لم تكن الثورة التونسية التي اندلعت في السابع عشر من ديسمبر عام 2010م بعد وفاة الشاب الجامعي العاطل عن العمل محمد البوعزيزي الذي أضرم النار بجسمه في نفس اليوم تعبيرًا عن غضبه على مصادرة العربة التي يبيع عليها من قبل الشرطية فادية حمدي هي الثورة العربية الأولى في مواجهة الدول العميقة التي ضربت جذورها في التراب العربي منذ عقود من الزمن، وسخرت الأموال العربية لزيادة صلابة وقوة الأنظمة في تلك البلاد. بل إن قطاع غزة كان الأسبق في انطلاق شرارة التغيير.
بدأت الحكاية من قطاع غزة في العام 2007م، وتحديداً في الرابع عشر من يونيو حينما سيطرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بعد الاستعانة بجناحها العسكري "كتائب القسام" على قطاع غزة، وجاءت السيطرة بعد أقل من عام على فوزها بالأغلبية في الانتخابات التشريعية التي جرت في الخامس والعشرين من يناير عام 2006م، وهو فوز لم يترك لها الآخرون وبخاصة حركة "فتح" حرية العمل بمقتضاه لتشكيل حكومة وإدارة شئون البلد.
جاءت سيطرة "حماس" على غزة لتُعيد صياغة التفكير لملايين المواطنين العرب نحو البحث عن أفق يقضي على البطالة المنتشرة في بلادهم والحرية المحرومون منها بفعل ضغط أنظمة عربية بالمفهوم، لكن أساليبها تتماشى ومخططات أنظمة غربية كانت سعيدة بغياب الدور العربي الحقيقي والمؤثر عن الخارطة السياسية العالمية. ولما شاهد العرب تجربة غزة الناجحة في إزاحة أنظمة عملت لغير مصلحة شعوبها استلهموا التجربة منها، ومضوا باحثين عن حقوقهم غير آبهين بدماء قد تخضب تراب بلادهم. مضوا يرددون أبيات الشاعر أبي القاسم الشابي:
إذا الشعــب يومــا أراد الحيــاة فلا بـــد أن يستجيب القــدر
ولا بـــد لليــــل أن ينجلـــي ولابـــــد للقيـــــد أن ينكســـــر[1]
والواضح من خلال هذه الثورات التي انطلقت في العديد من البلدان العربية وتبع بعضها الآخر، تعدد مطالبها، فليس الاقتصاد وحده ما دفع المواطن العربي للخروج إلى الشوارع والمجازفة التي قد تكلفه حياته برصاص أنظمةٍ لم ترحم شعوبها على مدار عقود من الزمن.
وهو ما يذهب إليه الدكتور جمال حمود في مقال له حيث يقول: "إن هؤلاء الشباب عندما خرجوا إلى الشارع لم يكونوا مدفوعين فقط بالظروف الاقتصادية السيئة، من فقر وبطالة وتضخم، وعجز في الميزانية، وارتفاع المديونية، وتدهور القدرة الشرائية، وتراجع التغطية الصحية والحماية الاجتماعية، واحتكار فئة قليلة للثروة في مقابل بقاء شرائح واسعة على حالة من الإفلاس الدائم... إلخ، إذ إن هذه العوامل على أهميتها لم تكن هي العوامل الوحيدة التي ساعدت على اندلاع الثورات العربية، وإنما هنالك عوامل سياسية وروحية أخلاقية وثقافية، تتعلق في مجملها بقيم الكرامة والعزة والحرية والاعتراف والمساواة والعدالة، التي تم تدنيسها واستبدالها بقيم مادية تُستمد من السوق، وخاصة بعد انتشار الظلم والتفاوت والفوقية، وإغلاق الحياة السياسية، واحتكار الأحزاب الحاكمة للشأن العام، وهيمنتها على دواليب الدولة، وانفراد فئة قليلة من أصحاب النفوذ بالرأي وإقصاء الرأي الآخر مهما كانت قيمته.[2]
إن هذه المسألة للتغيير لا أنطق بها وحدي، بل إن دوافع مختلفة أدت إليها، ولعل من بينها شعور العديد من الفئات في مجتمعاتنا العربية أنها لا تحصل على حقوقها المكفولة قانوناً كما تحصل الفئة الحاكمة في تلك البلاد، وهو مؤشر آخر كان كفيلاً بإشعال فتيل لم تنجح "الأنظمة العميقة" على إخماده فوراً.
