في كتابِها (فلسفة الجَمال: أعلامُها ومذاهبُها) تُشير الدكتورة أميرة حلمي مطر إلى النسّق الذي حبَّذَه (هيجل) للفُنون، حيث تتدرّج من الأدنى إلى الأرقى تبعًا لمدى تجريدِها وابتعادِها عن المُحاكاة، وفي خلالِ ذلك تُشيرُ (مطر) إلى إعجاب (هيجل) بمسألة إدانة الإسلام للمُحاكاةِ في الفنّ، تلك الإدانة التي أسهمَت في تشكيل الزخرفة العربية الإسلاميّة، سواءٌ منها ما نجدُه في العمارة أو في المنمنمات أو غيرهما.
ولعلّ فنّ الخيّاميّة في مصر يعبّر خير تعبيرٍ عن ذلك الرُّوح التجريديّ المهيمِن على التشكيل العربي الإسلامي.
يقول مؤرخ الفنّ (سيف الرشيدي) في كلمته التقديمية المطبوعة لهذا المعرض الذي تستضيفُه قاعة (أوبُنتو) بالزمالك من 24 مارس إلى 20 أبريل: "يصنف البعض هذا التراث على أنه فن، ويصنفه البعض الآخر على أنه حرفة، والحقيقة أن التصنيف في حد ذاته لا معنى له هنا فهو ببساطة عمل فني أنتجه الحرفيون.
والأهم من ذلك هو التفكير في مستقبل هذا التراث المحفوف بالمخاطر، فالخيامية بالرغم من أهميتها وقِدَم نشأتها إلا أنها تعتبر من التراث المنسي في مصر." وتلفتُنا هذه العبارة إلى القضيّة الأهمّ في فلسفة الفنّ، وهي قضية تعريف الفنّ والخط الفاصل بينه وبين الصَّنعة.
وبينما يحومُ الفلاسفةُ حول هذه القضيّة في شتّى الاتّجاهات، نجدُ الفيلسوف الفرنسي إميل شارتييه Emile- Auguste Chartier (Alain)يكاد يوحّد بين الفنّان والصانع، من مُنطلَق أنّ الإنسان يشعرُ في كُلٍّ من الفن والصناعة بمقاومة المادّة، ويتجلّى جهده الإبداعيُّ في التغلُّب عليها، حتى إنه يقولُ – كما يخبرُنا د.زكريا إبراهيم في كتابه (فلسفة الفن في الفكر المعاصر)- إنّ الإلهام نفسَه وليدُ عملية التعبير بدرجةٍ ما، حيثُ إنّ التعبير الفنّي بما هو جهدٌ متّصِلٌ بتشكيل المادّة يأخذ الإلهام في طريقِه ويغيّر مساراته ويجبرُه على الانصياع لإجراءات التعبير. هكذا يبدو الإلهام – وهو ما يتذرّع به فلاسفة الفنّ لتمييز الفنان من الصانع – تابعًا للتعبير في فلسفة (شارتييه) الجماليّة.
أخيرًا فإنّ إروين إدمان في كتابه (الفنون والإنسان) يؤكّد على أنّ ذلك الهوس بالتمييز بين الفنّ والصناعة أو الحرفة هو أحد نواتِج التراكُم الحضاريّ الذي بقَدر ما هو مستمرٌّ في إفراز فنونٍ جديدةٍ فإنّه يفصل بين الفنّ وصُلب حياة البشَر، فبعد أن كانت اللوحةُ التشكيليّة محاولةً من الإنسان لتجميل جدار بيتِه أو كهفِه الذي يعيشُ فيه، ابتعدَت لتَشغل مساحةً نائيةً في معرِضٍ تشكيليٍّ، وهكذا.
وعَودًا إلى موضوع الخيّاميّة، فإنّ المنسوجات الملوّنة مازالت فنًّا/ حرفةً معجونةً بتُراب الحياة في مصر، ومكانُها الأبرز كما يوحي بذلك اسمُها هو الخِيام أو السُّرادِقات التي تُقام في شوارع مصر لتستضيف حدَثًا يفترَض أن يجتمع له الناس، من قبيل الأفراح والمآتِم وإحياء المناسبات الدينية ومعارض بعض المنتَجات إلى غير ذلك.
ويبدو لي أنّ محضَ إقدامِ قاعةٍ مثل (أوبُنتو) على استضافة نماذج من هذا الفنّ العريق ربّما يشيرُ إلى تلك المخاطر التي تتعرّض لها هذه الحرفة، فحرفيُّوها في تناقُص بحُكم آليّاتٍ اجتماعيّةٍ معقّدةٍ طبعَت نظرة المجتمَع إلى الحرفيين عمومًا بطابَع الاستعلاء، ناهيك عن ممارِسي الحِرَف التراثيّة، وقيام دُور المناسبات وصعوبةُ إقامة السرادِقات في الشوارع قلّصا دورَ الخيّاميّة الاجتماعيّ.
