قضايا وآراء

حين تغدو سلطة رام الله مذعورة إلى هذا الحد.. على الشعب أن يثب وثبته!

خلدون محمد
1300x600
1300x600

بعد الكفّ الحامي الذي تلقته سلطة التنسيق الأمني وحركتها الحاكمة (فتح) في انتخابات مجلس طلبة جامعة بيرزيت في أيار الماضي، دبَّ في أوصالها الذعر والرعب وغدت تتصرف بالغريزة العصبوية الهوجاء، فقد باح عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومدير جهاز المخابرات الفلسطينية السابق (توفيق الطيراوي)، بمخاوفه وهواجسه التي وصلت حد الرعب عندما قال في أحد البرامج الحوارية على تلفزيون فلسطين الرسمي، بأن خطة حماس لتقويض سلطته تقوم – هذه المرة – على أساس ما أسماه "الانقلاب الناعم"، بأن تفوز في اتحادات الطلبة ثم في النقابات والبلديات والقطاعات الأهلية، وبعد أن تسيطر انتخابيًّا على ناصية هذه الهيئات والمؤسسات تقود – بحسبه – عمليات إضراب واسعة لتشويش الحياة العامة ومن ثم تقويض السلطة بعد عزلها ومحاصرتها – ربما على غرار ما كانت فعلته حركة فتح نفسها بعد خسارتها انتخابات 2006 للتشويش على الفائزين وشلّهم والبرهنة على عدم كفاءتهم واستحقاقهم لذلك الفوز.


منذ فوز الإسلاميين الساحق في انتخابات مجلس طلبة جامعة بيرزيت وسلطة فتح في حالة من فقدان التوازن والتصرف الأرعن والأهوج الذي كان يتمثل سابقًا في أفعال صبيانية، من نوع الاعتداء على حرم الجامعة نفسه بتكسير زجاج واجهات البنايات، وحرق سيارات بعض مسؤولي الجامعة. فقد حدثت مثل تلك الأفعال في التسعينات عندما كانت فتح تخسر في المرات الأولى، خاصة في جامعة بيرزيت. كما رأينا أفعالًا رعناء تعكس درجة من الحنق والحرد والتبرم بعد انتخابات 2006، عندما تفشت مظاهر من البلطجة والزعرنة على نطاق واسع، مثّلت بتراكماتها وتكرارها السبب الأساسي في إحداث الانقسام عام 2007.


شهدت حركة فتح بعد صدور نتائج انتخابات مجلس طلبة بيرزيت في ردّ فعلها الأوّلي نوعا من النقد الذاتي؛ حيث قام عدد من مسؤولي أقاليم فتح في الضفة الغربية بتقديم استقالاتهم، وقد ورد على لسان بعضهم أن بعض أبناء قيادات فتح أدلى بصوته لصالح الكتلة الإسلامية. ولكن سرعان ما انقلب السلوك بدل لوم النفس ومحاسبتها إلى استحضار صورة الخصم "الشيطانية"، وذلك باعتبار مثل هذا الاستحضار كفيلًا بأن يدبّ الروح في أوصال قبيلة فتح، فهذه "القبيلة" السياسية إذا ما أرادت شدْشدة أركانها وأرادت استنهاض الولاء الداخلي لعناصرها، فإن الطريق الأقصر والأنجح لكل ذلك هي مهاجمة الخصم والنيل منه بالباطل وبالاستباحة باليد وباللسان من أجل طمأنة الذات أنها بخير. وقد خبرنا مثل هذا السلوك منذ انشقاقات فتح الأولى في السبعينيات (أبو نضال)، والثمانينيات (أبو موسى) فضلًا عن التنافس الوجودي مع "الضرة" اليسارية آنذاك. فقد كانت فتح تنتعش فعلًا عندما تستفز سعارها في تمجيد الذات والتشهير المقذع بالخصوم. وفي اعتقادنا أن أحد أهم أسباب استمرار فتح بعد وفاة عرفات، وتماسكها النسبي وعدم انفراط عقدها رغم التخلص من دحلان، هو ظهور خصم محلي مجسد بحركة حماس، يمكن أن تتخذ من مناوءته ما يغذّي بقاءها، لا لشيء إلا لأنها تقوم مقام "الضرة" السياسية التي تستدعي في مثل واقع مجتمعنا بتقاليده العربية ذات المناسيب العالية في الغيرة والحسد؛ كل الحركية الغريزية التي لا تخضع لمنطق أو عقل سوى منطق الرغبة الجامحة في محو "الضرة".. ولا أقل من ذلك!!