ولعل هذه النظرة هي التي دفعت دهام حسن للتعبير عنها بمقال صحفي تحدث من خلاله عن التغيير في الوطن العربي، ليخلص إلى "أن من مقتضيات الإصلاح الإقرار بمبدأ المواطنة التامة أولا، والمساواة أمام القانون، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين، هذا الأمر بالطبع يشرعن للتعددية الفكرية، بعيدا عن ممارسة القسر والإقصاء والعنف، وتوسل السبل السلمية للنضال، فلا داعي حينها أيضا لحالات الطوارئ، مهما تذرعت السلطة من مبررات، ولا حاجة لحالات المراقبة والملاحقة والاعتقالات الكيفية".[3]
لماذا اشتعلت الثورات؟؟
ولا يمكن الحديث عن الثورات في الوطن العربي التي اصطلح المراقبون والباحثون على وصفها بـ" ثورات الربيع العربي"، بمنأى عن الخوض في الأسباب التي تراكمت مع بعضها البعض وشكلت الحاضنة الدافئة لإطلاق شرارة تلك الثورات في الدول العربية المختلفة، وإن اختلف تاريخ اشتعال تلك الثورات التي لا يزال بعضها متواصل وتم حرف الآخر في الوقت الراهن. ويمكن حصر تلك الأسباب في التالي:
1- غياب العدالة: إن شعور أفراد المجتمعات العربية بغياب العدالة في مختلف شؤون حياتهم دفعهم نحو الثورة، فالموارد الاقتصادية في البلد تكون حصرية للأنظمة الحاكمة بهدف تثبيت أركانها، وباقي الحقوق فهي الأخرى تائهة في أماكن بعيدة عن أفراد المجتمع التي من المفترض أن تكون مخصصة لهم أسوة بأبناء القادة والحكام في ذلك البلد. وهذا ما يؤكد بأن الخروج الرافض للأنظمة العربية إلى الشوارع كان بهدف تحقيق مطالب فردية التقت فيما بينها وشكلت انتفاضة، وهو أمرٌ ذهب إليه أوليفييه روا في مقاله "التغيير في الوطن العربي"، حيث يقول "ما أتى الربيع العربي بدايةً بشيءٍ يمكن عدّه على وجه الخصوص عربياً أو إسلامياً؛ فالمتظاهرون كانوا يهتفون للكرامة، والديمقراطية الانتخابية، والحكم الصالح، وحقوق الإنسان. وبخلاف الانقلابات الثورية والتغيرات الراديكالية بالعالم العربي خلال الستين عاماً الماضية؛ فإنّ المتظاهرين السلميين هؤلاء ما كانوا معنيين بالرمزيات الشمولية مثل الشعب والأمة الإسلامية أو الأمة العربية؛ بل كانوا مهتمين بخاصةٍ بالحقوق الفردية المتعلقة بالمواطنة"[4].
ويؤكد المقال العلاقة التبادلية بين الفساد والفقر، حيث يكون الأول سببا للثاني من خلال إعاقته للنمو الاقتصادي، مما يؤثر على مستويات ونسب الفقر بالمجتمع. وتحدث تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان بعنوان "مشهد التغيير في الوطن العربي.. ثلاثون شهرا من الإعصار" عن جزء مما تحفل به المصادر الدولية عن تكلفة الفساد بالوطن العربي، حيث تقدره بعض المصادر برقم يتراوح بين ثلاثمائة وأربعمائة مليار دولار سنويا، وقدر التقرير الأموال المهربة نتيجة الفساد من مصر وحدها بثلاثة أضعاف الموازنة، بينما يقدر المؤتمر الوطني الليبي أن هناك ستين مليارا لا يعرف أحد عنها شيئا[5]. وفي هذا السياق يتحدث المفكر العربي عزمي بشارة في دراسة له "حول الثورة وقابليتها"، فهو يعتقد بأن الجماهير تقوم بالثورات في ظل الأوليغاركية عندما تتملكها فكرة أنها لا تعامل بشكل عادل، وتتملكها الفكرة لأن لديها شعوراً مسبقاً بأنها متساوية، ويفترض بالتالي أن يعامل أفرادها كأفراد متساوين... ويحرك افتراض التساوي السعي لإقامة نظام ديمقراطي، أو يدفع للقبول بنظام ديمقراطي قائم. وهذا ما يفسر العلاقة بين قيام الجماعة والانتساب إليها والعضوية المتساوية فيها، وبين فكرة الديمقراطية كما انتقلت إلى العصور الحديثة مع الوطنية[6].
2- الطفرة الشبابية: لقد أسهمت عدة عوامل في ظهور الانتفاضات والثورات الشعبية في العالم العربي، علي رأسها أن الشباب (الفئة العمرية بين 15 و29 سنة) يشكل أكثر من ثلث سكان العالم العربي بما يُعرف بالطفرة الشبابية. حيث تعاني تلك الفئة أشكالا متعددة من الإقصاء والتمييز جعلتها ساخطة على الأوضاع الراهنة. وبالرغم من الثروات البشرية والطبيعية الهائلة التي تتمتع بها المنطقة العربية، فإنها شهدت في العقود الأخيرة خللا كبيرا في منظومة توزيع الثروة، حيث استأثرت نخب ضيقة ذات ارتباط وثيق بالسلطة بمقومات الثروة، بينما همشت قطاعات واسعة من المجتمعات العربية.[7]
3- تحول التفكير لدى الأجيال العربية: بدأ هذا الجيل يعي أن الخطاب الذي قُدم له في المدرسة والشارع والإعلام لا يتناسب وواقعه واحتياجاته وحالة بحثه عن مستقبله. في كل شيء، عاش جيل الألفية الجديدة قلق الصدمة، وهو ما دفع بعض أفراده إلى التمرد عام 2011م.[8]
4- الحاجة لديمقراطية حقيقية: ترى فلورنس غوب، مسؤولة برنامج الشرق الأوسط بمعهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية في حديثها عن مستقبل التغيير في الوطن العربي أن وجهة النظر الأوروبية ترى بأن التغيير في العالم العربي هو نتاج للأزمات، سواء كان تغيير الأنظمة أو حياة الناس، مؤكدة أن هناك أربع خيارات هي: تأسيس الديمقراطية، أو ديمقراطية انتقالية، أو امكانية العودة إلى الديكتاتورية، أو مواصلة الحالة الديكتاتورية، مشيرة إلى أن الناس في العالم العربي يتطلعون إلى نموذج الثورة الفرنسية التي تطلبت 100 عام لتؤتي ثمارها، للقول إن ذلك ما سيكون عليه الحال في الدول العربية، وهذا خطأ، لأن التجارب مختلفة.[9]
5- التمييز وغياب عوامل الاستقرار: شهدت الدول العربية في السنوات الأخيرة تصاعد الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، خاصة في تلك الدول التي تتمتع بقدر عال من التنوع العرقي والديني والإثني. وقد نتجت هذه الظاهرة عن عدة عوامل مختلفة، في مقدمتها قيام النظم السلطوية لعقود طويلة بحجب الحريات الثقافية والدينية، وبحرمان جماعات مختلفة من حق التعبير بحرية عن هويتها وعن ثقافتها وعن عقيدتها.[10]
