قال الصحفي روجر كوهين
إنه في اليوم الذي غزت فيه
روسيا أوكرانيا، خرج الرئيس الفنلندي سولي نينيستو، وقال: "لقد
سقطت الأقنعة الآن ولا نرى إلا الوجه البارد للحرب"، مشيرا إلى سلسلة خطوات غيرت وجه
أوروبا وطريقة تفكيرها إلى الأبد.
وقال كوهين في مقال له
بصحيفة "
نيويورك تايمز"، ترجمته "عربي21"، إن رئيس
فنلندا الذي ظل في منصبه لأكثر من عقد، التقى بالرئيس فلاديمير بوتين عدة مرات، بما
يتماشى مع السياسة الفنلندية المتمثلة في التواصل البراغماتي مع روسيا، حيث تشترك
معها في حدود تبلغ حوالي 835 ميلا. لكن فجأة، تراجعت تلك السياسة، ومعها، أوهام
أوروبا بشأن العمل كالمعتاد مع بوتين.
وأشار إلى أنه تم بناء
الاتحاد الأوروبي المؤلف من 27 دولة على مدى عقود بفكرة أساسية تتمثل في توسيع
نطاق السلام عبر القارة. وإن الفكرة القائلة بأن التبادلات الاقتصادية والتجارة
والاعتماد المتبادل كانت أفضل الضمانات ضد الحرب تكمن في عمق الروح الأوروبية في
فترة ما بعد الحرب، حتى في التعامل مع موسكو التي يتزايد عداؤها.
وتابع: "لقد
أصبحت روسيا بوتين عدوانية وإمبريالية وانتقامية ووحشية، فضلا عن أنها منيعة على
سياسات السلام الأوروبية، وكان من المستحيل تقريبا هضمها في باريس أو برلين، حتى
بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014.
وقال نينيستو هذا
الشهر في مؤتمر ميونيخ للأمن: "بدأ الكثير منا باعتبار السلام أمرا
عاديا"، بعد أن قاد حملة فنلندا المفاجئة خلال العام الماضي للانضمام إلى
الناتو، وهي فكرة لم يكن من الممكن تصورها حتى في عام 2021.
لقد غيرت الحرب في
أوكرانيا أوروبا بشكل أكثر عمقا من أي حدث آخر منذ نهاية الحرب الباردة في عام
1989. وقد أفسحت عقلية السلام، الأكثر حدة في ألمانيا، الطريق إلى إدراك الحاجة
للقوة العسكرية في السعي لتحقيق الأهداف الأمنية والاستراتيجية، ولقد تم دفع
القارة إلى بذل جهد هائل لإنقاذ الحرية في أوكرانيا، وهي الحرية التي يُنظر إليها
على نطاق واسع على أنها مرادفة لحريتها.
وقال إنه بشكل عام،
تعهدت الدول الأوروبية، كجزء من الاتحاد أو بشكل فردي، بتقديم أكثر من 50 مليار
دولار في أشكال مختلفة من المساعدات إلى كييف، وفرضت 10 جولات من العقوبات،
واستوعبت أكثر من ثمانية ملايين لاجئ أوكراني (ما يقرب من عدد سكان النمسا)، وإلى
حد كبير فطموا أنفسهم عن النفط والغاز الروسي في تحول كاسح تحت ضغط تضخمي حاد.
ولفت الكاتب إلى أن حقبة
ما بعد الحرب الباردة، أفسحت الطريق أمام فترة خلل غير مستقرة ينمو فيها التنافس
بين القوى العظمى، وقال الرئيس بايدن الأسبوع الماضي في وارسو إنه "لن تكون
أوكرانيا انتصارا لروسيا أبدا". وتحدث في الوقت الذي أجرت فيه الصين وروسيا
محادثات بشأن شراكتهما "بلا حدود" وعلق بوتين المشاركة الروسية في آخر
معاهدة باقية للحد من التسلح بين أكبر قوتين نوويتين.
وقال فرانسوا ديلاتر،
السفير الفرنسي في ألمانيا: "لقد أعادت الحرب الأوروبيين إلى الأساسيات، إلى
مسائل الحرب والسلام وقيمنا.. ما يضطرنا لطرح السؤال: من نحن كأوروبيين؟".
