منذ عقود طويلة، ومصر تعرف
المسرح السياسي، لا سيما في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث ظهر جيل من الكتاب، الذين تناولوا الصراعات السياسية، وانعكاساتها على المجتمع في مشاهد إنسانية متنوعة، تتأرجح بين المأساة والملهاة، وفي مقدمتهم سعد الدين وهبة ونعمان عاشور.
لكن
مصر شهدت في الأعوام الأخيرة، تراجعا كبيرا في تقديم أعمال مسرحية ذات مغزى سياسي، لا سيما على مسرح الدولة التابع لوزارة
الثقافة، وهو ما بدا جليا، في السنوات الخمس الأخيرة، حيث قدم المسرح قرابة 32 عملا، يكاد جميعها لا يخرج عن الطابع الكوميدي الاجتماعي.
ويستثني من التراجع، بعض الأعمال التي تناولت الوضع السياسي والاجتماعي بشكل
ساخر، كمسرحية "قهوة سادة"، للمخرج خالد جلال، ومسرحية "1980 وانت طالع"، للمخرج محمد جبر، والتي منعت من العرض على مسارح الحكومة، في شهر حزيران/ يونيو الماضي.
ويعتبر النقاد مسرحية "1980 وانت طالع"، "الأجرأ" خلال السنوات الأخيرة، في تناول موضوعات سياسية بشكل ساخر، حيث احتوت نقدا مباشرا للسلطة الحاكمة.
ومن أبرز الجمل التي احتوت عليها المسرحية "هو أنا علشان أبقى رئيس جمهورية، لازم أدخل الكلية الحربية؟ هو مبارك هيعمل إيه في الآخرة من غير فريد الديب؟ ليه رجعنا لما نتكلم
سياسة في المترو بنوشوش بعض؟".
وعن المنع من العرض على مسرح الدولة، يعلق محمد جبر مخرج مسرحية "1980 وانت طالع" قائلا: "لا ننتظر رعاية من مسرح الدولة، فالجمهور أصبح يعرفنا حاليا، كما أن الدولة لا توافق على ما نقدمه، لأننا نقدم السلبيات الموجودة في المجتمع".
من جهته، يرى الفنان المصري فتوح أحمد، رئيس البيت الفني للمسرح، أن استحواذ الجانب الكوميدي على الأعمال المسرحية في الفترة الأخيرة لا يلغي دوره السياسي، مشيرا إلى وجود نوع من المسرح السياسي الساخر يمكن تسميته "الكباريه (ملهى) السياسي".
ويقول رئيس البيت الفني للمسرح، في حديثه للأناضول إن "الكباريه السياسي، نوع جديد من المسرح، يعتمد بشكل أساسي على السخرية والفكاهة، ويحقق قبولا أكبر لدى الجمهور من المسرحيات المعتمدة على الإسقاط التاريخي، لا سيما أن الأعمال السياسية الخالصة قد تتعرض للمنع".
ومنذ زمن ليس بالقصير، ومصر تعرف ظاهرة منع المسرحيات ذات الطابع السياسي، مثال ذلك، مسرحية "الخديوي" للمؤلف فاروق جويدة، بطولة محمود ياسين، إنتاج 1993، والتي عرضت منذ 18 عامًا على المسرح، وبعد تسجيلها للعرض على شاشة التلفزيون منعتها الجهات الرسمية، آنذاك، لما اعتبرته تحفيزًا على الثورة ضد الفساد، بحسب ما نشر في وسائل إعلام حينها.
وتأتي مسرحية "السبع سواقي"، التي أُنتجت عام 1972 للكاتب الشهير سعد الدين وهبة، وتتناول أسباب هزيمة حزيران/ يونيو 1967 من قبل إسرائيل، كواحدة من أكثر أعمال المسرح السياسي، التي تعرضت للمنع لفترة طويلة، حيث شهدت تلك الفترة تضييقا على حرية الرأي والتعبير، بدعوى أن البلاد تعيش فترة حرب، بحسب مؤرخين.
وتنوعت آراء المسرحيين والنقاد الذين تحدثت إليهم الأناضول، حول ظاهرة تراجع المسرح السياسي في مصر، بين من يرى أن النمط القديم الذي يحمل إسقاطات تاريخية أصبح غير ملائم للعصر، وبين من يرى أن الواقع السياسي والاجتماعي لا يسمح برواج هذا النوع من المسرحيات.
المخرج خالد جلال، قال إن "الأعمال السياسية بالشكل القديم لا تلقى رواجا كبيرا عند الجمهور، ولا بد من إدخال بعض الاسكتشات (الفقرات) الاجتماعية والكوميدية الساخرة".
وأضاف جلال: "بخصوص تقديم المسرح السياسي بشكله المتعارف عليه في الخمسينيات، من الممكن تقديمه بشكله التقليدي، ولكنني فنان كوميدي أقدم أعمالا ساخرة، وليست سياسية بشكل مباشر".
وبحسب الممثل الكوميدي المصري، سامح حسين، فإن "الابتعاد عن السياسة الهدف منه تجنب الصدام مع السلطة، ومحاولة تعويض ذلك بالإسقاطات غير المباشرة".
ويقدم سامح حسين، حاليا "أنا الرئيس"، وهي مسرحية ساخرة مستقاة من الأدب الروسي، نشرت أول مرة عام 1836، وترصد قضايا الفساد المؤسسي.
وقال حسين، للأناضول: "المسرح السياسي تواجهه دائما صدامات مع الدولة، وقدمنا من خلال (أنا الرئيس)، معالجة ساخرة للفساد، الذي يشهده المجتمع المصري، والأوضاع الصعبة، التي يواجهها الشباب، وإسقاطات على الفساد الذي يشهده القطاع العام".
من جانبها، اعتبرت الناقدة ماجدة موريس "المسرح مثله مثل باقي الأشكال الفنية، التي تجنبت السياسة، واتجهت للأعمال الكوميدية الخفيفة، التي تلقى رواجا، وتحقق مكاسب مادية وتجذب الجمهور".
وأشارت موريس، إلى أن "تاريخ المسرح العربي مليء بالأعمال السياسية، منها ما تم منعه، ومنها الروايات التي يتم تداولها حتى الآن، وتحمل إسقاطات على حقب تاريخية بعينها".