6- تصاعد دور قوى خارجية وإقليمية: في السنوات الأخيرة، دعمت قوى دولية وإقليمية مبادرات تخل باستقرار النظام العربي القائم وبالنظم السلطوية في المنطقة، خاصة تلك التي تبنت مواقف مناهضة للولايات المتحدة، وتجلى هذا التوجه في سياق التدخل الأمريكي في الصومال، والاحتلال الأمريكي في العراق، ودعم مبادرات الانفصال في جنوب السودان، ومحاولات عزل حماس في قطاع غزة، وحزب الله في لبنان. وحتى النظم "المعتدلة" تعرضت لضغوط خارجية متزايدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والربط بين "الإرهاب" وغياب الحريات لإدخال إصلاحات سياسية، وإطلاق الحريات السياسية والمدنية.[11]
7- التطور في وسائل الاتصال والإعلام: لقد شكل التطور الكبير في عمل وسائل الإعلام وسهولة التعامل معها من قبل الأفراد أداة رافعة لإشعال ثورات الربيع العربي والترويج لها لإيجاد مساحة للتعامل معها من قبل وسائل الإعلام التقليدية مثل الفضائيات وباقي وسائل الإعلام. وقد لجأ الشباب إلى شبكات التواصل الاجتماعي وإلى المدونات للتواصل مع بعضهم بعضا، وللتعبير عن عدم رضائهم عن الأوضاع القائمة، وكذلك لتنظيم فعاليات احتجاجية نجحت في كسر حاجز الخوف الذي فرضته النظم العربية على شعوبها لعقود طويلة.[12]
الثوار بعيون أخرى:
منذ اندلاع الثورات في العديد من الدول والعواصم العربية ونتيجة الإرث الفكري الذي كان سائداً بقوة الأنظمة الحاكمة، فقد انقسمت الشعوب والمفكرون أو القادة على حد سواء، فمنهم من رأى "أي الثورات" بأنها "رجسٌ" ومنكر يجب الابتعاد عنه، ومنهم من أيد ذلك، وكانت وجهات نظرهم بخصوص انتفاض الجماهير على حكامها مستندة على أفكار ومعتقدات آمنوا بها على مدار سنوات طويلة. ويمكن توضيح النظرة من الثورات من خلال الأشكال التالية:
1- رفض الخروج على الحاكم: صورت القوى المحافظة المؤيدة لأي نظام قائم، أي خروج على أنه فتنة "والحديث للمفكر العربي عزمي بشارة". وتحمل الفتنة معاني معيارية سلبية مثل الفوضى الاجتماعية وحالة الخصومة العنيفة والمستدامة بين مجموعات سكانية، بمعنى الحرب الأهلية في عصرنا. وهذا ما تفعله القوى المحافظة (بمعنى المحافظة على نظام القائم) في عصرنا أيضاً، إذ تعتبر أي ثورة فتنة بالضرورة...[13]
2- تأييد المطالب الشعبية: إن أقرب كلمة إلى مفهوم الثورة المعاصرة هي "الخروج"، بمعنى الخروج لطلب الحق. فالخروج هنا بدايةً ليس خروجاً على الجماعة، ولا حتى على السلطان بل هو "خروج إلى"، خروج إلى الناس طلباً للحق. إنه خروج إلى المجال العام، وفي هذه الحالة طلباً لإحقاق حق أو دفع ظلم. وهو أولاً خروج من البيت إلى الشارع أو الميدان. وهذا يعني مغادرة الصبر والشكوى والتذمر وحالة عدم الرضى في الحيز الخاص، وحملها إلى الخير العام. إن الفرق بين النقد والتذمر، أو بين الشكوى والفعل السياسي، هو كالفرق بين القعود والخروج. وهو ثانياً خروج على قواعد اللعبة وعلى القوانين السارية وعلى الشرعية القائمة (...) هذا هو المشترك بين الخروج بالمعنى المستخدم في التاريخ الإسلامي والثورة بالمعنى الحديث.[14] ومن هنا جاء تأييد بعض الجماعات والأحزاب السياسية في البلدان العربية لمطالب الثورات الشعبية التي جرت في بلادهم.
