقات مع المحفل الفرنسي، نظرا لمعارضة الفرنسيين لنفوذ الإنجليز في مصر.

وانتخب رئيسا لمحفل "كوكب الشرق" عام 1878، ولكنه حينما اكتشف جبن هذا المحفل عن التصدي للاستعمار والاستبداد، ومسايرته لمخطط الإنجليز في مصر استقال منه، وقد سجل الأفغاني تجربته تلك في كلمته التي أدان فيها الماسونية، كاشفا أن المحفل يتستر تحت "شعارات براقة وأهداف عريضة"، وكان أدنى إلى تحقيق أهداف المستعمر و"ترسيخ أطماعه بعيدا عن تأكيد مبادئ الحق والحرية والمساواة التي يرفعها مجرد شعار".

وقاد الأفغاني أول أحزاب الشرق الوطنية "الحزب الوطني الحر" السري الذي رفع شعار مصر للمصريين وطالب بالديمقراطية السياسية والتحرر من ديكتاتورية الحكم الفردي كما دعا للثورة ضد النفوذ الأجنبي.

وكانت مقالاته مثار غضب شديد من الإنجليز ومن الحكام في مصر على حد سواء. وعندما تولي الخديوي توفيق الحكم في مصر، وتحسبا لتأثير الأفغاني على الوضع السياسي، قرر الخديوي الجديد نفيه عام 1879 إلى الهند.

وعندما بدأت الثورة العرابية في مصر عام 1882 نقل الأفغاني من بومباي إلى كلكتا حيث حددت السلطات البريطانية إقامته حتى انتهت الأحداث باحتلال الجيش البريطاني لمصر، وعندها سمحت له السلطات بالسفر إلى حيث يشاء فتوجه إلى فرنسا.

وفي باريس، نظم الأفغاني علاقة "جمعية العروة الوثقى" بالمنظمات الثورية في فرنسا واتصل بالشيخ محمد عبده.

وكانت "جمعية العروة الوثقى" السرية قد تكونت في بلدان الشرق كي تحارب الاستعمار، وتدعو للتضامن الإسلامي والجامعة الإسلامية.

وكان الأفغاني رئيسا لهذه الجمعية فأصدر مع الشيخ محمد عبده مجلة عربية في باريس تدعو لأهدافها، فصدرت مجلة "العروة الوثقى"، وكان الأفغاني مدير سياسة المجلة فيما كان محمد عبده محررها الأول.

لكنها ما لبثت أن توقفت عن الصدور بعد أن أوصدت أمامها أبواب كل من مصر والسودان والهند. ولكن الأفغاني لم يتوقف عن الكتابة في السياسة، فكانت صحف باريس منبرا لمقالاته السياسية النقدية.

وحين ذاع صيت الأفغاني أرجاء العالم الإسلامي دعاه شاه إيران ناصر الدين إلى طهران واحتفى به وقربه، وهناك نال تقدير الإيرانيين ومالوا إلى تعاليمه وأفكاره، ولكن الشاه أحس بخطر أفكار الأفغاني عليه، فتغيرت معاملته له، وشعر الأفغاني بذلك، فاستأذنه في السفر، وذهب إلى موسكو ثم بطرسبرج.

وحينما زار الأفغاني باريس عام 1889 التقى بالشاه ناصر الدين، وأظهر له الشاه من الود والتقدير ما دعاه إلى العودة مرة أخرى إلى طهران، ولكن ما لبث الشاه أن تغير عليه ثانية، خاصة بعدما راح يصرح برأيه في إصلاح الحكومة، ويجاهر بنقده للأوضاع السياسية في الدولة، ولم يطق الشاه كل ذلك، فأرسل إليه قوة عسكرية، فساقوه إلى حدود تركيا.

اتجه الأفغاني إلى البصرة، ومنها إلى لندن حيث اتخذ من صحيفة "ضياء الخافقين" منبرا للهجوم على الشاه، وكشف ما آلت إليه أحوال إيران في عهده.

ومرة أخرى عاد الأٌفغاني إلى إسطنبول عام 1892 بدعوة من السلطان العثماني عبد الحميد معتقدا أنه بمعونة السلطان يستطيع أن يضع خطة لجامعة إسلامية.

لكن سرعان ما انقلب عليه السلطان بعد ربط اسمه بعملية اغتيال الشاه ناصر الدين حيث قتله أحد تلاميذ الأفغاني، فقضى الأفغاني عامه الأخير شبه سجين في البلاط السلطاني. ويتردد أن طبيب الأسنان الذي كان يعالجه دس له السم فتوفي عام 1897 ودفن في إسطنبول.
وشكك بعض المؤرخين في أسباب وفاته، وأشار آخرون إلى أنه اغتيل بالسم، ويؤكد مؤرخون أنه مات مريضا. ويتهم البعض الحكومة الإيرانية بقتله، ويذكر أن الحكومة الإيرانية أوفدت ناصر الملك لقتله بعدما رفضت الدولة العثمانية تسليمه لها.

ويرى بعض الباحثين أن جمال الدين الأفغاني كان إيرانيا من أسد آباد بالقرب من همدان، وأنه كان شيعيا جعفري المذهب، مستندين في ذلك إلى كونه يحمل لقب سيد، أي أنه يمتد بأصوله إلى الأمام على أبن أبي طالب، وذلك بالرغم من اشتهار أمر الأفغاني بانتسابه إلى بلاد الأفغان وأنه سني المذهب، وحرصه على أن يلقب نفسه بالأفغاني، وانخراطه في علماء أهل السنة في جميع البلدان الإسلامية التي زارها أو أقام فيها.

وانبرى لهذه الأقاويل عدد من المفكرين الإسلاميين من بينهم محمد عمارة الذي رأى أن الرجل "لن يعيبه" أن يكون إيرانيا أو أفغانيا، ولن "ينقص من قدره" أن يكون شيعيا أو سنيا لأنه "مسلم تشرف به كل أقاليم الإسلام وجميع مذاهبه"، بحسب عمارة.

كانت حياة جمال الدين الأفغاني حافلة بالجدل والصدقات والعداوات المتقلبة، وكان أشبه برحالة يتنقل بين البلدان والمدن وفقا لمزاج حكام تلك المناطق الذين حاول غالبيتهم استمالته والاستفادة من وجوده، لكنهم لم يستطيعوا السيطرة عليه وعلى أفكاره، فدفع حياته، ربما، ثمنا لمحاولاته الإصلاح الديني والسياسي والتحريض على الثورة على الاستعمار.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم