تقول الرّواية: إنّ شابّا شجاعا كان يتجوّل في بعض شوارع الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فرأى نمرا يهاجم فتاة، فغامر بحياته ودخل في معركة ضدّ هذا الحيوان المتوحّش، ونجح في صدّه عن هدفه وتمكّن من قتله، لكنّه أصيب بجروح بليغة نقل على إثرها إلى المستشفى. وتناقلت وسائل الإعلام خبر بطولته، على صفحاتها الأولى ـ بالبنط العريض ـ وبعناوين مثيرة، دون أن تشير إلى هويته: بطل أمريكي ينقذ فتاة من مخالب نمر متوحّش. وفي اليوم التّالي علمت وسائل الإعلام أنّ “البطل المزعوم” ليس أمريكيّا. فكتبت: مواطن أوروبي يواجه حيوانا متوحّشا. فقيل لهم: إنّ “البطل” ليس أمريكيا، و”المواطن” ليس أوروبيا، بل هو سائح مسلم ساقته الأقدار لإنقاذ مواطنة أمريكيّة، وهذه بعض سجايا المسلمين. فتصدّر صحفَ الغد عنوان واحدٌ متفقٌ عليه برواية البيْتيْن : إرهابي يقتل نمرا أليفا كان يلاعب فتاة بريئة!!
دلالات هذه القصّة الافتراضيّة كثيرة، ولكنّ منشأها واحد، فقد
نجحت سياسة الفوضى الخلاّقة في صبغ الإرهاب باللون الإسلامي، فكأنّ دين السّلام
دين حرب وقتل واغتيال واغتصاب ورفض للآخر، وإدارة الظهر للتقدّم والحضارة والعلم،
والتربّص بكل من ليس على دين التّوحيد لخطفه أو قتله أو التنكيل به، وكل حادثة في
الأرض يقف وراءها “الإرهاب الإسلامي”. فإذا أثبتت التحريات أنّ الفاعل غير مسلم،
ولا صلة له بالمصحف ولا بالمسجد ولا بأهل القبلة، بل هو وثنيٌّ لم يسبق له أن سمع
بالتّوحيد ولم يصاحب في حياته سوى المقامر والمخامر والمزامر، قيل وقتها: هو شخص
مختلٌّ عقليّا يعاني من جفاء عاطفي ومن صدمة نفسيّة حدثت له بسبب لوثة عقليّة. ولا
يُعرف له نسبٌ وأن التحريات مستمرّة لكشف هويته الحقيقيّة !! وبعد حين من الدّهر
ينسى الناس هذا المعتوه وتُقبر القضيّة ولا يتناولها الإعلام بتوثيق ولا بتعليق.
بانتظار فرقعة إعلاميّة تعيد حكاية “الإرهاب الإسلاماوي” إلى الواجهة.
آخر حلقات هذا المسلسل الطويل الذي بُثّت أولى حلقاته، على
المباشر، يوم 11 سبتمبر بعمل إرهابي استعراضي، يذكّرنا بأفلام “الأكشن”
الهوليودية، تمّ بموجبه تفجير برجي التجارة العالميّة في قلب عاصمة السّلام
العالمي نيويورك بالرّحلة يو أي 175 وتوالي أحداث الرّعب الهيتشيكوكي باستعراض
أربع طائرات مختطفة في هجوم انتحاري في يوم ثلاثاء أسود، استهدف نقاطا حساسة منها
البنتاغون، ليسفر الهجوم عن سقوط زهاء ثلاثة آلاف قتيل وضعفها من الجرحى، والجهة المخططة
والمنفذة تنظيم القاعدة والمنفذّون تسعة عشر إرهابيا أغلبهم من الخليج. وبمقدار
ما كان العمل الإرهابي عنيفا وموجعا، كان ردّ الفعل أعنف وأوجع وأوسع رقعة جغرافية
باحتلال دولتين، وأطول زمنا حتّى يتم تجفيف المنابع في العالم كله.
لكنّ المنابع التي كانت تنزّ بروائح غير حضاريّة صارت تتفجّر
بدماء كثيرة وغزيرة، بعضها له صلة بالقاعدة وأخواتها، وكثير منها لم يكن لها حظّ
في العير ولا في النّفير، ولكنّها سدّدت أقساطا باهظة من فاتورة الفوضى الخلاقة
دون أن تقبض ـ في مقابل ذلك ـ شيئا سوى تدمير العلاقات وتفيك النّسيج الاجتماعي، وإسقاط أنظمة قائمة والحؤول دون قيام أنظمة بديلة بمبرّر “قانون باتريوت آكت”، بتوسيع صلاحيات أجهزة الشّرطة ومكتب التحقيقات الفيدرالي على حساب حقوق الإنسان
والحريّات، لفرْض المواطنة بمفهوم توسيع مظلة الأمن القومي، لتصبح الأرض كلها عمقا
استراتيجيّا لتنفيذ مشروع الفوضى الخلاّقة.