3- العسكر وسحب البساط: لقد ثبت في حالة الثورات العربية، أنه من الصعب الاستيلاء على الحكم من دون انشقاق الطبقة الحاكمة، وانضمام الجيش أو قسم منه على الأقل إلى الثوار. وحيث لم يحصل ذلك، ظلت السلطة قلعة حصينة مسلحة وعصية على الاختراق، مهما غادرها بعض موظفيها ومسئوليها، وأدى ذلك إلى تحول الثورة إلى حركة مسلحة والاستعانة بالتدخل الخارجي كما في حالة ليبيا.[15] ولذلك نجد أن العديد من الأنظمة العربية العميقة التي سيطرت على شعوبها بقوة السلاح على مدار عقود من الزمن أدركت حقيقة هذه المعادلة، فأصدرت توجيهاتها لجيوشها بهدف سحب البساط من تحت أرجل الثوار وايهام الثوار بأن العسكر يقف في خندقهم، حتى تبرد عاصفة الثائرين ويقوم العسكر بتسليم البلاد لقيادة الدولة العميقة كما حدث في مصر مثلاً.
مستقبل الثورات العربية:
إن حالة الغضب التي اندلعت في الوطن العربي دفعت الكثيرين للبحث فيها وأسباب اندلاعها، بل والبحث عن تعريفات مناسبة لها، وهو ما اختلفوا عليه لاختلاف البيئة العربية التي نشأت فيها الثورات من مجتمع لمجتمع آخر، وخلال البحث وقع بصري على تعريف أطلقه المفكر عزمي بشارة بقوله "الثورة هي تحرك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائمة، أو خارج الشرعية، يتمثل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة"[16]. وإن كان "بشارة" اصطلح على الثورة بهذا المصطلح، إلا أنه وفي ذات الدراسة اشترط إنجاز الثورة لأهدافها حتى يتم تسميتها بمصطلح "ثورة"، ويقول عن ذلك "الثورة إذا بدأت لا بد من أن تصل إلى هدفها. ومن هنا نتجنب أن نسمي الثورة غير المكتملة ثورة، بل نسميها تمرداً أو انتفاضة، وقلما نسمي الثورة الفاشلة ثورة. فالثورة في نظر المستخدم في عصرنا تحمل دلالة الحتمية أو النهاية المحتومة. وغالباً ما يسمى العصيان أو التمرد ثورة، بعد أن تلوح بشائر تحقيق الهدف. ولكن هذا ليس اشتقاقاً علمياً من أي نوع"[17]. لكن وأمام هذه الحقائق المعلومة بالضرورة فلا بد من تقسيم الأمور لتتضح مآلات الثورات العربية خلال المرحلة المقبلة، ويمكن حصر ذلك في النقاط التالية:
أولا/ الوضع الراهن: إن ما يجري في الوطن العربي هذه الأيام يجعل الإنسان يُصاب بالحيرة مما يحدث، بل وقد يصل التفكير بالإنسان لمرحلة الإحباط واليأس من إمكانية حدوث نهوض بالواقع والخروج من بوتقة الدول العربية العميقة، ولعل هذا ما يحاول توصيفه العديد من المتخصصين ومنهم: الدكتور جمال حمود في مقال منشور له حيث يختصر المشهد بقوله "يمكن هاهنا العودة إلى ما قاله نجيب محفوظ في روايته (ثرثرة فوق النيل) من كون الثورة يخطط لها الدهاة وينجزها الشجعان ويغنمها الجبناء، وإذا كان العنصر الثاني من المقولة ينطبق على الثورات العربية وخاصة الشجاعة التي تحلَّى بها الشباب والإرادة الصلبة التي تسلَّح بها الشعب في التعامل مع التطورات في تونس وفي مصر وفي غيرهما، فإن