الاحتجاجات الشعبيّة التي اندلعت يوم الجمعة 22 فبراير من عام 2019،
هي الحِمم الأولى التي قذف بها بركان اجتماعي كان خامدا، منذ عشر سنوات تحت ركامات
من الأخطاء المتراكمة التي أدار لها الرّأيُ العام ظهره بإعلان استقالة جماعيّة من
التعاطي مع الشأن العام، لأكثر من عشريّة كاملة، لكنّ الوعي تجمّع وتراكم وكان -طيلة هذه المدّة كلها- يبحث عن فوّهة بركان مُناسبة ليقذف منها حممه الملتهبة إلى
سطح الأرض، تعبيرا عن حالة من الغليان الشّعبي بصحوة ضمير جمِعي، أحسّ أنّ
القائمين على شؤون هذا البلد لم يعودوا بحاجة إلى دعم أحزاب موالاة، ولا إلى سماع
صوت أحزاب معارضة، ولا إلى استشارة نخبة، ولا إلى نصح أئمة وعلماء، ولا إلى شباب
وصحافة ومجتمع مدني.. فلم يبقَ من الوسائل سوى القذْف بما في رصيد الأمّة من ثقة
في وعي الجماهير، ليس نكاية في "الخامسة" كما نسمع من الشّعارات
المرفوعة. إنما عقوبة لمحيط الرّداءة الذي لم يعد يأبهُ بمُساند ولا بمعارض، ولا
يريد أن يسمع سوى مقاله: "اعتقدْ ولا تنتقد"، ولذلك فليس رئيس
الجمهوريّة هو المستهدَف بهذا الحَراك، وإنما محيطه كله، إذا طال احتكاك الحبْل
على الجرّار.
شهد
الرّأي العام كله أنّ الاحتجاجات بدأت سلميّة وهادئة وحضاريّة.. انتزعت إعجاب
المراقبين في الدّاخل والخارج، وهذا أمر طبيعي، ولكنّه هدوء مرحلي. من منطلق أنّ
التّعبير عن رفض الواقع بهذه الوسيلة قد تمّ تجميده منذ أحداث "الزّيت
والسكّر" في يناير 2011، فجهاز التّجمهر والمسيرات علاه الصّدأ، وهو بحاجة إلى
تشحيم وتزييت وترويض بين جُمعتين على الأقل، لينطلق في أسبوعه الثّاني من السّرعة
الابتدائيّة إلى السّرعة الخامسة، ويفقد الدّاعون إليه ومنظّموه سلميّة السّيطرة
على وتيرة تسارعه بفقدان السّيطرة على خمسة مقاليد، لن تكون تقليدية ولا معتادة في
التّعاطي مع استحقاق دستوري، سبقته احتجاجات شعبيّة عارمة، إذا لم تُضبط آلياتها،
ويبرز من يقودها وينطق باسمها، فإننا نتوقّع بروز خمسة معطيات جديدة:
ـ
تزايد عدد الرّاغبين في التّعبير عن غضبهم.
ـ
تطوّر حدّة الشّعارات من رفض الاستمرارية إلى رحيل النّظام.
ـ
زيادة رغبة بعض المحتجين في التّصعيد بابتداع هتافات مخيفة.
ـ
إصرار دعاة التّصعيد على دفع المحتجين إلى نقاط ساخنة يُحظر الاقترابُ منها.
ـ
دخول "وجوه" غير مألوفة على خطّ السّير، والجرأة على مدّ الأيدي إلى
الممتلكات العمومية والخاصّة.. لاستفزاز قوات الأمن وحمْلها على استخدام أساليب
أخرى..
صحيح
أنّ الاحتجاج السّلمي حق دستوريّ مكفول، وهو ما قرّره جميع من تحدّث عن هذه
الاحتجاجات، في السّلطة والمعارضة. وصحيح كذلك أنه من حقّ الشّعب أن يعبّر عن رأيه
بكل وسيلة سلميّة، وصحيح أيضا أنّ التّظاهر في الشّوارع -بشكل حضاري- مظهر من
مظاهر الدّيمقراطيّة الحيّة، ومفخرة لكل شعب يريد أن يعطي صورة للخارج على أنّ
التّعبير عن الرّأي طريق لإصلاح الأوضاع وتنبيهِ القائمين على الشأن العام بأن "الموس
وصل إلى العظم"، فالوطن ملك للجميع ومن حقّ كل مواطن التّعبير عن قناعاته
بالطّريقة السّلميّة التي يختارها لنفسه، في أطُر مدنيّة ومجتمعيّة وسياسيّة
ونقابيّة معقولة. ولكنّ الواجب يقتضي أنْ يستشعر كل مواطن روح المسؤولية التي
تترتّب عن مشاركته في مسمّى "الحَراك الشّعبي". ويضمن لمن يدعوهم إلى
التّجمهر والتظاهر، خروجا آمنا واحتجاجا سلميّا لا ينحرف عن أهدافه التي سطّرها
المتحرّكون في السّاحات العموميّة والسّائرون في شوارع المدن والقرى.. فمن تجارب
الشّعوب في الاحتجاج تعلّمنا أنه في كلّ أركان العالم تبدأ الاحتجاجات سلميّة، ثمّ
تأخذ في التّصعيد إلى أنْ تخرج عن سلميتها، بواحد من أربعة أسباب:
ـ
تلوينها بلون إيديولوجي ينقل التجاذب إلى صفوفها.
