قضايا وآراء

هل تبدأ الموجة الثانية للثورات العربية من سوريا؟

تاريخ الثورات يؤكد أن تحقيقها للتحول الثوري والاستقرار يتطلب وقتا ويواجه تحديات وتحصل أثناءه انتكاسات وتراجعات- الأناضول
على وقع الصراع المحتدم في فلسطين وفي خضم معركة طوفان الأقصى وما أحدثته من ارتدادات وانعكاسات وخلط للأوراق  إقليميا ودوليا . وبعد أن ساد اعتقاد أن تطلعات شعوب المنطقة للحرية والكرامة قد قبرت بعد أن تم  إخضاعها لعملية كي قاسية للوعي جعلتها تلعن الثورات والحريات والديمقراطية وتترحم على الاستبداد وصانعي الاستبداد وأعوانه وأبواقه وعرابيه وتعد المستبدين  أبطالا من هلك منهم تخلد اسمه وتتمنى يوما من أيامه ومن بقي حيا تتوجه بطلا قوميا يتم استقباله في المحافل  استقبال الفاتحين.

ولكن لسنن التاريخ والاجتماع البشري التي يجري الله على أساسها قضاءه وقدره قول آخر "فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب "صدق الله العظيم (سورة الحشر)..

ما من شك أن معركة طوفان الأقصى قد انطلقت بقرار فلسطيني مستقل غير مرتهن لأي طرف إقليمي أو دولي ودعمها من محور المقاومة الذي تقوده إيران لا يبرر لأي طرف من هذا المحور قمع شعبه والتسلط عليه ولا يبرر لأي طرف أيضا إعانته على ذلك.
ففي لمح البصر وبتسارع مذهل للأحداث لم يتجاوز النصف شهر يتغيرالمشهد ونعود إلى القصة من بدايتها، قصة الثورات العربية وانطلاقتها من تونس مطلع سنة 2011 وما تبعها من أحداث سقطت خلالها أنظمة وتهاوت أثناءها عروش وتماثيل ورموز وبدت المنطقة حينها وكأنها مقبلة على عصر جديد من التحرر والنهوض الحضاري تستحيل معه العودة إلى الوراء .

وما انتشر من مشاهد فرح السوريين يوم 8 ديسمبر 2024 بتحرير بلادهم من استبداد حزب البعث وسقوط نظامه بعد أكثر من خمسين عام قد أكد أن جذوة التغيير لم تنطفئ وأن الحرية والكرامة أساس الوجود البشري.

فقد عمت الفرحة الساحات وتم إعلان رسائل طمأنة لدول العالم ودول الجوار وتم التأكيد على وحدة أراضي سوريا ووحدة شعبها وعلى ضمان استمرارية الدولة ومؤسساتها. كما بدأ يتكشف حجم المأساة وكم الظلم والقهر الذي سلطه نظام الأسد الأب والإبن على الشعب السورى في السجون وفي مسالخ البحث والتحقيق وفي المدن والقرى والأرياف وفي المهاجر.

فما حقيقة ما حصل؟ وما هي انعكاساته على معركة طوفان الأقصى؟ وهل هي بداية موجة ثانية  للثورات العربية؟

بعيدا عن التضخيم والتقزيم والتمجيد والتشويه وعن التهويل والتهوين ودون استباق للأحداث يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

1 ـ الثابت أن الثورة السورية التي انطلقت من محافظة درعا كانت سلمية ديمقراطية مطالبة بالحرية  إلا أن انغلاق النظام ودمويته جعلته يغمض عينيه عما حصل حوله من تحولات سياسية وجيو سياسية دولية وإقليمية فبادر إلى قمعها بوحشية واضطرها إلى التسلح الذي سرعان ما جعل منها ساحة صراع مفتوح بين النظام والمعارضة، ثم إلى صراع دولي وإقليمي انخرطت فيه كليا أو جزئيام ما لا يقل عن خمسة من دول الجوار لحسابها أو بالوكالة واثنين من القوى الدولية بحكم الموقع الاستراتيجي لسوريا.