العنصر الأول الخاص بالتخطيط والدهاء غير مؤكد ما إذا كان للمشتغلين بالفلسفة قسط فيه؛ لأنها كانت ثورات مفاجئة ولم يتوقعها أحد، أما بالنسبة للقسم الثالث فإننا لا نتمنى للفلاسفة أن يكون لهم حظ فيه"[18]. وهو أمرٌ لم يختلف عليه شفيق الغبرا أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت "مع الثورات العربية وقع تفاؤل كبير بالمستقبل العربي، وبإمكانية أن يعم الإصلاح وأن يتم التعلم من دروس المرحلة في كل الأقطار العربية، ثم جاء الصراع السياسي الذي تلى الثورات بهدف ملء الفراغ ثم القمع بعد ذلك (الثورة المضادة) ليخلق حالة من الإحباط شملت معظم الجيل الشاب".[19]
ثانيا/ معوقات التغيير:
المتابع لبلاد الربيع العربي يجد بأنها تعيش تعثراً واضحاً في العديد من العواصم العربية، أو أنها تسير ببطء نحو تحقيق المطالب الشعبية التي خرج في سبيل تحقيقها الملايين، ويمكن حصر تلك المعوقات في العديد من المسائل التي تطرق إليها العديد من المتخصصين ومنهم دهام حسن ضمن مقاله "الإصلاح والتغيير في العالم العربي"، فهو يقول "إن معوقات الإصلاح الداخلي في العالم العربي عديدة، منها هشاشة بنية الدولة العربية، العقلية القبلية السائدة، ونمو روح الطائفية، ضعف التجربة وحداثتها بالنسبة للنظم العربية، وافتقارها لتراكم التجربة، النظر إلى الغرب كعدو محض فحسب..! دون محاولة الاستفادة من بعض تجاربه، التنكر لحقوق الأقليات وبالتالي إخراجها من خانة المساواة والمواطنة الحقيقية، فشل التنمية في سائر المجالات (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية).. الفشل في مجالات الدمقرطة والحداثة، عجز النخب من تعبئة الجماهير خلف عمليات الإصلاح والتغيير، أو ربما اشتداد النظم من ملاحقة النخب، أو حتى احتوائها إما بالإخافة والتضييق والملاحقة، أو ببعض الإغراءات…".[20]
ثالثاً/ نظرة استشرافية على المستقبل:
لكن وعلى الجانب الآخر، ورغم حالة الإحباط التي تسيطر على العديد من الأطراف في سبيل إنجاز استحقاقات انتفاضات الشعوب العربية، فهناك طرف آخر يمتلك أملاً كبيراً في كون هذه الثورات لن تذهب أدراج الرياح وسوف تستعيد قوتها وتقوم بالانتفاض مرة أخرى في وجه الأنظمة الحاكمة، غير أن المختلف هذه المرة أن الشباب العربي لن يقبل بإزاحة رؤوس هذه الأنظمة، وإنما سيعمل على اجتثاث تلك الأنظمة من جذورها، ويضرب الدول العميقة ضربة رجل واحد يقضي عليها بالكامل ويسعى لإنجاز مطالبه العادلة في الحرية والعدالة الاجتماعية. فالسيد شفيق ناظم الغبرا يؤكد هذه النظرة في مقاله" بين العنف والتغيير السلمي في العالم العربي" وأننا في الطريق إلى صراع سياسي واجتماعي أكثر انتشاراً وعمقاً في الساحة العربية، وذلك في ظل تحولات فكرية وتسييس شرائح شبابية جديدة[21]. وتدليلاً على هذا الأمر كذلك، فإن ميشيل دن تذهب في رؤيتها حول ما جرى في تونس "أول بلاد الربيع العربي"، إلى أن