يوم السادس عشر من تشرين الأول/أكتوبر جُز رأس الأستاذ الفرنسي صامويل باتي خارج مدرسته الثانوية في واحدة من ضواحي باريس بينما كان يسير عائداً إلى البيت. مهاجمه هو عبدالله أنزوروف، البالغ من العمر ثمانية عشر عاماً، اللاجئ الشيشاني الروسي المولد، والذي يقال إنه اشتاط غضباً عندما عرض المدرس على طلاب فصله قبل أسبوع ونصف من ذلك رسومات مجلة شارلي أيبدو المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
تفاخر المجلة الساخرة بموقفها غير المنسجم مع ما هو معروف ومألوف، وجرت العادة لديها على نشر مواد مثيرة للخلاف. ومن ذلك تصويرها لوزيرة العدل الفرنسية السبقة كريستين طوبيرة، ذات البشرة السوداء، على شكل قرد، ومن ذلك أيضاً هذه الرسومات المسيئة للنبي والتي شاع صيتها، وفي الحالتين تفعل ذلك على سبيل الدعابة كما يبدو. وعندما تُنتقد مثل هذه الأفعال، يسارع مرتكبوها في العادة إلى تذكيرنا بأن من ليسوا فرانكوفون لا يسعهم أن يفهموا.
على الرغم مما تثيره هذه الرسوم من جدل وشقاق، إلا أن المدرس باتي اختار أن يعرضها على طلابه ليشرح لهم مفهوم الحرية. انتقد والد أحد طلاب المدرسة فعل باتي، ثم بعد الجدل الذي أثير وجرى تضخيمه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد باتي حياته.
مكاسب شعبوية
لم يكن مستغرباً أن يثير الهجوم نقاشاً على مستوى البلاد كلها بل وحول العالم بشأن حرية التعبير وموقع المسلمين، من حيث وجود المسلمين وما يعتبر ذا صلة بالمسلمين، مثل مواقع وعادات المسلمين، داخل المجتمع الفرنسي بل وفي الغرب بشكل أوسع.
ثمة مزاعم بأن المجتمع الفرنسي بات مهدداً من قبل الوجود الإسلامي في فرنسا، وهي مزاعم تجد قبولاً لدى من ينكرون الحاجة إلى الحساسية والتفاهم المشترك بين المواطنين، الأمر الذي يقتضيه مبدأ الحرية للجميع، وإن كان ذلك بطبيعة الحال يتطلب أولاً الإقرار بأن مسلمي فرنسا مواطنون متساوون.
في التاسع عشر من أكتوبر / تشرين الأول، غرد وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارماني مطالباً بحل المنظمات التي يتزعمها مسلمون والتي تناضل ضد العنصرية مثل "بركة سيتي" ومنظمة "التكتل ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا".
ذهب دارماني إلى حد وصم هذه المنظمات بأنها "أعداء الجمهورية الفرنسية". ما قاله دارماني ليس معزولاً، بل بات يشكل جزءاً من الخطاب السياسي الفرنسي، فيما يشبه الهوس، تجاه وجود المسلمين في فرنسا وما يفترض بشأنه من غيرية وعدم انسجام وتخلف.
في نفس الوقت الذي صدرت فيه دعوات عالمية قوية لمساندة هذه المنظمات، إلا أن ضرراً كبيراً قد لحق بها نتيجة لحجم الشيطنة العلني الذي يمارس ضدها وضد ما تقوم به من أعمال. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن هذه السرديات نشأت في الأساس في داخل التيار اليساري، إلا أنها وجدت أرضية خصبة لتحقيق المكاسب الشعبوية في فرنسا بدليل النجاح المستمر الذي تحققه الجبهة الوطنية برئاسة لوبان، والتي تسمى الآن "التجمع الوطني".
تصريحات دارماني المشيطنة للجمعيات الإسلامية في فرنسا مشوبة بالتناقضات والنفاق، فهل نسي القانون الفرنسي 1901 الذي يضمن حرية التجمع لكل من هم في فرنسا؟
تعريف اللائكية
في خطاب له يوم الثاني من تشرين الأول/أكتوبر قبل مقتل باتي، تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مندداً بما زعم أنه الانعزالية الإسلامية في البلد مشيراً إلى المفهوم الفرنسي للائكية أو العلمانية.
على الرغم من الأساس الفلسفي للائكية، والقائم على المساواة، والذي استهدف الإصرار على وجوب الفصل بين الكنيسة والدولة، بات مقبولاً على نطاق واسع اليوم أن اللائكية في فرنسا لم تعد تتعلق بالعلمانية والحيادية، وإنما هي نمط معياري لإقصاء واستهداف الهوية الإسلامية في فرنسا، ولم تزل كذلك منذ بعض الوقت.
