يبدو مهرجان الجونة مثالا لما آلت إليه الحياة الفنية والثقافية في مصر من تسطيح و"تتفيه" لكل ما هو جاد في الثقافة المصرية- جيتي
أصبح
لمهرجان الجونة السينمائي بصمة واضحة على الحياة الفنية في مصر، لكن الطريف أن بصمته
أصبحت في عالم الأزياء المهرجانية، أكثر مما هي في عالم السينما! لم يعد الوسط الفني
ينتظر المهرجان لإشباع شغفه بصناعة السينما وجديدها ونقدها وجدلها الخلّاق، بل لإشباع
شغفه بجديد الأزياء وغريبها وأحدث صيحاتها.
ربما
يبدو مهرجان الجونة السينمائي مثالا واضحا لما آلت إليه الحياة الفنية والثقافية في
مصر من تسطيح و"تتفيه" لكل ما هو جاد في الثقافة المصرية. كان مهرجان الشعر
العربي يُعقَد بالقاهرة في شباط/ فبراير من كل عام، فيفد على مصر أكبر شعراء العالم
العربي، ثم لا يخلو المهرجان من جدل شديد، يقوده شعراء قصيدة النثر ضد لجنة الشعر التي
كانت تنظم المهرجان آنذاك، غاضبين من ضعف تمثيلهم، فلا يخل الأمر من تنظير لقصيدة النثر،
وحماس لمدارس شعرية حديثة ونقاشات نقدية...
ضربت
مثال مهرجان الشعر لأوضح كيف كانت المهرجانات الثقافية المصرية تدوي في عالم الأدب
والفن. يمكننا أن نقيس على ذلك مهرجان القاهرة السينمائي الدولي حين كان الراحل سمير
فريد رئيسه والدينامو المحرك له.. يمكننا أن نلاحظ الآن كيف بهت لونه وتوارى خلف مهرجان
مثل مهرجان الجونة؛ لا يكاد أحد يذكره إلا ويتابع تنافس الفنانات في ارتداء الفساتين،
ثم لا نكاد نقرأ شيئا أو نتابع خبرا "سينمائيا" حقيقيا عن أي شيء له علاقة
بالسينما.
أقول
ذلك لأن مشاركة فيلم "ريش" المصري في مهرجان الجونة بدت واعدة بأن تعيد الجدل
السينمائي الحقيقي للمهرجان، لكن سرعان ما انقلب الجدل رديئا إلى الدرجة التي يخجل
المثقف المصري منها! لم يكد الجدل يتناول الفيلم من أية زاوية فنية، بل من زاوية ضباط
أجهزة المخابرات. وذلك، في ظني، لأسباب مختلفة، أولها ما بادر به الممثل متواضع المستوى
شريف منير من الهجوم على الفيلم ومقاطعة مشاهدته في القاعة، احتجاجا على ما يعرضه الفيلم
من مشاهد الفقر في العشوائيات والأحياء المصرية الفقيرة.
اعترض
شريف بأن الفيلم يصور عشوائيات وفقراء لم يعودوا موجودين في مصر في عهد السيسي، وأن
ذلك الفقر أزعجه لأنه يسيء لصورة مصر في الخارج. بشكل واضح يتردد صوت قوى الأمن في
كلام منير، وهو كلام ارتبط تاريخيا بالأنظمة الفاشية التي لا ترى الأزمة في مشكلة ما،
بل تراها في التعبير عن تلك المشكلة.
من كان
يتخيل أن مهرجانا سينمائيا من أهم المهرجانات المصرية ينقلب إلى زوبعة تناقش ما يحق
لصنّاع السينما تناوله وما لا يحق لهم! والأدهى من ذلك أن يكون ما يحق لهم تناوله هذا
مرتبطا بمدى مطابقته للهراء الذي تردده الأجهزة الأمنية. فمثلا يشتعل الجدل دائما حول
كيفية تناول التابوهات الاجتماعية في السينما، لكن منذ أمد بعيد لم يعد أحد يجادل في
هذه المسألة: هل يحق لصانع الفيلم عرض قضية الفقر أم لا؟ يبدو هذا السؤال غبيا لدرجة
العودة عشرات السنين إلى الوراء، حيث يقول نجيب محفوظ:
"إذا
اعتبرت نقد العيوب إساءة لسمعة البلاد، فمعنى ذلك أنه لن يكون هناك فن بالمرة، ولن
يبقى أمامك سوى أن تختار الأفلام الهامشية، ولكن إذا أردنا فيلما جيدا فلنسمح له بحرية
النقد البناء، بما يضيف سمعة طيبة للبلاد، وهذا ما حدث في إيطاليا حين عرضت أفلام الواقعية
الجديدة، ورأينا فيها الإيطاليين حفاة يتبولون في الطرقات، فخرجنا من مشاهدة هذه الأفلام
مبهورين بروعة الفن، مكبرين للبلد الذي أنتجه..".