ـ
ركوب جهات مُغرضة موجة الاحتجاج وتجييرها لأهداف أخرى غير التي خرجت لها، وهو ما
بدأنا نسمع حسيسه في بعض الشّعارات المرفوعة.
ـ
عدم استجابة الجهات المعنيّة لمطالب المحتجّين، والرّهان على عامل الزّمن.
ـ
شعور المتظاهرين بتعاظم جمْعهم وتجاوب الرّأي العام معهم، ومناشدته لهم بالانتقال
إلى السّرعة القصوى لافتكاك حقوقهم عنوة.
المشكلة
ليست في التّظاهر، ولا في الشّعارات المرفوعة، ولا في المطالب المشروعة، ولا في
المسيرات الحاشدة، ولا في الوقفات الاحتجاجية.. فكلّ ذلك حقّ مشروع ومكسب ديمقراطي
مكفول. إنما المشكلة تكمن في غياب من تحاورهم السّلطة. وهذا أمر مُحيِّر، فخروج
الناس بهذا التّنظيم من غير "رأس مدبّر" ولا ناطق باسم الغاضبين..
معناه: أنْ لا أحد مسؤول عن هذا الحراك، ولا أحد يتحمّل مسؤوليّة تعبئة الشّارع،
ولا أحد يضمن منع الانزلاق المحتمل في كل لحظة، ولا أحد قادر على لجْم العواطف
الغاضبة، ومنع اختراق صفوف المحتجّين، ورمي الزّيت على النار.. في مثل هذه الحالة
يصبح من السّهل ـ في أيّ لحظةـ توقّع انفلات تنظيمي يهدم كل ما بناه المحتجّون.
وإذا حدث هذا يصبح من الصّعب كشْفُ ذوي "الأجندات الخاصة" الذين عوّدونا
على استغلال فرصة غضب الجماهير ليمدُّوا أيديهم إلى ممتلكات الناس وأعراضهم
وشرفهم.. ويثيروا الهلع في بعض التجمّعات، ليفلت زمامُ التحكّم من المشاركين ويقع
المحظور، فيسهل الاختراق والنّهب والسّلب والاعتداء والتّجاوز.. وربما تجاوز الأمر
إلى تصفيّات حسابات قديم. وهو ما لا يتمنّى أحد حدوثَه.
الجزائر
محسودة في أمنها وفي حرّيتها ووحدتها وحيويّة شعبها وانسجام مجتمعها ووعي شبابها..
ولذلك فهي مستهدَفة في استقرارها؛ حتّى لو لم يكن كافيّا ولا متوازنا. وهناك جهات
كثيرة -في الدّاخل والخارج- تترقّب بداية انقداح الشّرارة الأولى من نار الفتنة،
لتحمل إليها مزيدا من الفحْم والحطب والزّيت والبنزين.. وتزوّد الغاضبين بفتائل
الصّعق السياسيّة والاجتماعيّة والشبّانية.. ففي الجزائر اليوم خليط غير متجانس من
المحرومين والغاضبين والمسرَّحين والمطرودين والعاطلين عن العمل و"الحراقة"..
ومن متعاطي المخدّرات والمدمنين على الحبوب المهلوسة.. وكل واحد من هؤلاء ينتظر
فرصتَه للانقضاض على من يتوهّم أنه عدوّه أو خصمُه أو منافسه أو غريمه القديم..
فإذا لم تنهض جهاتُ مسؤولة لتأطير هذه الاحتجاجات وتنظيمها وتوجيهها إلى أهداف
دستورية وقانونية معلومة، وغايات سياسيّة واجتماعيّة مشروعة، فإنّ الجميع سيدفع
ثمن فورة العاطفة. وسيكون الخاسر الأكبر هو الوطن: سلطة ومعارضة ومتفرّجين..
في
الوقت الرّاهن، لا يتحمّل الوضع الجزائري مزيدا من الضّغط والتّجاذب، مهما كانت
شرعيّة المطالب ونبل المقاصد ونظافة الوسيلة.. فبيْن دعاة الاستمراريّة ودعاة
التّغيير فاصلان: زمني، وأمني. وقد تعوّدنا على قرع طبول الحرب، مرة كل خمس سنوات،
لحساسيّة منصب رئيس الدّولة، الذي يهمّ جميع الجزائريين، ولهم جميعا الحقّ في أن
يقولوا فيه كلمتهم. لكنّ الأهمَّ من كل رئيس هو بقاء الجزائر آمنة موحّدة مستقرة.
فاحذروا البدايات السّهلة، والهتافات غير الموزونة، فعود ثقاب واحد يحرق غابة
كثيفة. وليتحمّل كل طرف مسئوليته في البدايات، أما النّهايات فسوف تتحمّل
مسئوليتها الكاملة مؤسّسة واحدة تعلم يقينا أنّ كلَّ رئيس محكوم عليه بأنْ يؤدّي
واجبه ويمضي، أما الوطن فخالد، لا يزول بزوال الرّؤساء.
عن صحيفة الشروق الجزائرية