وهذا التموضع الإسلاموفوبي من خلال عدسة اللائكية كما يتجلى في سلوك المستوى التنفيذي في الدولة الفرنسية بات ممارساً أيضاً من قبل السلطتين التشريعية والقضائية.
ولا أدل على ذلك من أن صدور تشريعات مثل قانون 2010 ضد غطاء الوجه، والذي اشتهر باسم قانون مكافحة النقاب، وقانون ستاسي لعام 2004 الذي حظر على الفتيات المسلمات ارتداء غطاء الرأس داخل المدارس. وقد تم تطبيق الإجراءات الناجمة عن ذلك رغم أن قلة قليلة من النساء في فرنسا تتأثر بها.
يرى كثيرون أن هذه الإجراءات لا تتعلق بالعلمانية بقدر ما تتعلق بالرغبة في كبت الهوية الإسلامية والتحكم بها، وخلق سردية جماهيرية وسياسية مدعومة بالأطر القضائية من أجل إيجاد أسطورة معيارية حول "غيرية" المسلمين، وخاصة النساء المسلمات، في فرنسا. نتيجة لذلك يصبح المسلمون، وخاصة النساء المسلمات، في نظر البعض أهدافاً مشروعة.
"نزوح العقول" المسلمة
مثلما يحدث عادة في مثل هذه الأوضاع، سارع المسلمون حول العالم إلى التنديد بالهجمات، وذلك على الرغم من أن الأحداث، كما يشاهد عادة، أدت إلى اندلاع مزيد من الهجمات ضد المسلمين في البلد. فعلى سبيل المثال، تعرضت امرأتان مسلمتان ترتديان غطاء الرأس للاعتداء والطعن من قبل امرأتين فرنسيتين تحت برج إيفيل في باريس الأسبوع الماضي.
صاحت المرأتان المهاجمتان في وجه المرأتين المسلمتين وقالتا لهما "عرب قذرون"، وقالتا للمرأتين المسلمتين إن "هذه ليست بلدكما"، يقصدان فرنسا، قبل أن ينزعا بالقوة عن المرأتين المسلمتين الأغطية عن رأسيهما.
ليس من غير المألوف أن يتعرض المسلمون في فرنسا لاعتداءات من هذا النوع. فقد تلقت منظمة "التكتل ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا" في عام 2019 وحده 789 بلاغاً بوقوع هجمات إسلاموفوبية، بما يمثل ارتفاعاً قدره 77 بالمائة مقارنة بالعام الذي سبقه. على الرغم من أن هذه الإحصائيات صادمة، كما هو حال جميع إحصائيات جرائم الكراهية، إلا أن هذه الأرقام لا تمثل سوى رأس الجبل الجليدي، وذلك لعدة عوامل منها التحيز في الإبلاغ عن الوقائع، ولذلك لن نعرف أبداً بحق عمق ومدى وحجم ما يقع من هجمات إسلاموفوبية.
بالإضافة إلى ذلك، وكما ورد في انتقادات وجهها معلقون دوليون، لم يحظ هذا الاعتداء بالتحديد على المرأتين المسلمتين بكثير من التغطية الإعلامية، في الوقت الذي كانت فيه الكثير من وسائل الإعلام الفرنسية تفرد جزءاً كبيراً من تغطيتها للإسلام.
في هذه الأوضاع وردت تقارير متزايدة عن أن المسلمين الفرنسيين يغادرون البلاد، حتى قيل إن فرنسا تشهد الآن "نزوحاً للعقول المسلمة". ويبدو أن من لديهم القدرة على ترك فرنسا لا يترددون في المغادرة، رغم أن لسان حال الواحد منهم يقول: "أحب بلدي، ولكني لا أرغب في قضاء ما بقي من عمري وأنا أعتذر عن كوني مسلماً. سأذهب إلى حيث أجد الاحترام."
في خضم ما يعيشه العالم من جائحة يفقد كثيرون، بما في ذلك في فرنسا، حياتهم بسبب كوفيد-19، ومع ذلك، مازال البلد مسكوناً بحالة غير صحية من القلق بشأن الهوية الإسلامية، وهي الحالة التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى الإضرار بمكانة فرنسا وتفقدها القدرة على الاحتفاء بثقافتها وثراء التعدد فيها.
في النهاية فرنسا هي الخاسرة.