وأخيرًا فإنّ انزياحَ المنسوجات الملوّنة من السُّرادِق إلى المعرض يذكّرُنا بما قالَه (إدمان) عن فصل التراكم الحضاري بين الفنّ وصُلب الحياة.
أشرف هاشم- الإخلاص للُّوتس:
رغم وجود لوحاتٍ أخرى له في موقع المعرض إلاّ أنّ هاتَين بالتحديد تمثّلان حالةً خاصّةً، حيث الوحدة النباتية التكرارية هي زهرة اللوتس التي تصِل الزخرفة الإسلامية بالفنّ المصري القديم.
يلتزم (هاشم) بنسَق صارم من التنويعات التشكيلية واللونية، يمنح منسوجتَه درجةً عاليةً من التناظُر بين أطرافِها.
وفي المنسوجة الثانية نلاحظ نفس الخصيصتين (اللوتس – التناظُر التامّ) مع الهبوط بالتنويع اللونيّ كثيرًا والإفساح لفراغ الخلفيّة القماشيّة في تجريدٍ رائق.
حسام الفاروق- المنسوجة الصَّرحية:
بينما يحتفي بعضُ منسوجات (الفاروق) بنفس درجة التناظُر العالية التي تحظى بها منسوجات (هاشم)، تتميز هاتَان المنسوجَتان بتكوينٍ قريبٍ من تكوين واجهات العمارة العربية الإسلامية، من حيثُ إنها طبقاتٌ متراتبةٌ، في كلٍّ منها درجةٌ من التناظُر الداخليِّ، لكنّها تختلف فيما بينها تشكيلاً ووظيفةً وتوزيعًا لونيّا.
في هذه المنسوجة الأولى نجدُ سُفلاً من وحداتٍ نباتيةٍ متعانقةٍ قريبةٍ من اللوتس، يقوم فوقه عمودان رأسيان ينتهيان في الأعلى بتاجَين كتيجان أعمدة العمارة، ولا تفتأ الخطوط تنحني وتتعانق في ثراءٍ من الألوان داخل العمودَين، وتتخفف من هذا الثراء اللوني خارجهما لتسمح بفراغ الخلفية أن يظهر، ثم إنّها تتشابَك في الثلث العلويّ من هذا الصرح النسجيِّ فوق تاجَي العمودين، ويتبقى الركنان العلويّان من اللوحة ليمثّلا طبقةً أخيرةً لها تناظُرها الخاصّ.
في الثانية نجدُ سُفلاً من وحداتٍ نباتيةٍ قائمةٍ على درجات اللون البُنّيّ والبُنّي المحروق، تعلوه طبقةٌ مؤطّرةٌ بمستطيلٍ من الزخارف الهندسية المنتظمة، وداخل المستطيل ثلاثة إطاراتٍ من الزخارف النباتية، تحتضن تكوينًا هندسيًّا هو قلبُ اللوحة، وهو في رأيي المتواضع يمثّل سلَفًا عظيمًا للقالَب التشكيليّ Op Art الذي ابتكرَه المجريُّ ڤاشارَئيّ Vasarelli.
ولعلّنا نلاحظ أنّ الإطار الأوسط المكوّن من أزواجٍ من الأوراق النباتية السوداء والسماوية والبنية المحروقة، هذا الإطار يتخلى فيه (الفاروق) عن التناظُر التامّ ليمنحه اتجاهًا واضحًا هو عكس عقارب الساعة باعتبار هذه الأزواج من الأوراق مفتوحةً كلُّها في نفس الاتجاه بغضّ النظر عن موقعها من اللوحة.
هذا الاتّجاه يُضفي على اللوحة حركةً نسبيةً ويكسر سكونيّتَها. تأتي بعد ذلك طبقةٌ مصريةٌ قديمةٌ مكوّنةٌ من الرَّبَّتَين الفرعونيتين نِخبِت ووَدچِت حامِيَتَي الوجهَين القبليّ والبحريّ على الترتيب، والأولى ممثَّلة بجناحَي النسر المفرودَين، والثانية برأسَي الأفعى المزدوجة.
فوقها طبقةٌ من بقعةٍ لونيةٍ بالبني المحروق تستضيف شطر بيتٍ معروفٍ للإمام الشافعيّ "مَن يَصنَعِ المعروفَ يُجزَ بمِثلِه"، وإن كان مكتوبًا هنا دون مراعاةٍ للقاعدة النحوية القاضية بجزم المضارع في جواب الشرط (يُجزَ) بحذف حرف العلّة، ودُون مراعاةٍ لوظيفة الألِف الخنجريّة في الرسم العثمانيّ، فهي هنا مرشوشةٌ بغزارةٍ حول الكلمات دون وظيفة.