هذه
الحركة السينمائية "الواقعية الجديدة" ظهرت في إيطاليا في الأربعينيات وازدهرت
حتى الستينيات، وكانت تعتمد على التصوير المباشر لمعاناة الطبقات الفقيرة، ربما كانت
نزعة يسارية الطابع وقتها، لكن هذا التوجه لتصوير حياة الفقراء والمسحوقين صار عالميا
لدى صناع السينما في العالم، حتى إننا نعجز عن إحصاء الأفلام التي أنتجتها هوليوود،
وتعرض حياة الفقراء و"الهومليس" دون حرج، في مركز الرأسمالية العالمية.
يحز
في النفس أن تكون السينما الإيطالية (وهي ليست أكثر مدارس السينما تطورا في العالم)
قد تجاوزت حواجز التطبيل الفني للسلطة، والانبطاح التام أمامها منذ الأربعينيات، ثم
تعجز السينما المصرية اليوم عن عبور تلك العتبة البغيضة، مع أن الجدل حول تلك المسألة
لم ينقطع منذ زمن مبارك البائس، لكنه ظل جدلا هامشيا، يثيره فيلم أو مسلسل، وحين يتطوع
وزير الثقافة بحكم منصبه لمهاجمة فيلم، كان الفنانون يخرسونه بسيل من التصريحات التي
تسخر منه.
وهذا
ما يعود بنا إلى ثاني الأسباب التي أشرت إليها أعلاه، وهو: سيطرة الدولة على وسائل
الإعلام وشركات الإنتاج الفني، حتى أصبحت الدراما الرمضانية المصرية مجرد مسلسلات ينتجها
جهاز الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، دعايةً وتطبيلاً لسلطته القابضة على عنق البلاد.
هذا بالتحديد ما يجعل ممثلا كشريف منير، راغبا في تقمص دور المسؤول الحكومي السابق،
الذي كان الفنانون يخرسونه فورا.
بالطبع
يطمع شريف منير في إسناد دور له في دراما الموسم الرمضاني المقبل، لذا يبادر بتسجيل
موقف يرضي السادة الضباط المسيطرين على شركات الإنتاج، ولا يمانع في أن يلعب دور النقيض
للفن: دور الرقيب الجاهل الذي لا يعرف أساسيات السينما، ويسعى فقط لاستخدام مقصه قدر
استطاعته.
فيلم
"ريش" الذي أثار ذلك الجدل (أخرجه المخرج عمر الزهيري)، كان قد فاز بالجائزة
الكبرى لمسابقة أسبوع النقاد في مهرجان كان السينمائي الدولي في تموز/ يوليو الماضي.
ويتناول الفيلم قصة أسرة مصرية فقيرة تعاني من الحياة في العشوائيات الفقيرة، حيث تنقلب
حياة الأسرة حين تحتفل بعيد ميلاد ابنها الأصغر بمشاركة ساحر يخطئ بتحويل الأب إلى
دجاجة، ويعجز عن إعادته رجلا، فتصبح الأم الفقيرة مسؤولة عن حياة الأسرة وتواجه مصاعب
الحياة وحدها.
ذلك
ما أثار الممثل شريف منير ومن لف لفه.
جدير
بالذكر أن الفنان أشرف عبد الباقي كان قد غادر القاعة بعد شريف منير، لكنه أوضح في
مقطع فيديو بعد ذلك أنه لم يقاطع الفيلم، بل كان مضطرا للانصراف بسبب موعد تكريمه في
دار الأوبرا المصرية، وأعلن تقديره للفيلم وصنّاعه وفوزه بجائزة مهرجان كان، واعترف
بأن مصر فيها فقراء، ولا يمكن اعتبار ذلك عيبا في أي فيلم، وهو ما رفع عنه ذنب المشاركة
في التحريض على فيلم ريش.
من الأمور
التي تزعج محبي السينما في مصر متابعة جدل كهذا، فلا يكتفي شريف منير بالإلحاح على
تحريضه القبيح، والظهور مع عمرو أديب طالبا أن تشاهد الفيلم جهة ما للحكم عليه، مما
نعلم أنه تحريض مباشر للأجهزة الأمنية ضد صناع الفيلم، ليضطر منتج الفيلم محمد حفظي
للظهور مع أديب والدفاع عن فيلمه بأنه جاء بلا إطار زمني، فلا يقصد به مصر في عهد السيسي،
فقد تكون مصر قبل الجمهورية الجديدة التي يبشر بها السيسي، وهو ما حذت حذوه بطلة الفيلم
دميانة، التي صرحت بأن الفيلم يكشف كيف غيّر السيسي أوضاع البلد، وكيف انتهت تلك الأوضاع
السيئة القديمة، التي صوّرها الفيلم!!
ما أقبحه
من جدل "سينمائي" إذا كان يمكن التجرؤ على وصفه بتلك الصفة.