على مقربة من
المدرج الروماني وبمحاذاة سبيل الحوريات (محط تجمع العشاق القدامى عند جدول الماء في الدولة الرومانية)، تقع مكتبة
خزانة الجاحظ، وهي واحدة من أقدم المكتبات المتنقلة في العاصمة الأردنية عمان.
يعود عمر المكتبة لأكثر من 120 عاماً حيث بدأت في مهنة الوراقة وبيع الكتب بمدينة الكرك (150 كم جنوب عمان) تحديداً في العام 1893 ثم انتقلت إلى مدينتي الخليل فالقدس في فلسطين المحتلة سنة 1921، إلى أن استقر بها الحال في عمّان سنة 1948 حيث قدم صاحبها الجندي ممدوح المعايطة من معركة 1948 جريحاً ليقدم له الملك عبد الله الأول رخصة إقامة المكتبة التي أطلق عليها الأردنيون قبل صاحبها اسم "مكتبة خزانة الجاحظ" نسبة للأديب العربي الأكثر شهرة في العصر العباسي أبو عمرو بن بحر البصري، والذي صورته كتب الأدب جاحظ العينين، وهي ذات الأوصاف التي اشتهر بها المعايطة.
يقول هشام المعايطة الذي ورث المكتبة عن والده الراحل "إن المكتبة مقامة على شكل كرفان خشبي يسهل نقله وقت الضرورة، لافتاً إلى أنه سعيد بالتعابير التي يطلقها رواد المكتبة عليها، إذ يحلو للكثير من أصدقائها من كتاب وسياسيين وصحفيين بتسميتها (حارسة عمان) لكونها لا تغلق أبوابها مطلقاً، وتقدم لروادها خدمة الكتاب المستعار، تقديراً منها أولاً لدور الكتاب في نشر الوعي بين الناس وللأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تشهدها البلاد، فيمكن لأي شخص أي يستعير الكتاب مدة شهر مقابل دينار واحد (1.4 دولار).
وبخصوص أوضاع الكتب الأكثر مبيعاً لديه فلا يخفي المعايطة أن الكتاب السياسي آخذ بالتراجع لصالح الأدب، فالروايات تحتل الصدارة لديه، إلى جانب روايات الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز والبرازيلي باولو كويلو، بدأت الروايات التركية تحتل الصدارة في الفترة الأخيرة، بخاصة رواية "قواعد العشق الأربعون" عن جلال الدين الرومي للكاتبة إليف شافاق، وكذلك روايتها المعاصرة "لقيطة اسطنبول"، وكتاب "العمق الاستراتيجي" عن موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" لرئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو، والذي ألفه قبل توليه هذا المنصب.
ولكن المعايطة يخشى أن يصبح الكتاب غريباً، في زمن الإنترنت، إذ أن اهتمامات الناس تبدو غير مفهومة، فتارة يخفت سوق الكتاب لدرجة نقول أن الانترنت قضى علينا، لكن سرعان ما تهب حالة شرائية نعوض بها ما فاتنا.
ويقول أحد رواد المكتبة محمد ساهر إنه مهتم بالجانب الروائي أكثر من غيرة، إلا أن "قواعد العشق الأربعون" الأكثر قرباً لديه، فيقول عنها "الرواية التي تدور أحداثها في القرن الحادي والعشرين بكل ما فيه من وسائل اتصال حديثة، تستقدم بأسلوب غريب جميل، القرن الثالث عشر في رحلة زمنية غير معقولة تتعاشق فيها حساسيات دينية وصوفية تتمخض عن صراعات روحية ونفسية".
أما خالد عواد أحد رواد المكتبة منذ نحو 10 سنوات، فلديه هواية القراءة بجانب المكتبة بمحاذاة أدراج عمان القديمة، إذ يقوم بقراءة سريعة لأبرز الكتب ويتناول ما يحلو له من رفوف المكتبة، ثم يختار ما يريد للشراء أو يستعيرها، لافتاً أن صداقته مع هشام صاحب المكتبة وفرت عليه الكثير من الجهد والمال، فكثيرا ما كان يأخذ الكتب للمنزل ويستفيد منها في دراسته "الحاسوب" ويقوم بسداد ثمنها وقت ما توافر إليه المال دونما إلحاح من صاحبها.
ويقول عمرو النوايسة أحد القراء المهتمين بكتب التاريخ أنه يلجأ إلى "مكتبة الجاحظ" كلما استعصى عليه كتاب في السوق، لافتاً انه بقي يبحث طيلة أسابيع عن المخطوطة الأولى للمؤتمر الوطني الأول في الأردن سنة 1928، ولم يجدها إلا في رفوف الجاحظ.
واللافت في المكتبة فضلاً عن نظام الاستعارة الذي تتبعه دون سواها من المكتبات الأردنية، أنها تضم في رفوفها مخطوطات تعود لنحو 350 عاما، وهي بذلك أصبحت كنزاً للمخطوطات التي قلما تجدها إلا في المتاحف الوطنية الرسمية، فهي تزخر بمخطوطات عثمانية عدة في مجالات الهندسة وتنظيم الجيوش.
ومن أبرز المخطوطات فيها معجم عثماني مكون من 4 مجلدات وتعود طباعته لسنة 1888، وطبعة حجرية نادرة أهداها نابليون للمكتبة المصرية، ومؤلف الروضة السنية في الطب السياسي لحضرة الأفندي إبراهيم حسن خواجا يعود في طباعته لسنة 1876، وفي رفوفها نسخة قديمة من الإنجيل مطبوعة في لندن سنة 1671.
كذلك مازالت المكتبة تحتفظ بالأعداد الأولى من المجلات العربية بخاصة مجلة النفائس العصرية المطبوعة بالقدس سنة 1910، وطبعة قديمة تتناول العصر العباسي بكتاب لمؤلفه الإتليدي بعنوان "إعلام الناس بما حدث للبرامكة مع بني العباس".
جدير ذكره أن المكتبة تعد فضلاً عن كونها محج مثقفي عمان، واحدة من أكثر المتاحف المتنقلة أيضاً، فالمخطوطات العثمانية القديمة تجدها بين رفوفها، وكذلك طبعات "بولاق الأميرية" في عهد نابليون والتصوف الإسلامي، وهي تزخر بكتب الأدب والثقافة والسياسة والطب وأدب الأطفال ومخطوطات من أيام الانتداب البريطاني والفرنسي على المنطقة العربية، وهنا يلفت المعايطة أن عدداً من سفراء بريطانيا وفرنسا طالما توافدوا عليه واشتروا من عنده كتباً صدرت بتلك الفترة من (1920-1950).