الكتاب: الشريعة المعجزة
تأليف: القاضي محمد وفيق زين العابدين
الناشر: أركان للدراسات والأبحاث والنشر،
عام 2021م.
عدد الصفحات: 344 صفحة.
إن صلاحية أي
تشريع كانت تُقرر على أساس مدى
صلاحية قيمه وطبيعة مبادئه وهل بينها وبين الواقع تجانس، فالسياسة التشريعية
الصحيحة يجب أن تعتمد على عناصر متجانسة مع البيئة التي تضبطها، فإن لم يجمعها
التجانس فرقتها العناصر المتنافرة، وأفقدتها الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا
تحقق الغاية المقصودة منها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصودا لذاته، ولكنه
تشريع مجرد وسيلة لتحقيق أهداف مرتبطة بضبط الحياة الدنيوية لإسعاد الناس، وفي هذا
الإطار تبرز مزايا الشريعة الإسلامية التي وضعها الخالق الذي هو أعلم بأحوال عباده،
وأدرى بما فيه صلاحهم واستقامتهم، وما إليه عاقبة أمرهم، التي تفردت عن التقنيات
الوضعية بسمات وخصائص تجعلها أجدر بالاتباع وأولى بالتطبيق، إذ لا تتحكم في سنها
الآراء، ولا تعبث في وجهتها الأهواء.
هذا الكتاب، الذي نحن بصدد تصفحه وعرض أهم
ما جاء فيه، يجلي بعضا من جوانب الإعجاز التشريعي في الإسلام، وضعه قاض من قضاة
مصر النابهين محمد وفيق زين العابدين الباحث في القانون والشريعة، يقول الدكتور
رفعت السيد العوضي في معرض تقديمه لهذه الدراسة: "علم الإعجاز العلمي في القرآن
الكريم والسنة النبوية، أقوى وسيلة منحها الله سبحانه وتعالى لأمتنا الإسلامية، لتصبح عقلية أبنائها عقلية علمية".
بدأ يتشكل علم الإعجاز وتتحد أسسه ومجالاته ووظائفه، مع مطلع القرن الخامس عشر الهجري، ثم إن تدبر بحوث الإعجاز في
علوم الطب، يكشف عن كيف يشكل القرآن الكريم عقلية علمية بما يتضمنه من إعجاز في هذا
المجال، ثم إن تدبرا لبحوث الإعجاز في علوم الأرض، يكشف عن كيف يشكل القرآن الكريم
عقلية علمية، والأمر ذاته ينطبق على علوم الفضاء والعلوم الاجتماعية. وعليه، فإن
العقلية التي يشكلها الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية تصبح عقلية
تؤمن بالعلم، وتتربى على استخدام العلم وتقبل نتائج العلم، وتطور العلم، وهي عقلية
تأخذ بالأسباب، وتفعل الأسباب، وتطور الأسباب والعقلية التي يشكلها الإعجاز العلمي
في القرآن الكريم والسنة النبوية، هي عقلية يسكن فيها المستقبل وتتعامل مع
المستقبل، ص9.
اختص الله هذه الأمة بشريعة محكمة مباركة لا
يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، شريعة ربانية سماوية ثابتة لا تتبدل،
ولا تتغير شريعة دائمة مرنة عامة تتسع لحاجات البشر في كل زمان ومكان، مهما تعددت
ومهما تنوعت وكيفما تطورت شريعة سامية راقية غنية بالمحاسن ووجوه الإعجاز، ومن
أحسن من الله حكما لقوم يوقنون.
لقد خلق الله سبحانه النوع الإنساني لعمارة الأرض وإصلاح الكون، وركب فيه عقولا وجعلها مناط التكاليف، وخلق في الإنسان غير القوة العقلية، القوة الشهوانية وغيرهما من الغرائز النفسية التي تضعف سلطان العقل وتقلل من شأنه، بل تتغلب وتنتصر عليه في بعض الأحايين.