وقد كان لمخابرات تلك الدول وغيرها اليد الطولى فيما حصل في عشرية الدماء والدموع التي مرت على السوريين من فسح للمجال لكيانات الإرهاب والتدمير مثل داعش ودورها القذر في تشويه الإسلام والمسلمين لتتبخر فيما بعد بقدرة قادر والكيان الكردي الذي ضاق عليه الخناق في الجنوب التركي فتحول إلى سوريا وغيرها من الأحداث.

ثم استقرت حصيلة الصراع في السنوات الأخيرة على  تقاطع أهم الأجندات والمصالح الإقليمية والدولية المؤثرة في المنطقة في استمرار النظام السورى في السلطة على حساب سوريا التي تم تقطيع أوصالها إلى مناطق نفوذ للمليشيات على حساب الشعب السوري الذي تشرد منه قرابة الـ 12 مليون في جميع أنحاء العالم والتنكيل به بشكل غير مسبوق في التاريخ البشري، حيث سادت حالة من الجمود السياسي والميداني كانت في مجملها لصالح النظام الذي كان يسيطر على 60% من البلاد ولصالح حلفائه المقربين إيران وروسيا مع قبول بالأمر الواقع من بقية القوى تخللتها محاولات إعادة تأهيل له لفك الارتباط بإيران انتهت بالفشل .

2 ـ الأكيد أن الموجة الأولى للثورات العربية قد انكسر مدها على صخرة سوريا وبدأ الجزر من 2013 بعد أن لملمت القوى المحلية والإقليمية والدولية المضادة للثورة صفوفها وعكست الهجوم في أكثر من موقع.

وقد  تعالت كثير من الأصوات في تلك الفترة بأولوية المقاومة على الحرية في الحالة السورية باعتبارها من دول الطوق والمواجهة مع الكيان الصهيوني وعلى أساس دعمها لفصائل المقاومة الفلسطينية ولحزب الله في لبنان، حيث اعتبرت هذه الأطروحة أن الثورة من أجل الحرية والديمقراطية في تلك اللحظة ليست في صالح القضية الفلسطينية وأن تطلع الشعب السوري لتغيير ديمقراطي لن يتحقق لاعتبارات جيوسياسية استراتيجية في حين كانت حجج الأطروحة المقابلة تتمحور حول حق الشعب السوري ككل الشعوب في الحرية والكرامة والتغيير الديمقراطي الذي لا يتناقض مع دعم المقاومة بل إن تحرير الشعوب لا يتناقض جوهريا مع تحرير فلسطين إذ أن الأصل هو الجمع بينها بدل افتعال التناقض.

وقد كان الحد الأدنى الديمقراطي يمكن أن يكون حلا توفيقا لولا التعنت والهروب إلى الأمام ومزيد القمع والوحشية الذي مارسه النظام وحلفاؤه.

ثم  ساد اعتقاد بصوابية الأطروحة الأولى وقدرتها على التحليل والاستشراف إلا أن التطورات في سوريا هذه الأيام  بينت أن المبادى لا تتجزأ والقضايا المبدئية لا تتناقض وإرادة الشعوب من إرادة الله التي لا تقهر.

3 ـ ما من شك أن معركة طوفان الأقصى قد انطلقت بقرار فلسطيني مستقل غير مرتهن لأي طرف إقليمي أو دولي ودعمها من محور المقاومة الذي تقوده إيران لا يبرر لأي طرف من هذا المحور قمع شعبه والتسلط عليه ولا يبرر لأي طرف أيضا  إعانته على ذلك.

إن دروس التاريخ تؤكد أن الاستبداد لا يثمر تحريرا والظلم لا يحقق عدلا والعاقل من اتعظ بغيره وراجع نفسه وخاصة إيران في علاقة بموقفها من تطلعات شعوب المنطقة وتضحياتها من أجل  الحرية والكرامة حيث ساهمت مساهمة فعالة في وأدها أثناء الموجة الأولى للثورات العربية وفي علاقة أيضا  بدعمها لتحرير فلسطين بعيدا عن التوظيف الذي مارسته عدة أنظمة وقوى سياسية عربية لعقود لتصيبها في النهاية لعنة فلسطين.

