"أم
سعد" رواية للكاتب والروائي الفلسطيني
غسان كنفاني، أحد أشهر الكُتاب والصحفيين
الفلسطينيين، الذي انعكست قوميّته بشكل واضح على أعماله، فقد كانت أغلب كتاباته نابضة
بروح فلسطينية، وتملك بين طياتها
ثقافة المقاومة الخالصة.
عُرف
كنفاني سياسيًا على أنه الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما أسس
مجلة الهدف الناطقة باسم الجبهة، وترأس تحريرها.
قدّم
كنفاني إرثًا عظيمًا في مختلف الفنون الأدبية، من القصص والروايات وحتى المقالات بأنواعها،
وكان معظم ما كتب في كفاح الشعب الفلسطيني، ونجد هنا وثيقة واضحة على أنه كان يؤمن
بقوة الكلمة.
دمج
كنفاني في أعماله بين شخصية الكاتب الأدبي، وشخصية المواطن الثوري، وما زال حتى الآن
يحظى ما كتبه قبل عقود بالكثير من الاهتمام في صفوف القرّاء العرب عامة والفلسطينيين
خاصة.
قال
القاصّ والروائي اللبناني إلياس خوري في تصريحات إعلامية: "غسان كنفاني كتب تأسيسا
للأدب الفلسطيني بعد النكبة، وأسس الوعي الفلسطيني لما بعد النكبة".
رواية
أم سعد
يمثل
عنوان الرواية الانطباع الأول لدى القارئ، ونقف عنده بدايةً بصفته عتبة خارجية للنص..
العنوان
قصير ومختصر، فاستخدم الكاتب ببلاغته القليل الدال، وكعادته استخدم لغة رمزية، فاختار
أم سعد رمزًا للمرأة الفلسطينية بكل أحوالها، وباختلاف دورها في المجتمع، فمثّلت أم
سعد المرأة الكادحة، والزوجة المراعية، والأم المناضلة التي تلد الأولاد فيصيروا فدائيين،
وصفها زوجها قائلاً: "هي تخلف وفلسطين تأخذ".
أم سعد
ليست بالشخصية التي نُسجت بفعل خيال الكاتب، بل هي شخصية واقعية عرفها وتأثر بها قبل
أن يكتب عنها، ووثق الكاتب هذا في مدخل/ مقدمة الرواية، "أم سعد امرأة حقيقية
أعرفها جيدًا، وما زلت أراها دائمًا وأحادثها وأتعلم منها".
وهذا
يطابق ما عرفناه عن غسان كنفاني بأن التأثير الأكبر على كتاباته يرجع إلى الواقع الذي
شاهده وعاش فيه.
عرض
كنفاني قضية اللجوء كما لم تُعرض من قبل، فصوّر معنى أن تكون لاجئًا بمخيم وأنت في
بلدك، اللجوء تحت حديد الزينكو، ولا يحتضنك سوى البرد القارس، ولا ملاذًا من الوحل
ساعة المطر، أيكون المرء غريبًا في وطنه؟ الفلسطيني يعرف معنى ذلك.
وصّور
كنفاني معنى أن تكون مدهوسًا تحت أقدام الأفندي تارةً والمحتل تارةً أخرى، وصور كيف
قد يتحول ابن الحي الفلسطيني إلى جنرال متخاذل، له كلامه المسموع، وتتلخص مهمته في
إذلال أبناء شعبه، مقابل المال.
الشخصيات
تعددت
الشخصيات بالرواية ما بين رئيسية وثانوية، وانقسمت إلى ثابتة ومتحولة، عرضها الكاتب
باستخدام الملفوظات السردية تارة والملفوظات الوصفية تارة أخرى، لكن ظهر اعتماده على
الملفوظات السردية أكثر، خاصة في تقديمه للشخصيات الرئيسية أمثال أم سعد، فلم يصفها
بطريقة مباشرة، بل ترك أمر اكتشاف الشخصية ومعرفة خصالها على القارئ، يدركها من حواراتها
سواء كان الحوار داخليًا (مونولوج)، أو خارجيًا (ديالوج)، أو من خلال ردود أفعالها
تجاه المواقف المختلفة.
اظهار أخبار متعلقة
أما
الشخصيات الأخرى فهي:
سعد:
أساسية، الابن الأكبر لأم سعد، لم يتحدث عن نفسه، ويُشار إليه في الرواية باستخدام
ضمير الغائب، وذُكر أنه أحد الأسرى الفلسطينيين، وبعد أن خرج من السجن، التحق بالفدائيين،
وأصبحت معظم أيامه بلا مأوى، بسبب هروبه من الإسرائيليين.
استُخدِمَ
سعد للإشارة إلى الفدائيين، الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ويدافعون عن أرضهم
بلا خوف، يمتنعون عن رؤية عوائلهم لفترات طويلة، وإن اشتاق أحدهم لوالدته، يهديها سيارة،
وليست سيارة كما يتوارد لأذهاننا، إنما ينسف سيارة ويهدي قتلاها لوالدته، فيوصل الراديو
هديته بخبرٍ نصّه: "أنباء عن سقوط سيارة إسرائيلية في كمين مقاتلين، وعاد الفدائيون
إلى قواعدهم سالمين".