إن قانون أي أمة هو مرآة أحوالها المادية
والفكرية والاجتماعية، وإذا كان من المفترض أن يكون القانون هو مصدر سعادة كل
مجتمع ونهضته كما يقول فلاسفة القانون، فإنه لن يكون كذلك إذا لم يحقق متطلباتهم
وآمالهم الثقافية، والفكرية والمادية التي تمليها طبيعة بيئتهم الدينية
والاجتماعية، بل سيكون وبالا عليهم، وسيكون مصدراً لتعاستهم وشقاوتهم لا إسعادهم
ونهضتهم، فالتشريع الصحيح وليد روح المجتمع ونتيجة أعرافه وثقافته، فالذاتية
الثقافية القانونية متجذرة في السلوك الجمعي للمجتمع، الذي تطور من خلال العادة
والتقليد، وفقا لقيم المجتمع الأخلاقية والدينية، ص18.
لقد أثبت الواقع بما لا يدع مجالا للشك أن
تطبيق القوانين الوضعية كان ومازال هو أهم أسباب انتشار الجريمة، وازدياد معدلاتها
وتنوعها على نحو لم يكن في أسلافنا، ثم إن تلك القوانين لم تؤد دورها في الوفاء
بمتطلبات المتقاضين، وحل خصوماتهم، وفض نزاعاتهم، فلا زجرا حققت، ولا قضايا
أنجزت، ولا حقوقا لأصحابها سلمت، بل أدت الثغرات التي تملأ عباءتها إلى اللدد في
الخصومات، والمماطلة في الإجراءات، وكثرة الاستئنافات والامتناع عن أداء الحقوق
والوجبات، وإثارة الفوضى والهمجية، وبث روح الانتقام والثأر لدى المتخاصمين، ص20.
إن مشكلة القوانين الوضعية ليست درجة تحضرها
ورقيها، فمهما تفاوتت في ذلك، ومهما ارتقت فمصدرها النهائي العقل البشري، الذي
يحول قصوره دون الوصول إلى غاية الكمال التشريعي لاستحالة خلوه من الهوى، وليس أدل
على ذلك من تعارضها وتناقضها، فالذين يقدسون القانون ويدافعون عنه، ولا يقدسون
شيئا واحدا ولا يدافعون عن شيء واحد، وإنما هو متعدد في كلياته فضلا عن
جزئياته، بل متناقض في كلياته فضلا عن جزئياته، فأي قانون يدعون الشعوب لاحترامه
وتقديسه؟ القانون الذي يبيح التبني أم القانون الذي يقيده أم القانون الذي يمنعه؟!
القانون الذي يطلق يد المورث في اختيار من يرثه أم القانون الذي يقيد سلطته
ويحددها؟ ص22.
الإعجاز التشريعي.. وهم أم حقيقة قائمة
بذاتها؟
قضية الإعجاز في الشريعة الإسلامية من أهم
قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، ليس بسبب اللغط المثار حولها، فهو لغط متكرر يتجدد
كلما تجدد طرح القضية الأصلية ذات الامتداد التاريخي، الذي لم يرتبط يوما بزمان أو
مكان، بل الأهمية المعاصرة تكمن بسبب ارتباطها ارتباطا وثيقا بالتقدم العلمي
والحضاري، الذي تدور حوله مركزية العلم الغربية، التي هي الدعامة الأولى لسيادة
العلمانية الغربية، وتسلطها واستبدادها الفكري، وبسبب الاستقطاب العلماني أو
بالأحرى اللاديني العربي لكل قيمة علمية ومنجز علمي لإحداث تباعد بينهما وبين
الشريعة، وخلق فجوة وصدام بين العلم والدين في محاولة لتكرار اللحظة التاريخية
التي تخلص فيها الغرب من الفكر الديني، لكن في مناخ حضاري وثقافي يختلف كلية عن
التجربة الغربية.