لعل أهم ما يجب طرحه من الأسئلة التي تمّ طرحها في أكثر من
مناسبة ولم تلقَ أيٌّ جواب إلى اليوم هي: ما هو الإرهاب؟ من هم الإرهابيون؟ ما
هي المنابع التي يراد تجفيفها؟ ولماذا تتوالى الضربات على العالم الإسلامي وبعض
الدّول الأفريقيّة، دون سواهما، ولا نكاد نسمع عن تجفيف منبع واحد من منابع
الإرهاب الرّسمي الذي تمارسه بعض الأنظمة، كحال الكيان الصهيوني مثلا؟
بعد تلك الأحداث التي أرهبت الرّأي العام الأمريكي وصنعت حالة
من الرّعب العالمي، وخّمت تنظيم القاعدة وجماعات الطالبان حتّى صارت قوّتهم العسكريّة
مساويّة لقوة الجيش الأمريكي، لأنّ وراءهم أنظمة مارقة تمدّهم بأسلحة الدمار
الشّامل والأسلحة النّوويّة والجرثوميّة، وفي مقدّمة هذه الأنظمة دولة العراق
ورئيسها الذي استعرض على شاشة التلفزيون الرّسمي مجسّما لما سماه “الكيماوي
المزدوج”، الذي سوف يعكف علماء الذرّة على تطويره إلى سلاح جرثومي تحمله رؤوس نووية
إلى إسرائيل وكثير من عواصم العالم، المهدّدة بالإرهاب العابرة للقارّات، الذي يقوده
أسامة بن لادن ومساعده أيمن الظواهري!! وصدّق الرّأي العام العالمي هذا الخطاب،
الذي أمدّته مكاتب التّفكير بدراسات باهرة حول صدام الحضارات، ونهاية التاريخ،
والحرب الجرثوميّة، وعالم ما بعد الحداثة. وهكذا تهيّأت النفوس لاستقبال كل جديد،
ووجد صنّاع القرار العالمي ثغرة واسعة في منظومة الشّرعيّة الدّوليّة، تسلّلوا من
خلالها لتنفيذ مشروعهم التّوسّعي الذي هيّأ الولايات المتّحدة لتكون دركيّ العالم
في غياب القطبيّة الثنائيّة.
الفوضى الخلاقة مصطلح ماسوني قديم، يعود تاريخه إلى الجلسات
السريّة التي سُميت “بروتوكولات حكماء صهيون”، ونُشرتْ سنة 1902، وتعني باختصار:
هدم القديم وبناء الجديد بافتعال أحداث مرعبة تحبس أنفاس الناس وتدخلهم في مأزق لا
يرون له مخرجا سوى الدم والهدم والحرْق والتّدمير، والطريق إلى تنفيذ هذا
المشروع المرعب يمرّ وجوبا بخمس خطوات مترابطة.
ـ إحداث صدمة قويّة مباغتة، بغير مقدّمات، تحجب الرؤية وتستعصي
عن الفهم، وتفقد الرّأي العام توازنه، ولا تتيح له فرصة للتّفكير الواعي.
ـ الترويج الإعلامي المبهر لما حدث، وأخذ الأمور بالجديّة
اللاّزمة، ومعاجلة الرّأي العام بترسانة من القوانين تستهدف حمايته من خطر داهم.
ـ الشّروع في عمليّة هدم واسعة لكل الحواجز التي تقف في طريق
حركة البنّائين، ووعد الناس بإعادة البناء حسب المصلحة القوميّة على أسس متينة.
ـ البحث عن عدوّ مشترك وتهويل خطره الذي لا يمكن اجتثاثه إلاّ
بصدام حضاري مهول، لا يستثني من برنامجه الحرب والقتل والعنف والرّعب، لحمل
المجتمعات الإنسانية على بلوغ أقصى درجات التوتّر، فتستسلم لكل قرار يضمن لها
حقّها في الحياة والأمن والاستقرار.
ـ التّفكير بصوت عال، والتبشير العلني بميلاد عالم جديد، ينهي
وجود الأنظمة التقليديّة لتحلّ محلها أنظمة عصريّة، تكون جنّة للمقهورين
والمهمّشين.
لما شرعوا في تنفيذ خطوات الفوضى الخلاقة، وجدوا البيئة العربيّة
أكثر تأهيلا لاحتضان خطاب الشرق الأوسط الجديد وشمال أفريقيا، لأسباب تاريخيّة
وجيو/ سياسيّة معروفة. فقد تمّ تعديل القوانين في ظلّ حالة خاصّة من الرّعب
والهوس. وتمّ تصوير ما حدث بأنه “مؤامرة على العالم” لا بدّ أن تتحالف قوّى العالم
الحرّ لوأدها في مهدها بضربات استباقيّة، تنهي حلم الطامحين إلى زعزعة استقرار العالم
عن طريق الإرهاب، وتنبّه الرّأي العام إلى حجم الخطر الداهم الذي يجبّ أن تُجفّف
منابعه بأقصى سرعة وبتعقّبه في عقر داره. ثمّ بعدها يمكن نشر مبادئ السّلم والأمن
والتنميّة في العالم بنشر الديمقراطيّة وبناء شرق أوسط جديد. وعلى الشعوب أن
تتعاون مع حاملي ألويّة الحريّة والدّيمقراطيّة لتسهيل مهمتها في تقويض العدوّ
المشترك، ولو بيسير من الرّعب والدم، والتضحيّة ببعض الحريّات، وتهويل الأمور بصنع
عدوّ خارجي مشترك، وتضخيم خطره على البشريّة وعلى الاستقرار والسّلم والأمن
العالمي. وكان من براعة هذا المخطط استهداف من كانوا في نظر مخترعي الفوضى
الخلاّقة “أنظمة مارقة” كالعراق وأفغانستان والصّومال والسودان واليمن.
بين سنوات 2005 إلى 2018 نجح واضعو هذه الخطّة العالميّة
الماكرة في تغيير خرائط نفسيّة وفكريّة وسياسيّة كثيرة، كان أخطرها خرائط القيم.
وللحديث بقيّة.
عن صحيفة الشروق الجزائرية