أحتفظ منذ سنوات، بقصاصة لمقال "قديم" للكاتب السعودي الأستاذ فهد بن سليمان الشقيران، بعنوان "قراءة في ظاهرة الألسنة المتدلية" تناول فيه ظاهرة ممارسة اللغو واللقلقة، واعتبار كل متحذلق يجيد التلاعب بالألفاظ مفكرا ومثقفا جهبذا.
وقد وضع فهد الشقيران يده على موضع الجرح، عندما نبه إلى أن الرواية الشفهية مازالت عندنا أداة نقل واتصال مهمة وأساسية، بمعنى أن من يعتبرون أنفسهم من أهل الرأي والفكر، لا يهتمون بتدوين وتوثيق ما يقولون. وقد اختلطت علينا الأشياء واشتبه البقر، حتى صرنا نعتبر كل ثرثار يعتلي منبرا ويرغي ويزبد واللعاب يتطاير من فمه "فارسا"، ليس فقط للكلمة، بل للحجة والمنطق، ذلك أننا جعلنا من طق الحنك مهنة، وكل ذي صوت زاعق يصبح مطلوباً في وسائل
الإعلام و"بتاع كله".
أنظر بعض قنواتنا الفضائية – ولا أتكلم هنا عن تلك المتخصصة في العهر الإلكتروني، بل تلك التي يفترض أنها رصينة، تستضيف هذه القنوات على مدار العام شخصيات معينة تجيد فن الاستفزاز والتحريض، وبالضرورة، التهريج، شخصيات قاموسها محدود وأفكارها محدودة، تجترها شهرا بعد شهر، ولكنها تعرف ما يود العوام سماعه، وبمرور الوقت يزدادون براعة في صناعة اللغو والاستحواذ على التصفيق.
مصيبتنا هي أننا مازلنا نستخدم معايير ومقاييس سوق عكاظ، لتقييم الساسة والعلماء والمفكرين وأهل الثقافة عامة: الأجهر صوتا والأطول يبقى في الصف الأول / ذو الصوت الخافت والمتواني يبقى في الصف الثاني (استعرت هذه التعابير من مسرحية "الحلاج" للشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور). وهكذا صار الكلام الرنان الأجوف "يؤكل" بقلاوة وليس مجرد خبز.
المهرجون الغوغائيون صاروا مطلوبين على نحو خاص في وسائل الإعلام التي تعمل تحت جزمة الحاكمين بأمرهم، ليقدموا خطابهم الشعبوي الأجوف الذي يدغدغون به حواس السابلة والدهماء. وبالمقابل لم يعد للكلمة المكتوبة سوق رائجة، فطالما هناك من يقدم لك وجبة كلامية سريعة أو "تيك أواي" لا تسبب لك إجهادا عقليا، فما حاجتك إلى الكلام المكتوب الذي يتطلب إعمال الفكر واعتزال الناس (طلبا للهدوء) ثم الهضم والاستنتاج؟
لا داعي لوجع الرأس هذا، لأن تجار الكلام يقدمون لك وجبات كلامية مسبقة الهضم. نعم، فهذا كأن يقوم شخص ما بمضغ بعض الطعام ثم إخراجه من فمه ووضعه في حلقك، لينزل جوفك مباشرة دون مجهود من جانبك! إخخخخ؟ قرف؟ ولكن هذا بالضبط، ما يتعرض له من يصفقون ويهللون لكل صاحب حلقوم وبلعوم واسعين. حتى بعض الساسة والحكام يتعاملون مع الشعوب بعقليات سوق عكاظ. وهكذا ظهرت في
العالم العربي المعلقات النثرية، وهي الخطب التي تستغرق ما بين ساعتين إلى خمس ساعات، وجميعها رغوة أو زبد ليس فيه ما ينفع الناس. ليس مهما. فالمهم هو أن الناس تشتري البضاعة الشفهية طالما هي حبلى بالطباق والجناس، حتى لو صدرت من تلاميذ الوسواس الخناس.