في رواية بوتين،
من خلال تصوره لنفسه على أنه بطل روسيا، كان الأوروبيون جزءا من الغرب المنحل، الضعيف،
لقد كان مخطئا، وهو أحد الأخطاء العديدة التي قوضت الغزو الروسي الذي كان من
المفترض أن يقطع رأس أوكرانيا في غضون أيام.
وبدون الولايات
المتحدة، ربما لم يكن لدى أوكرانيا الوسائل العسكرية لمقاومة الغزو الروسي. هذه
فكرة واقعية للأوروبيين، حتى لو تجاوزت استجابة أوروبا العديد من التوقعات. إنه
مقياس للعمل الذي لا يزال يتعين القيام به إذا كانت أوروبا تريد أن تصبح قوة
عسكرية ذات مصداقية.
لذلك، فإنه بينما تلوح حرب
طويلة في الأفق مع احتمال حدوث حالة من الجمود طويلة الأمد، فإن الاتحاد الأوروبي
سوف يتصارع مع كيفية تعزيز جيوشه وكيفية التعامل مع التوترات بين دول المواجهة
العازمة على الهزيمة الكاملة لبوتين وآخرين، مثل فرنسا وألمانيا، يميلون إلى
التسوية، وكيفية إدارة انتخابات أمريكية العام المقبل من شأنها أن تغذي القلق بشأن
ما إذا كانت واشنطن ستواصل المسار.
وقالت سينيكوكا ساري،
الخبيرة بالشأن الروسي ومديرة الأبحاث في المعهد الفنلندي للشؤون الدولية:
"حتى لو انتهت الحرب قريبا، فلن يكون هناك عودة". ليس بشأن قرار فنلندا
الانضمام إلى الناتو، وليس بشأن الوضع السابق لأوروبا.
وقبل بدء الحرب في 24
شباط/ فبراير الماضي.. هاجم القوميون المتشددون، الذين غالبا ما يكون لهم صلات
مالية وغيرها من العلاقات مع موسكو، الاتحاد الأوروبي. لكن الغزو الروسي كان له
تأثير محفز وموحد بشكل عام. بالنسبة لبوتين، تضاعفت العواقب غير المقصودة وغير
المرغوب فيها لحربه.
وفنلندا مثال على
ذلك، مخاوفها من روسيا عميقة، فمنذ عام 1809، ولأكثر من قرن، كانت جزءا من
الإمبراطورية الروسية، وإن كانت دوقية مستقلة. في الحرب العالمية الثانية، خسرت
12% من أراضيها لصالح موسكو.
وكانت قد استمرت في
نظام الخدمة العسكرية الإجبارية بعد الحرب وذلك لم يكن، كما قال رئيس الوزراء
السابق ألكسندر ستوب، "لأننا كنا خائفين من السويد".
وقالت إميليا كولاس،
مديرة منتدى الأعمال والسياسة الفنلندي: "كل عائلة لديها ذكريات حرب،
والتاريخ يخبرنا بالخطر. لكننا كنا مترددين. اعتقدنا أن كونك محايدا يخدم فنلندا
بشكل أفضل ".
حتى في كانون الثاني/
يناير الماضي، قبل شهر من دخول الدبابات الروسية إلى أوكرانيا، قالت سانا مارين،
رئيسة الوزراء، إنه "من غير المحتمل للغاية" أن تتقدم فنلندا بطلب
للانضمام إلى الناتو خلال فترة ولايتها. وأظهرت استطلاعات الرأي باستمرار أن
التأييد للانضمام إلى التحالف لم يكن أعلى من 20 إلى 30%.
وخلال أيام من
هجوم 24 شباط/ فبراير، قالت جان كوسيلا، مديرة السياسة في وزارة الدفاع الفنلندية:
"كانت المشاعر الشعبية هي التي قادت الطريق".
وارتفع الدعم لعضوية
الناتو إلى أكثر من 70%. أصبحت فنلندا فجأة صغيرة جدا وهشة للغاية بحيث لا تستطيع
الاحتفاظ بهذه الحدود الطويلة. وتقدمت فنلندا للعضوية خلال ثلاثة أشهر.