يشير زين العابدين إلى حقيقة مهمة بقوله؛ "إن
الأساس الذي تنطلق منه ضرورة الإعجاز الشرعية العلمية، هو البحث في معاني أحكام
الشرع، وأسرار صنع الله التي أخفاها عن عباده، بما من شأنه أن يؤدي لإصلاح عقول
المكلفين، وإزاحة حجب الغفلة والكسل الذهني والاتكالية عنها، فتنفجر طاقاتها في
استكناه هذه العلل والحكم والأسرار، فيحدث التجدد في الدين، فضلا عن الفاعلية في
استجابة المكلفين بحسب تفاوتهم في القرائح والمفهوم والإيمان، وهذا من مقاصد الشرع
بلا أدنى ريب"، ص27.
ويضيف الكاتب: "لا نكاد نبالغ إذا قلنا
إن أخطر موضوعات الإعجاز هي موضوعات الإعجاز التشريعي، فإن لكل قانون طبيعته،
وسماته، وخصائصه التي تميزه عن غيره من القوانين"، تلك السمات والخصائص تستمد
بصفة أصلية من عنصرين:
الأول ـ شخصية واضعيه، والعوامل النفسية
والاجتماعية التي تؤثر في سلوكهم.
الثاني ـ طبيعة المجتمع الذي ينظم القانون
العلاقة بين أفراده، ويوضع لحفظ أمنه ورعاية مصالحه، ص29.
لقد خلق الله سبحانه النوع الإنساني لعمارة
الأرض وإصلاح الكون، وركب فيه عقولا وجعلها مناط التكاليف، وخلق في الإنسان غير
القوة العقلية، القوة الشهوانية وغيرهما من الغرائز النفسية التي تضعف سلطان العقل
وتقلل من شأنه، بل تتغلب وتنتصر عليه في بعض الأحايين، ومهما سما العقل واكتمل
فيما هو بمستطيع أن يهدي المرء إلى جميع ما يحتاج إليه في تحصيل السعادة الدنيوية، فضلا عن الأخروية، لقصوره عن إدراك هذه المنزلة، فكان لا بد للعقل من هاد يكمل
هدايته ويرسم له الطريقة المثلى في الحصول على الكمال الديني والدنيوي، وكان هؤلاء
الهداة رسلا مبشرين ومنذرين يصطفيهم الله ممن زكت فطرتهم وكملت عقولهم، ويفيض
عليهم من أنواء وحيه ما يشاء، ص30.
إعجاز التشريع الإسلامي ليس كأي إعجاز
تشريعي تاريخي، بل هو إعجاز مطلق متجدد غير محدود بزمان أو مكان، فكلما ارتقى
الناس في حياتهم، وتقدمت حضاراتهم، تجلت قواعد الشريعة من مظاهر خمسة:
الأولى ـ خصائصها والأسس التي قامت عليها من
حيث الثبات والدوام والعمومية، ونزعتها الجماعية وتكامل قيمها ومبادئها.
الثانية ـ المقاصد والغايات التي استهدفتها
لرفع أسباب التخاصم والتنازع في المقام الأول، ثم لتحقيق العدالة المطلقة بين
الناس.
الثالثة ـ المصادر المتنوعة التي استمدت
منها أحكامها متمثلة في القرآن الكريم، والسنة النبوية فالإجماع والقياس، العرف ثم
مذاهب الصحابة، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا منا لم
يخالف شرعنا.
الرابعة ـ الأحكام التي جاءت في القران
الكريم أو السنة مباشرة، أو استمد منهما باستعمال أصول الفقه، وضوابطه، وقواعده
الكلية والجزئية التي وضعها الفقهاء المسلمون.
الخامسة ـ اختلافات الفقهاء وتنوع مذاهبهم على نحو يثري
التشريع بالحلول المتعددة حتى في أحدث النوازل، وأعقد القضايا مستلهمين إياها من
سوابقهم وسوابق أسلافهم والأشباه والنظائر؛ إذ لم يجدوا في كتاب الله تبارك وتعالى
وسنة نبيه صل الله وعليه وسلم بغيتهم، وقد اجتهدوا في ذلك أيما اجتهاد على نحو
عجزت سائر الأمم السابقة عن الإتيان بمثله.