الطفرة في أعداد الشباب التي يتخوّف منها علماء الديموغرافيا ومحلّلون آخرون منذ عقدَين، هي قنبلة سياسية موقوتة. وهي (تونس) دحضت في الوقت نفسه المقولة الرائجة بأنه لا يمكن إطاحة نظام سلطوي إلا في بلد يملك معارضة سياسية متماسكة ذات قيادة قوية[22]. وهو أمر كذلك اتفق عليه العديد من الباحثين والمختصين في ندوة "مستقبل التغيير في العالم العربي" التي نظمتها فضائية الجزيرة حول التغيير بالوطن العربي، فقد اتفق المتدخلون في الندوة على أن الانتكاسة للثورات العربية ليس نهاية المطاف، بل قد تكون بداية لمرحلة جديدة تحمل بذور التفاؤل، مثلما عكسه عزوف المصريين عن التوجه لصناديق الاقتراع على رغم التخويف والتهديد الذي يعانيه الشعب[23]. وأختم الحديث على ثورات أشغلت الباحثين والمفكرين بما يذهب إليه المفكر العربي عزمي بشارة بقوله "مع بدء الأزمة السياسية يتصرف الأفراد باغتراب عن النظام السياسي، وعندما تتعمق الأزمة يتحول الاغتراب إلى تيارات سياسية مؤيدة للتغيير"[24].
قائمة المراجع:
1- أبو القاسم الشابي، ديوان الحياة، قصيدة لحن الحياة.
2- د. جمال حمود (أستاذ محاضر، رئيس قسم الفلسفة، جامعة قسنطينة، الجزائر)، مقال "الفلسفة في العالم العربي بين مطالب التغيير ومصاعب الواقع"، مركز آفاق للدراسات والبحوث، بتاريخ 7-2-2013م.
3- دهام حسن، مقال "الإصلاح والتغيير في العالم العربي"، موقع منبر الحرية، 4 فبراير/ شباط 2011م.
4- أوليفيه روا، (أستاذٌ في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا. آخر كتبه: الجهل المقدس، زمن دينٍ بلا ثقافة 2009)، مقال "التغيير في الوطن العربي"، مجلة التسامح، عدد 37، 2012م.
5- المنظمة العربية لحقوق الإنسان، تقرير "مشهد التغيير في الوطن العربي.. ثلاثون شهرا من الإعصار"، تحرير محسن عوض، ط: الأولى، يوليو/ تموز 2013م.
6- د. عزمي بشارة، كتاب "في الثورة والقابلية للثورة"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، آب/ أغسطس 2011م.
7- د. دينا شحاته و مريم وحيد، "محركات التغيير في العالم العربي"، دراسة منشورة، مجلة السياسة الدولية العدد184، إبريل 2011م.
8- شفيق ناظم الغبرا، (أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت)، مقال "بين العنف والتغيير السلمي في العالم العربي"، صحيفة الحياة العربية، عدد 23-10-2014م.
9- فلورنس غوب، ندوة "مستقبل التغيير في العالم العربي"، منتدى الجزيرة الثامن، 2014م.
10- ميشيل دن، "ما أثبتته تونس- ودحضته- حول التغيير السياسي في العالم العربي"، مقال منشور على مجلة "صدى الإلكترونية"، بتاريخ 18-1-2011م.
1
شارك
التعليقات (1)
فادى منصور
السبت، 09-05-201501:34 م
مجرد السعي نحو القمة يعطى المرء احتراما لذاته وثقة بإمكاناته يتيح له فرصة النظر لمسافة أبعد من غيره بارك اللهفيك و في قلمك النابض بالخير ، حقّا لقد أبدعتِ من خلال تلك السطور ...