بالنسبة للسويد أيضا،
أصبح الخيار واضحا، حتى بالنسبة لبلد لم يخض حربا منذ أكثر من 200 عام.
قال توماس باغر،
السفير الألماني في بولندا: "لقد أصبح بحر البلطيق بحيرة تابعة لحلف شمال
الأطلسي.. هذا تحول استراتيجي كبير".
وأصبحت أوكرانيا تسعى
للدخول في الاتحاد الأوروبي، ولكن هذا لن يكون سهلا. مُنحت أوكرانيا بسرعة وضع
المرشح الرسمي إلى الاتحاد الأوروبي العام الماضي، لكن المشاكل الكبيرة، بما في
ذلك الفساد المستشري والنظام القضائي الضعيف، لا تزال قائمة في عملية تستغرق عموما
عدة سنوات.
أما بالنسبة لعضوية
الناتو، فيبدو أنه من غير المعقول ما دامت أوكرانيا في حالة حرب مع روسيا.
وقال بيتري هاكارينن،
كبير المستشارين الدبلوماسيين للرئيس الفنلندي نينيستو: "لا أعتقد أن أي دولة
من دول الناتو تعتقد أن أي دولة تخوض حربا في روسيا يمكنها الانضمام إلى الناتو".
هنا تكمن معضلة
أوروبية يبدو من المرجح أنها تنمو؛ "الصراع المجمد يناسب بوتين"، كما قال ديلاتري، السفير الفرنسي في ألمانيا. لا يمكن لأوكرانيا المحتلة
والمفككة جزئيا أن تتقدم نحو أوروبا. لذا فإن "من بين النتائج الثلاث المحتملة للحرب -
انتصار أوكراني أو انتصار روسي أو مأزق – والاثنان الأخيران لصالح بوتين".
بطبيعة الحال، فإن
روسيا القمعية المتزايدة الخاضعة لعقوبات شديدة وزعيم منبوذ في جميع أنحاء العالم
الغربي، وليس له طريق لإعادة البناء الاقتصادي، سيعاني أيضا من صراع طويل الأمد.
لكن ليس من السهل تمييز حدود القدرة الروسية على امتصاص الألم.
بالنسبة لألمانيا
وبولندا، العدوتين السابقتين، فالتناقض مذهل بين روايات ما بعد الحرب العالمية الثانية
بينهما. كانت بولندا مدركة تماما للتهديد الروسي. بينما اشترت ألمانيا غازا روسيا
رخيصا واستبعدت تهديد بوتين.
اجتاحت المشاعر
المعادية لألمانيا بولندا، التي ترى برلين مترددة للغاية في دعمها لأوكرانيا،
لدرجة أن تردد ألمانيا المفترض، على الأقل في نظر الحزب القومي الحاكم، جعل
منه موضوعا رئيسيا في الانتخابات البرلمانية البولندية هذا العام .
وقال باغر، السفير:
"الآن في ألمانيا، اكتشفنا أن أوكرانيا تخوض حربا عادلة، وتجري إعادة تفسير
دروس ما بعد عام 1945. إنها تنطوي على تغييرات في السياسة وفي الدفاع والطاقة،
ولكن على المستوى الأعمق، تغييرا في العقلية".
وكان على ألمانيا، وهي
أقوى دولة في أوروبا، إعادة تصور نفسها بين عشية وضحاها، والتخلي عن ثقافة السلام
من خلال تسليح نفسها وأوكرانيا باسم الحرب من أجل الحرية الأوروبية، وكان عليها أن
تزيل اعتمادها على روسيا للحصول على 55% من غازها. لقد اضطرت إلى التفكير في فصل
جزئي عن الصين.
السؤال المركزي
بالنسبة لأوروبا هو مدى فعالية التحول الألماني، هل تستطيع ألمانيا أخيرا أن تضاهي
قوتها الاقتصادية بالثقل العسكري، وكيف ستشعر بقية أوروبا في النهاية إزاء ذلك؟