تلك المظاهر الخمسة تثبت أن الإسلام ليس
دينا لاهوتيا صرفا حاكما لعلاقة الإنسان بربه عز وجل على نحو الأديان السماوية
السابقة عليه، وإنما هو تشريع متكامل يشمل كل شؤون الإنسان وينظم علاقاته بكل ما
في الكون، متنوع المصادر التي تؤكد سعته وشموليته وصلاحيته لكل زمان ومكان، متعدد
النظريات والقواعد التي تعكس عمق فكره وأصالته، متميز في مصطلحاته وأبوابه وفصوله
وأحكامه ومسائله التي تعبر عن استقلاليته وتفرده، فقد كان الفقه الإسلامي من أهم
الأسس والعوامل التي ساهمت في بناء الأمة الإسلامية، وتكوين حضارتها، واتساع
عمرانها، وامتداد سلطانها، وانضواء الشعوب المختلفة تحت لوائها؛ لأنه فقه يقوم على
العدالة ويشرع الحقوق ويصونها ويكفل الحرية ويلائم الفطر السليمة ويزيل الفوارق،
ويقضي على الطبقات، ويساير التطور ويمسك بالأصول والقواعد العادلة، ولا تسيطر عليه
شهوات الأفراد أو أطماع الأحزاب والجماعات، ولا يخضع لهوى الأمراء والرؤساء، ص32.
الجدل حول مسلك البحث في حكم الشريعة وعللها
يعد مسلك البحث في التعليل التشريعي من أهم
الاتجاهات البحثية المثيرة للجدل في الكتابات الشرعية، وقد أثر ذلك بشكل كبير على
الإنتاج العلمي في هذا الجانب، حيث تميز بالضعف كما وكيفا، ولعل منشأ الجدل في
هذه القضية يتمثل في المخاوف التي أثارها هذا النوع من البحث من التجني على النص
الشرعي، والتكلف في تفسير إرادة الشارع الحكيم منه، في حين وقفت على نقيض هذه
المخاوف ضرورة دعوية، أثارها عصر العقلانية أو العلم الحديث وما شاع فيه من توجهات
إلحادية.
القيمة القانونية للشريعة بأقلام مفكرين
غربيين
تنبه كثير من الفلاسفة الغربيين، وفقهاء
القانون لمقومات الشريعة الإسلامية ووجوه تميزها، فلم يمتلكوا التصريح في مؤلفاتهم
ومؤتمراتهم بعلو كعبها في المجال التشريعي أو القانوني، مؤكدين استقلالها وتفردها
وتطورها، وأنها السبيل لخلاص البشرية البائس من ويلات القانون الوضعي وتبعاته
المجحفة فكريستوفر وبرامانتري نائب رئيس محكمة العدل الدولية السابق، وأستاذ
القانون بجامعة موناش في كتابه شهادة حق التشريع الإسلامي من منظور دولي يقول: "مع أن نظام التشريع الإسلامي يعد
من أكفأ الأنظمة المنظورة في العالم، إلا أن طلاب القانون في الغرب لا يعرفون عنه
إلا قليلا جدا".
كان الفقه الإسلامي من أهم الأسس والعوامل التي ساهمت في بناء الأمة الإسلامية، وتكوين حضارتها، واتساع عمرانها، وامتداد سلطانها وانضواء الشعوب المختلفة تحت لوائها؛ لأنه فقه يقوم على العدالة ويشرع الحقوق ويصونه،ا ويكفل الحرية ويلائم الفطر السليمة ويزيل الفوارق، ويقضي على الطبقات، ويساير التطور ويمسك بالأصول والقواعد العادلة، ولا تسيطر عليه شهوات الأفراد أو أطماع الأحزاب والجماعات، ولا يخضع لهوى الأمراء والرؤساء.