إن حركة فتح هنا لا تخاصم حماس لكونها حركة مقاومة أو لأن أيديولوجيتها إسلامية، لا شيء من ذلك أبدًا، بل لأنها هي الماثلة في وجهها! فلو كانت هناك حركة أخرى لها حضور منافس لفتح، حتى لو كانت حركة يسارية أو ذات مشارب أيديولوجية أخرى، فسنجد فتح تخاصمها أيضًا، وتتمنى محوها لا لسبب الأيديولوجيا ولا للطرح السياسي، وإنما لأنها الماثلة في وجهها، فهي حساسة جدًّا لكل جسم يمكن أن يَمثُل أمامها، فهي أشبه بماكنة جاهزة للحنق والمقت والغضب و"الزعل" من أي جسم – بغض النظر عن هويته السياسية أو الأيديولوجية – يقع في مدى ناظريْها، فهي لا تطيق أي رأي أو اجتهاد أو مسلك آخر غير ما هي عليه، ويخرج إرادتها الاستحواذية.

 

وفي رأينا أن طرح حركة فتح لأحد أهم مبادئها ومرتكزاتها منذ بداياتها الأولى بالدعوة إلى اللاحزبية، والطلب من المنتمين إليها خلع أرديتهم الحزبية السابقة، والطرح الوطني العام الذي يتسع لكل المشارب الأيديولوجية وتوحيدها في إطار وبوتقة واحدة، من أجل إنجاز هدف التحرير. إن وجه العملة الآخر لهذا الشعار الذي يبدو جميلًا وجذّابًا، والذي وجدنا تمثلاته في سلوك فتح اللاحق، في ضيقها من أي وجهة نظر أخرى. ولا ندري إذا ما كان رفع شعار "اللاحزبية" قادما عند تأسيس (فتح) من التأثر بالتجربة الناصرية، التي قامت على أساس إلغاء الأحزاب السياسية في مصر أولًا، ثم كانت شرط عبد الناصر الأساس في قبوله للوحدة الاندماجية مع سورية، والذي لم يوفر شرطه الشارط هذا حتى حزب البعث الذي قام بحلّ نفسه تلبية لرغبة عبد الناصر. وحتى أن حركة القوميين العرب ناقشت في أروقتها الداخلية مسألة حل نفسها للالتحاق بالناصرية، ليس في مصر وسورية فحسب، بل في جميع أماكن تواجدها - كما يذكر ذلك جورج حبش في مذكراته – وكان الأستاذ محمد عابد الجابري، اشتكى في أحد كتبه التي تناولت تاريخ المغرب الحديث تأثير النظام الناصري في محاربة الحزبية في كل من المغرب والجزائر. 

 

وإن علّة علل محاربة الحزبية من وجهة نظر عبد الناصر، لم يكن سوى التشريع للديكتاتورية والرأي الواحد والطريق الواحد. فقد أخبرنا محمد حسنين هيكل – كاتب خطابات عبد الناصر – بأنه بعد حادثة محاولة اغتيال عبد الناصر (المسرحية) في المنشية – الإسكندرية عام 1954، أنه ولد حينها الديكتاتور!
من هنا، فإن ضيق فتح بحماس هو من هذا النوع، الذي لا يتقبل الآخرين ويستبعدهم، بل ويتمنى محوهم وشطبهم. لذلك فإن تصرفاتها الرعناء منذ أيار الماضي، سواء تلك التي ظهرت في جامعة النجاح، والحديث الدعائي في إعلام السلطة عن تسخيف الانتخابات ولا أهميتها، أو حملة الاعتقالات الشعواء التي طالت عناصر وكوادر لحركة حماس والتي هي في تزايد مستمر، وأخبار التعذيب البشع في أريحا وصلت إلى منبر المسجد الأقصى الذي ضجّ خطيبه الشيخ عكرمة صبري لمّا تناهى إليه، وضيق فتح بأي راية خضراء ترفعها حركة حماس في أي مناسبة، إنما يذكرنا بحالة الذعر التي تستبد بما تبقى من هياكل فتحاوية متداعية، مع أنها فقدت الكثير من حميّتها على مدى الزمن بسبب تخوفها وتآكل شرعيتها وحتى وطنيتها. وهذا الذعر كلما اشتدت وتائره؛ كشف مدى هشاشة من يمارسه، وهذا ما برهنته حوادث الربيع العربي في مثل هذه الدرجة من الهشاشة التي تعتمد على "التخويف، والتسلط، والقهر"، ما يمنح فرصة كبيرة للشعب كي يثب وثبته الحاسمة في وضع حد لهذا العبث بكسر حاجز الخوف والزحف باتجاه أوكار العفن والعمالة والنذالة والفساد، فقد كنا سمعنا هؤلاء المذعورين قبل ثلاث سنوات عندما نفّذ المجاهد عاصم البرغوثي عملية جريئة ضد جنود الاحتلال في أحد الشوارع الالتفافية، الاحتلالية القريبة من رام الله، وقيام جنود الاحتلال بالملاحقة الساخنة في شوارع رام الله، وعلى مدى أيام، سمعناهم يقولون: ها هي حماس وصلت إلينا وتريد تنفيذ انقلاب في الضفة، وسُمِع مثل ذلك الكلام المذعور أيضًا في الشهرين الماضيين بعد انتخابات مجلس طلبة بيرزيت، وذلك عبر وسائل إعلام السلطة المرئية والمسموعة.