وأخيرًا تتوّج المنسوجةَ طبقةٌ من الوحدات النباتية المتعانقة باللون السماويّ، وهي تقوم هنا مقام شرّافات المساجد، فكأننا إزاءَ عمارةٍ إسلاميّةٍ متعددة الطبقات، لكل طبقةٍ وظيفةٌ وطابَعٌ جماليٌّ، وهي لا تضيق ذرعًا بالمكوّن المصري القديم على رمزيته الوثنيّة، بل تفسح له مكانًا عاليًا في تسامُحٍ جَماليّ.
معتزّ نصر- رايةٌ سوداء:
مصداقًا لذِكر (هيجل) في مقدمة المقال، تذكّرنا منسوجة (نصر) الوحيدةُ في المعرض برأي الفيلسوف الألمانيّ الذي يورِدُه (آيان ألموند) في كتابه (تاريخ الإسلام في الفكر الألماني من لايبنتز إلى نيتشه)، والذي يقولُ إنّ العُنف الذي صاحَبَ ميلاد الدعوة الإسلاميّة تحوّل مع الوقت إلى أسمى آيات الفنّ، كما يورِد (ألموند) وصف هيجل للعرب سنة 1821بأنهم قومٌ غير متعلّمين ungebildeten Völkern ثم قولَه عنهم بعد عامٍ واحدٍ إنهم يُعزَى إليهم ازدهارُ الشِّعر وكُلّ العُلوم. هذا التأرجُح الذي رآهُ هيجل في الإسلام بين إبداع الحضارة واللامبالاةِ بها يتجلّى في اختيارات (نصر) الجَمالية لهذه المنسوجة.
هي رايةٌ سوداء مربّعة كتلك التي غزا تحتها النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم وأسماها العُقابَ، واتخذها الخلفاء الراشدون من بعدِه.
وهي مُدلاّةٌ من عصا بسيطةٍ مقشّرةٍ في عشوائيّة، لكنّ الفنّان هنا نقش عليها كلمة (الجمال) مقتصدًا في التشكيل، واتخذ الكلمة التي يقومُ عليها الفنُّ كلُّه وحدةً تكراريةً بنى منها وردةً بيضاء تتوسّط رايةَ العُقاب، ومدّ لها ظلالاً في كل ناحيةٍ من الراية تصل إلى أطراف الراية.
هكذا أوحَت هذه اللوحة/ المنسوجة بأنّ الجَمال كان منذ اللحظة الأولى يتبطّن العُنف الظاهريّ في أعمق مستويات الفهم للإسلام.
طارق الصفتي- الهروب من التجريد:
رغم اندراج بعض معروضاته هنا في الإطار العامّ التجريديّ الذي ينتظم معظم منسوجات الخيّاميّة، إلا أنّه في هاتَين المنسوجتين يُفلِت من إسار التجريد ليسبح في ماء الحياة ويحلّق في هوائها.
هنا لا يدّخِر الصفتي وُسعًا في حشد أكبر عددٍ ممكنٍ من الأحياء في لوحتِه، فهناك وحيدُ القَرن والسنجابُ وطيورٌ وأزهارٌ مختلفة الأشكال والألوان وغير ذلك. هو تنزُّلٌ بفنّ الخيّامية من علياء التجريد إلى تفاصيل الأحياء وتنوُّعها، يلفت الفنان انتباهَنا به إلى ما يختزنه هذا الفنّ من إمكاناتٍ، خاصّةً أنّ تشكيلاً ثريًّا كهذا لا نصطدمُ به عادةً في الخيّاميّة، لكنّ القماش الثقيل الذي تُنفَّذ به أعمال الخيامية، وطريقة التنفيذ القائمة على تطريز قطع القماش مختلفة الألوان فوق بعضها البعض، هاتين الخصيصتين المتعلقتين بالخامة والأداء من شأنهما أن يُضفيا على لوحةٍ كهذه دفئًا وحياةً لا نظير لهما في اللوحات التقليديّة المنفّذة بالرسم بالزيت أو الأكريليك على القماش أو غيره من الخامات.
في المنسوجة الثانية يفسح الصفتي المجالَ للخلفيّة السوداء في السُّفل والبيضاء في سائر اللوحة، لتتجلى ملاءمتُهما للموضوع المطرَّز عليهما، فأسماكُ السُّفل في قاع الماء حيثُ الظلام تامٌّ من حولها، والطيور والفراشُ المحلّق في الهواء سابحٌ في النُّور.