بل أثبت ويرامانتري في كتابه التأثير
الإسلامي على التشريع الأوروبي وفلسفة التشريع المنزل والعقل الإنساني، "أن
أشهر أساتذة الفكر الغربي وفلاسفة القانون أمثال جون لوك، وجان جاك روسو،
ومونتسيكو، وغيرهم قد تأثروا بفكر وفلسفة التشريع الإسلامي، فيقول: "ومن
المؤكد أنه من الجور وعدم العدل أن يكون للأوروبيين تراث فلسفي عظيم بمعزل عما
حوله، خاصة في فترة تكوينه، بينما يقف على حددوهم تراث ثقافي متطور كان من أهم
الثقافات المثيرة التي رأسها العالم".
ويضيف؛ "إن التشريع الإسلامي يمثل
كتابا موجودا مستوعبا لكل نشاط الإنسان من المهد إلى اللحد... فهذا الامتداد
يغطي كل سلسلة الحياة، والمقياس المستخدم لتطوير الحياة هو تمام العدالة، والقياس
الموضوع لإحراز كل الوجوه المختلفة للحياة، تجده مشمولا في التشريع الإلهي؛ لأنه
تشريع وضع للعديد من ملايين البشر ليزودهم بالدستور الأعلى للسلوك على مدى قرون
طويلة"، ص60.
تكامل التشريع مع القيم والمبادئ الأخلاقية
إن النظام الإسلامي كل متكامل ونسيج متشابك
يشد بعضه بعضا، ويعتمد بعضه على بعض، نظام متناسق تتحد معانيه وتصب جميعها في
سعادة البشرية ورعاية مصالحها، فلا تدرك حكمه، ولا تفهم غاياته إلا بالإحاطة بكل
جوانبه، والنظر إلى كل أجزائه، لذا كان خاتم الأديان وأيسرها وأشملها، فدائرة
التشريع لا تنفصل عن دائرة الأخلاق، ولا الاقتصاد، ولا الاجتماع، وبقدر تواصل هذه
الدوائر وتداخلها وتحققها في المجتمع تتحقق سعادته ونهضته... فتكامل قواعده
القانونية مع العقيدة ومع مبادئ الأخلاق والقيم والآداب، من أهم أسباب تعزيز مكانة
التشريع في نفوس المخاطبين به، وتمكين قواعده عندهم على نحو يدعوهم إلى احترامه،
ويقلل من جسارتهم على مخالفته والتحايل عليه والتهرب من أحكامه، ص80.
ظهر التكامل في ثلاثة أوجه:
الأول ـ تأثير القيم الدينية في مقاومة
الانحراف والوقاية من الجريمة (تأثير القيم في التشريع)، فهي من أشد عوامل إيقاظ
الضمير الإنساني، وتحقيق الرقابة الذاتية للنفس على السلوك.
الثاني ـ حماية التشريع للقيم الأخلاقية
بنصوص فعالة (تأثير التشريع في القيم)، إذ توجه العقوبات في الشريعة قبل كل ما يمس
الأخلاق الفاضلة.
الثالث ـ تأثير القيم الدينية في وسائل
الاقتضاء وأدوات الخصومة، فالقواعد التشريعية لا تمنع التنازع والتخاصم، فهذا مما
ينافي الطبيعة البشرية والغرائز الإنسانية، بل إنها تراعي تلك الطبيعة والغرائز، وتهذبها وتنظمها بالوسائل والأدوات الأخلاقية الشرعية، ص82.
يضيف زين العابدين: "القانون الوضعي
يحكم السلوك الخارجي للإنساني فقط، أما التشريع الإسلامي فهو يخاطب كل أنواع
النشاط الإنساني، سواء كان متمثلا في السلوك الظاهري، أو كان متعلقا بالنوايا
والمقاصد والأفكار، غير أن العقاب الدنيوي يقتصر على ما كان متعلقا بالسلوك
الظاهري، والعقاب الأخروي يشمل نوعي النشاط الإنساني". إن العقوبة وحدها لا
تكفي في الشريعة الإسلامية لمكافحة الإجرام، إنما يكافح الإجرام في الشريعة
الإسلامية نظامها المتكامل في صيانة الأخلاق والحض على الفضائل، وتنظيم العلاقات
الاجتماعية تنظيما شاملا، وإيقاظ الضمير الإنساني بتعاليم الدين، وتطهير النفس
البشرية بالإيمان، والدعوة إلى المساواة والألفة والتكامل والعدل والإحسان،
والمروءة، وإيثار الذات والجهاد في سبيل الحق، والجهاد ضد الظلم والفساد والطغيان
وتكليف الكافة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص84.