إن ماحصل في سوريا لن يكون إلا في صالح القضية الفلسطينة مهما تكن آفاق تطوره لأنه يعتبر من أهم انعكاسات معركة طوفان الأقصى كما أنه ولأول مرة ستكون على حدود فلسطين دولة ديمقراطية وشعب حر  حتى وإن أدى تطور الأحداث إلى الفوضى وهو احتمال غير مرجح فإن ما حصل من الناحية الاستراتجية في صالح القضية الفلسطينية بدليل ما مارسه الكيان الصهيوني من اعتداءات في سوريا أخيرا.

4 ـ قد يكون من السابق لأوانه اعتبار ماحصل بداية لموجة ثورية جديدة تستأنف فيها شعوب المنطقة كفاحها من اجل  الحرية والكرامة والتحرر الوطني إلا أن العديد من المؤشرات تدل على  ذلك من بينها:

إن ماحصل في سوريا لن يكون إلا في صالح القضية الفلسطينة مهما تكن آفاق تطوره لأنه يعتبر من أهم انعكاسات معركة طوفان الأقصى كما أنه ولأول مرة ستكون على حدود فلسطين دولة ديمقراطية وشعب حر حتى وإن أدى تطور الأحداث إلى الفوضى وهو احتمال غير مرجح فإن ما حصل من الناحية الاستراتجية في صالح القضية الفلسطينية بدليل ما مارسه الكيان الصهيوني من اعتداءات في سوريا أخيرا.
ـ امكانية تحول سوريا إلى نموذج لثورة مكتملة الشروط بثوارها وقيادتها الثورية وبرنامجها الثوري عكس بعض ثورات الموجة الأولى من خلال ما ظهر من بوادر نضج واستيعاب لدروس التجارب الثورية العربية الأخرى في تعاملها مع الشعب بمختلف مكوناته ومع الدولة ومؤسساتها ومع بقايا المنظومة القديمة وأدوات تحكمها كالإعلام والنقابات والنخب غير الديمقراطية ومع الخارج .

ـ تاريخ الثورات يؤكد أن تحقيقها للتحول الثوري والاستقرار يتطلب وقتا ويواجه تحديات وتحصل أثناءه انتكاسات وتراجعات تنسفه أحيانا من الأساس ولكن يترك آثارا في وجدان الشعوب سرعان ما تتأجج من جديد بسبب ما يحدث من وعي تراكمي يجعلها أكثر نضجا وراديكالية وهو ما مرت به الكثير من الثورات الحديثة وحركات التحرر الوطني  مثل الثورة الفرنسية والثورة البلشيفية والثورة الجزائرية  والثورة الفلسطينية وثورات أمريكا الجنوبية وغيرها .

ـ  منسوب الوعي الذي بدأ يتطور لدى شعوب المنطقة بفعل صمود المقاومة الفلسطينية وتعريتها للنظام الدولي فكريا وسياسيا واخلاقياوللغرب عموما مع الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاعتداءات المتصاعدة على الحقوق والحريات  للانظمة القائمة وعجز بعضها عن دعم مقاومة الشعب الفلسطيني وتامر  بعضها الاخر عليه الى جانب حالة الفوضى والانهيار الكلي او النسبي للدولة في بعض البلدان.

وبكلمة فإن ماحصل في سوريا حدث مهم بل زلزال كبير يكفي أنه أنهي ديكتاتورية من أعتى الدكتاتوريات في قلب منطقة الشرق الأوسط وعلى حدود فلسطين مدار صراع الأمة العربية الإسلامية من أجل  التحرر والنهوض الحضاري. فبالتأكيد لن يمر دون ارتدادات في نفس الاتجاه ستتضح معالمها في المدى القريب والمتوسط.

*كاتب وناشط سياسي تونسي