سعيد:
ثانوية، لا يظهر الابن الأصغر إلا في آخر المشاهد، فيظهر بمشهد قصير مليء بالحيوية،
حيث كان يدرب الأطفال بالحلبات أو المنصات في الشوارع، على أن يتعاملوا مع خطر احتمالية
إصابتهم بطعنة حربة، بوصفهم فدائيين مستقبليين، وفي أثناء التدريبات تصدح المنصات بزغاريد
أم سعد، وصوت أبي سعد وهو يعرّفهم على نجله.
أبو
سعد: ثانوية، رجل صامت، لا يكاد ينبس ببنت شفة إلا عند الضرورة أو الشجار، وعندما سُئلت
أم سعد عن سبب فظاظة تصرفات زوجها أجابت: "الفقر يا ابن العم الفقر... الفقر يجعل
الملاك شيطانًا ويجعل الشيطان ملاكًا، كان أبو سعد مدعوسًا بالفقر، ومدعوسًا بالمقاهرة،
ومدعوسًا بكرت الإعاشة، ومدعوسًا تحت سقف الزينكو، ومدعوسًا تحت بسطار الدولة."
ثم تحوّلت شخصيته تمامًا إلى أب حنون، فخور بعائلته التي يشارك كل فرد فيها بواجب النضال
الفلسطيني.
عبد
المولى: ثانوية، رجل من الفلاحين، أصبح يعمل مع الإسرائيليين، كما صار نائبًا في البرلمان.
ليث:
ثانوية، أحد رجال القرية، سجين لدى الإسرائيليين.
فضل:
ثانوية، من الذين حاربوا ضد إسرائيل وأُسِروا، فتواسط له عبد المولى كي يُحرر، فصفق
أهل القرية لعبد المولى، وقال فضل جملته: "ولكو إسا أنا الذي تمزقت قدماه، وهذا
الذي تصفقون له؟"
الراوي:
أحد شخصيات الرواية، ويتبين أن الراوي هو الكاتب نفسه.
أما
الرؤية السردية في العمل الروائي، فاستخدم الكاتب (الرؤية مع) حيث كان الراوي –غسان
كنفاني- أحد شخصيات الرواية، يعرف من الأحداث بقدر ما تعرفه الشخصيات الأخرى، حاضر
ومشارك في القصة، ويستخدم ضمير المتكلم في الحديث عن نفسه.
استخدم
الراوي الخطاب المنقول أكثر من الخطاب المحول، في نقله لكلام الشخصيات، فكان يأتي الحوار
على لسان الشخصيات مباشرة، دون تعديل الكاتب، وهذا قد يفسر وجود بعض المفردات العامية
في الرواية، كما أضاف على الحوارات نوعًا من الدفء.
المكان
القرية،
قبل التهجير
المخيّم،
بعد التهجير
الزمان
لم يذكر
زمنا بعينه، لكن ضمنيًا كان الزمن بعد النكبة، في زمن انتشر فيه الراديو وأعمال الفدائيين،
نستدل على ذلك حين قال: "بدأت الحرب بالراديو وانتهت بالراديو"، وتهجير الشعب
الفلسطيني، ومكوثه في المخيمات.
استخدم
الكاتب مفارقات زمنية، وخالف زمن ترتيب الأحداث بتقنية الاسترجاع خاصة.
ورغم
أن الزمن يسير إلى الأمام، لكن كانت الأحداث أشبه بذكر أهم المحطات من حياة أم سعد
وعائلتها.
وانتقل
الكاتب بين هذه الأحداث المتنوعة التي من الممكن أن يكون فيها نوع من الاستطراد، لكنه
سردها برشاقة، دون أن يشعر القارئ بالملل.
الخاتمة
أبدع
الكاتب بإيجاد علاقة بين المقدمة والخاتمة، فبدأت الرواية بجلب أم سعد لغسان ساقا جافا
ويابسا، مدعية بأنه سيخرج منه دالية خضراء كبيرة، لكنه استهزأ بذلك، وانتهت الرواية
عندما أخرجت الدالية براعم، فقالت أم سعد مبتسمة: "برعمت الدالية يا ابن العم
برعمت" وترمز الدالية إلى الشعب الفلسطيني وأمله بالحرية.
ونختم
في جملة قالتها أم سعد عن الوقوف ضد العدو وكأنه قدر الفلسطينيّ المُحتّم: "هل
تعتقد أن ذلك يحدث في الصدفة؟ آه لو تعرف يا ابن العم! البارودة مثل الحصبة... ومنذ
ذلك اليوم الذي شهدتُ فيه سعد يحمل رشاشًا، قلت للأفندي اللي مرّ علي ذلك الصباح: اللي
حوّش حوّش".