الإعجاز التشريعي في فلسفة النظام العقابي:
التشريع الإسلامي سبق التقنيات الوضعية في
الأخذ بمبدأ شرعية الجرائم، والعقوبات الشهير في القوانين الجنائية والعقابية،
الذي وصف بالمبدأ الأكثر إجماعا عليه في التاريخ الإنساني، ويقتضي أنه لا جريمة
ولا عقوبة إلا بنص، إذ يميز التشريع الإسلامي بوضوح بين الجرائم التي قدر الله عز
وجل لها عقوبات لا يجوز العدول عنها إلى غيرها مثل عقوبات الحدود ـالردة، الزنا،
السرقة، القذفـ، وبين الجرائم الأخرى التي فوض ولي الأمر في تحديد أركانها،
والعقوبات المقررة لها وهي الجرائم التعزيزية، فلا سبيل إلى اعتبار الفعل جريمة
إذا لم تكن كذلك بنص الشرع أو سلطة ولي الأمر، ولو اقتنع القاضي بأنه مناقض
للعدالة أو الأخلاق أو الدين، ويحظر عليه تماما تطبيق القياس على الأحكام الشرعية
الجنائية، والخلاف الفقهي في القياس في العقوبات، إنما حول مصدريته في التشريع لا
في التطبيق القضائي، أي هل يصلح مصدرا لسن العقوبات لا لتطبيقها، ص 138.
عدالة العقاب في النظام الإسلامي، وجدت
أساسها في أربع ركائز الاستحقاق، والمماثلة، والرعاية، والتزكية، فهي ليست كعدالة
القانون الوضعي ذات بُعد واحد أو اثنين على الأكثر، بل متعدد الأبعاد بُعد متعلق
بالمجتمع، وآخر متعلق بالمجني عليه، وثالث متعلق بالجاني نفسه؛ عدالة موضوعها
المجتمع وفي مواجهته، وعدالة موضعها المجني عليه وفي مواجهته، وعدالة موضوعها
الجاني وفي مواجهته، والجمع بين كل ذلك جد عسير، ومن خلال الركائز الأربعة السابقة
تتحدد أغراض العقوبة وهي :
ـ تكفير الجرم
وتطهير الجاني.
ـ تحقيق العدل بين الجاني والمجني عليه.
ـ الردع العام.
ـ الردع الخاص
وإصلاح الجاني.
وبذلك يمكن القول؛ إن فلسفة عدالة العقاب في
الإسلام تخاطب في جوهرها المجتمع، بينما في القانون الوضعي تخاطب النظام.
يختم الكاتب دراسته بالقول؛ "إننا
اليوم في حاجة ماسة لعقد المقارنات بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية في أتقن
صورها، وأحدث أشكالها كي نبين للناس مدى جلال الشريعة، وإعجازها وتفردها، ولولا أن
إدراك هذه المعاني الفارقة بين القانون الوضعي والشرعي الإلهي، من أهم ما يمكن أن
يفهم به لماذا وجبت الشريعة، ووجب تطبيقها، لما تعينت المقارنة، فإنها في الأصل لا
تقوم إلا بين متفاضلين، ألم تر أن السيف ينقص قدره لو قيل إنه أمضى من
العصا؟!."، ص 329.
كيف لنا أن نعطي الشريعة حقها حين نقارن بين
ما شرع الله العليم الحكيم، وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة أفهامهم،
المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، حين نقارن شرعا ربانيا محكما ثابتا لا يتبدل ولا
يتغير، بقانون وضعي بشري دائم التبديل والتعديل، حين نقارن شريعة سماوية سليمة
المنطق سامية الغايات، بقانون وضعي مضطرب المنطق متناقض الغايات؟