توقف الأستاذ فهد الشقيران طويلا عند ظاهرة رواج الشعر الشعبي/ العامي، وهو مثلي لا يرى ضيرا في إعجاب الناس بالشعراء الشعبيين المجيدين، أصحاب المواهب الحقيقية، ولكنه لا يفهم لماذا يريد نصف السكان، أو بالتحديد نصف الشبان في السعودية أن يصبحوا شعراء، وكأن الشعر سلعة مثل صبغة الشعر تشتريها من راجو أو كومار أو كارفور، و "شخارم بخارم"، ثم يتقمصك شيطان الشعر، ويصبح من حقك أن تظهر على شاشات التلفزيون، وتهز المنابر ثم تنتج أشرطة كاسيت وسي دي ودواوين مطبوعة وتصبح مشهورا و "تطلع يا مسعد عليك الغناوي/ وتحبك مشيرة وبنات الجزيرة"، كما قال الشاعر الصعلوك الراحل أحمد فؤاد نجم.
شخصيا أعتبر الشعر وجبة ضرورية في حياتي اليومية، ولا أحسب أنه يمر بي يوم واحد، دون أن اقرأ بضعة أبيات من الشعر ولو في صحيفة يومية، وأعتقد أن هناك شعرا بالعربية العامية جدير بالاحتفاء. فالشعر شعر وكفى، والمهم في تقديري – وتقديري لا يلزم أحدا – أن تكون القصيدة حلوة المعاني والمفردات وجميلة الإيقاع سواء بالعامية أو بالفصحى، ولكن قلة قليلة هي التي تستطيع كتابة قصيدة بمثل تلك المواصفات، ولو كان حب الشعر وحفظه عن ظهر قلب يجعل من الإنسان شاعرا، لكان صاحبكم هذا (شخصي) متنبي هذا الزمان. فقد قرأت شعر إيليا أبو ماضي كله وحفظت مئات الأبيات منه وأنا دون الـ 15، وانتقلت بعدها إلى المعري والمتنبي والبحتري وصولا إلى السياب ونازك والفيتوري وعبد الصبور ودرويش، وركبني الغرور في مرحلة ما وحسبت أنني "وصلت" وصرت قادرا على كتابة قصائد يتغنى بها المطربون، فكانت قصيدتي القصماء "من نارك يا جافي/ أنا طالب المطافي"، والقصيدة الجميلة تسمى عصماء، ولكن قصيدتي ذات السطر الواحد، تلك قصمت وأجهضت "موهبتي"، بفرمان من مدرس اللغة العربية الذي ضبطني بالجرم المشهود، فاستحقت لقب "قصماء".
من الحقائق العلمية الثابتة أن نسبة جمال الصوت بين الرجال أعلى منها بين النساء، ومقابل كل خمسة أصوات رجالية جميلة، يوجد صوت نسائي واحد جميل، (وأتحدث هنا عن جمال الصوت من حيث التنغيم والتطريب، وليس الدلال الذي يخلخل أوصال الرجال)، والشواهد تقول: إن هناك شاعرا واحدا "عليه القيمة" بين كل مليون نسمة. ولهذا، فليس من المفهوم لماذا يجلس الناس في قاعات يصفقون لكل ناعق وزاعق ينثر أمامهم الشعير ويسميه شعرا.
والمصيبة الكبرى هي أن فيروس الاستشعار (أي توهم القدرة على قول الشعر) شديد التفشي بين الفتيات المراهقات، وجُل شعرهن الشعيري عن الحب، مع أن شعر الحب هو أصعب فنون الشعر، لأن "الأقدمين" قالوا فيه معظم ما يمكن أن يقال، ولا يستطيع أن يأتي فيه بجديد، إلا أصحاب القامات الشعرية الفارعة والمواهب البارعة.