بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في تجييش الحلفاء والأتباع لخوض حربها الجديدة/القديمة في منطقة الشرق العربي ضد عدو متغير اسما وشكلا ولكنه واحد من حيث الجوهر ، ولا تبدو المعركة يسيرة وسهلة ضد تنظيم "
داعش" وإنما ستكون ككل الصراعات التي خاضتها الولايات المتحدة في الصومال وأفغانستان وعراق ما بعد
صدام حسين حربا غير نظامية في منطقة يعاد تشكيلها حيث تتم استعادة النزعات العرقية والطائفية وتغذيتها.
ومثلما تفعل داعش من حيث سعيها الى تغيير الجغرافيا السياسية والخارطة العرقية والسياسية في المنطقة فإن الولايات المتحدة تهاجم عن قصد العلاقات الاجتماعية في منطقة المشرق العربي وتحاول إعادة صياغتها لكنها في أثناء العملية تساعد على إطلاق عمليات ذاتية التغذية من التفكك الطائفي والاجتماعي.
ولا أحد ينكر أن الولايات المتحدة تمتلك تفوقا عسكريا تقليديا هائلا،دفعت هذه المقدرة خصومها من الجماعات والمنظمات الموسومة بوصفها إرهابية الى محاربتها بطرق غير تقليدية تجمع بين التقنيات الحديثة وأساليب حرب العصابات وهو ما يفسر عجز القوات الأمريكية رغم ضخامة قوتها عن حسم حروبها المتعددة وإنهاء خصومها بشكل دائم سواء في أفغانستان حيث لازالت طالبان تشكل كابوسا فعليا لقوات التحالف الدولي المرابطة هناك أو للتنظيمات المقاتلة في العراق التي ظهرت اثر الإطاحة بنظام صدام حسين والتي يشكل تنظيم "داعش" امتدادا عقديا وعسكريا لها.
لقد حاولت العسكرية الأمريكية تحقيق انتصارها عبر إنشاء قوات متعاونة محلية وتدريبها (ممثلة في الصحوات) أو في الجيش العراقي ذاته الذي عجز عن أن يكون جيشا وطنيا بالفعل يوحد البلد وهو ما يفسر انهياره عند أول مواجهة فعلية مع تنظيم "داعش" وانسحابه من مناطق واسعة في وقت قياسي. ويعود هذا الفشل الواضح لإعادة الصياغة التي قام بها الغازي الأمريكي للعراق الى اعتماده على سياسة استخدام الأقليات العرقية (الأكراد) والجماعات الطائفية (الشيعة) في إطار منطق استعماري معروف "فرق تسد" وهو ما أطلق عليه عالم الانثروبولوجيا فيليب بورجوا "انتهازية التحرير العرقي" وهو نمط من المعالجة العسكرية والسياسية أفضت الى نقيض الغاية التي ترمي إليها حيث أدت الى تكريس المزيد من الفوضى والشحن الطائفي والاقتتال الداخلي عوضا عن الاستقرار المنشود.
لقد استهدفت الحرب الأمريكية ضد العراق في نسختها الثانية 2003 تحطيم البنى الاجتماعية التقليدية وضرب منظومة التعايش وتوظيف المنطق الطائفي والعرقي من اجل إعادة صياغة العلاقات الاجتماعية ولكنها في غالب الوقت كانت تنجز عملية الهدم من دون أن تعيد البناء مسببة انهيار منظومة القيم الاجتماعية وممزقة روابط التكافل والتحكم الاجتماعي الطوعي وهو ما أفضى الى انتشار الفوضى وانعدام الانسجام الاجتماعي وضرب الوحدة الوطنية في أساسها ونعني به منطق التعايش السلمي الذي ترسخ لقرون طويلة.واليوم تحاول الولايات المتحدة تعبئة الجهود من اجل شن حرب على خصم هو نتاج الظرف التاريخي الذي أسهم الغزو الأمريكي في خلقه بل وقام بضخ الدماء المتجددة فيه عبر سياسات حمقاء تجلت في دعم جهات على حساب أخرى، وهي في معركتها اليوم حتى وإن تمكنت من ضرب البنية العسكرية لداعش واستطاعت تدمير معظمها وتشتيت مكوناتها فإنها لن تستطيع منع ظهور نموذج مماثل يستمد عنفوانه من مظلومية يشعر بها قطاعات واسعة من شعوب المنطقة .
إن الحرب ضد داعش وان بدت قتالا ضد قوى مدفوعة إيديولوجيا وجماعات أصولية تتبنى فلسفات أخلاقية ساذجة بدلا من تصور حقيقي لمعنى الدولة أو نظام الحكم المنشود إلا أنها تخفي في جوهرها نزوعا جوهريا للتمرد لدى فئات شعبية واسعة مَثَلَ الغزو الأمريكي وما تبعه من تدمير منهجي لبناها الاجتماعية تحطيما لآمالها في التطور الاجتماعي والسياسي، ولهذا فإن المعركة اليوم ضد تنظيم داعش اعقد من أن يتم اختصارها في حرب ضد جماعة إرهابية تهدد السلم العالمي كما تروج لذلك البروباغندا الأمريكية وكل من شايعها وإنما هي تعبير فعلي عن أنماط من المقاومات المحلية التي تتشكل بصورة مستمرة حول مبادئ عامة وهويات ضيقة تنازع من اجل البقاء والاستمرارية في عالم يقوم على نمط من الإقصاء والإلغاء.
خلاصة القول بإمكان الحرب الأمريكية ضد داعش أن تبدأ ولكن لا يمكن أن تنتهي كما لم تنتهي حروب أخرى كثيرة من قبلها وكما قال تشرشل يوما "على السياسي الذي يستسلم لحمى الحرب أن يدرك انه ما أن تعطى الإشارة للحرب فإنه لن يكون المسيطر على السياسة لكنه سيكون عبد الحوادث غير المتنبأ بها وغير الخاضعة للسيطرة" لأن القوة الصلبة قد تحسم الهيمنة على الأرض ولكنها لن تخلق واقعا سياسيا ملائما وقادرا على الاستمرار.
فقرار الحرب وإن كان امتدادا للسياسة غير انه لن يصلح ما أفسدته خيارات كبرى اعتمدتها الولايات المتحدة منذ لحظة اتخاذ القرار بغزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين أما الدول المجاورة ومهما حاولت الاحتماء بالظل الأمريكي فإن الحريق الطائفي ورقعة الفوضى ستلتهم أجزاء منها في ظل أنظمة عاجزة عن تصريف أزماتها ديمقراطيا ولازالت تعامل شعوبها بوصفها رعايا تعيش على الهبات والأعطيات من أهل الحكم دون تقدير لخطورة ما يعتمل في المجتمع ،فلن تستطيع دول تحكمها أنظمة عسكرية أو مدنية مغلقة أن تجد لها سبيلا للوقاية من الفوضى القادمة إلا عبر بسط الحريات وإطلاق المجال أمام نشوء أنظمة ديمقراطية تعددية تتمكن من خلال قواها الحية من حماية ذاتها من كل أشكال العنف أو الغلو السياسي والعقدي .