الشعب الفلسطيني الموصوف بالعنفوان، والمجرّب والذي ربما تردد طويلًا في الاشتباك ببعض منحرفيه، وكان مؤدبًا زيادة عن اللزوم في التعامل معهم، آن له الأوان أن يثب وثبته الكبرى، خاصة أنه مليء بالرجال وبالأبطال وبصانعي المستحيل، فهو الذي وصفه أحد الكتّاب اليساريين اليهود بقوله: "يبدو أن الفلسطينيين طينتهم تختلف عن باقي البشر، فقد احتللنا أرضهم، وأطلقنا عليهم الغانيات وبنات الهوى، وقلنا ستمر بضع سنوات، وسينسون وطنهم وأرضهم، وإذا بجيلهم الشاب يفجر انتفاضة الـ 87.. أدخلناهم السجون وقلنا سنربيهم في السجون.. وبعد سنوات، وبعد سنوات، وبعد أن ظننا أنهم استوعبوا الدرس، إذا بهم يعودون إلينا بانتفاضة مسلحة عام 2000، أكلت الأخضر واليابس، فقلنا نهدم بيوتهم ونحاصرهم سنين طويلة، وإذا بهم يستخرجون من المستحيل صواريخ يضربوننا بها، رغم الحصار والدمار فأخذنا نخطط لهم بالجدران والأسلاك الشائكة.. وإذا بهم يأتوننا من تحت الأرض بالأنفاق، حتى أثخنوا فينا قتلًا في الحرب الماضية، حاربناهم بالعقول، فإذا بهم يستولون على القمر الصناعي (عاموس) ويدخلون الرعب إلى كل بيت في إسرائيل.." ثم يختم جازمًا: "يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ ولا حل معه سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال".


إن هذا الشعب الذي يصفه أحد أشهر كتّاب جريدة هآرتس مثابرةً، بهذه الصفات النادرة، يستطيع بالتأكيد أن يسترد حيويته ونجاعته في التصدي لسلطة فاسدة ومتآمرة. ليس بالضرورة أن يأخذ الصدام بها الصورة الدموية العنيفة التي تكون بالعادة ضد الاحتلال، ولكن بوعي وعقلانية وبحشد كل قيم التضامن الداخلي بحيث يتم إنزال هذه السلطة وعبئها الثقيل، من مقاعدها التي تجلس عليها بالتي هي أحسن. وذلك باستعادة جماهير شعبنا زمام المبادرة، وعدم السماح للعفن والفساد والتحلل القيمي والوطني أن يظل قائمًا ومنتعشًا؛ بسببٍ يمكن أن يُعزى إلى الجبن والخوف والصمت. فلا بد للشعب أن ينهض هذه المرة ليس في وجه الاحتلال فقط، بل في وجه وكلائه وعمّاله ومقاوليه، وهذه لحظة وعي فارقة، ربما تشبه لحظة الوعي التي سجلها الشيخ الشهيد عز الدين القسام عندما لم يفصل ما بين العدو الصهيوني والعدو الإنجليزي ونحن هنا بأمسِّ الحاجة إلى لحظة الوعي النافذة هذه ليستعيد الشعب روحه وذاته الجسورة من سارقيه والعابثين بمصيره والمتاجرين باسمه وبقضيته!

 

0
التعليقات (0)