كتاب عربي 21

تاريخ التنظيمات العمالية في مصر (2)

1300x600
1300x600
انتقلت أوروبا من النظام الإقطاعي إلى الرأسمالي مع بدايات الثورة الصناعية التي كانت بحاجة إلى العمالة الكثيفة والرخيصة؛ وانهيار النظام الاقطاعي (أو هكذا يقولون لنا) أدى إلى زيادة كبيرة في البشر المعدمين ما وفر فرصا جديدة للعمل في الحقل الصناعي وتحول الإقطاعي إلى رأس مالي وتحول القن إلى عامل وتحولت الأرض إلى الماكينات.

عانى العمال كما عانى العالم كله من النهم الشرس لدى الرأسماليين في جمع المال؛ فكما كانوا يقتلون عشرات الملايين عبر العالم للحصول على الثروة أو الأيدي العاملة الرخيصة المطلوبة؛ كان العمال يعاملون في الغرب كالعبيد بلا أي حقوق؛ وأدي ذلك إلى نشوء فكرة التجمعات العمالية وتعددت أسماؤها من جمعيات وتعاونيات؛ وكانت بداية التجمعات العمالية في إنجلترا وانتشرت في كافة أوروبا وأمريكا.

ما يهمنا في هذا السياق هو أن نشأة النقابات العمالية جاءت نتيجة تطور تاريخي واجتماعي داخل المجتمعات الغربية ليحقق نوعا من التوازن بين رأس المال والعامل، خاصة مع الارتباط بين السلطة والثروة في تلك الفترة داخل أوروبا؛ وكان العمال لا يحصلون على أجور كافية ولا عدد محدد لساعات العمل ولا تأمين صحي أو اجتماعي. وكان العامل لا يختلف كثيرا عن الآله التي تعمل ولا تراعى أي حقوق له ولا إنه أحد المشاركين الأساسيين في إنتاج فائض القيمة. استطاعت هذه الحركات المناضلة الحصول على حقوق للعمال بل وتطور الأمر إلى التحول في عالم السياسة؛ واستطاعت قوى عمالية الوصول إلى الثورة الكاملة وكانت أحد أهم ركائزها كما حدث في بولندا وروسيا على سبيل المثال.

والحال في مصر يختلف اجتماعيا وسياسيا عن نمط هذا التطور الغربي لعدة عوامل؛ فلم تبدأ الصناعة المصرية نتيجة لتراكم رأس المال الربوي والتجاري والاستعماري كما في أوروبا، بل نشأ نتيجة رغبة الحاكم في عمل إمبراطورية له يكون مركزها مصر؛ وبالنظر إلى عدد السكان المنخفض (حوالي 3 ملايين نسمة في بداية القرن التاسع عشر) وإلى غياب تراكم رأس المال نجد أن ذلك أدى إلى إنشاء صناعة احتكارية لصالح الدولة لم تستمر طويلا في تقدمها. وقد كان نمط المجتمع ككل غير مشابه للمجتمع الغربي حيث نشأت الثورة الصناعية ونتج عنها ظهور النقابات العمالية بنمطها الغربي؛ وبالتالي فإنها لم تنشأ نقابات عمالية في مصر حتى نهاية القرن التاسع عشر وبدأت في الظهور بعد قليل من الاحتلال البريطاني لمصر على يد العمال الأجانب؛ وكان عدد سكان مصر في بداية الاحتلال الإنجليزي عام 1883 حوالي 6 ملايين نسمة. وكانت الصناعة المصرية في نهاية القرن التاسع عشر محتكرة بنسبة كبيرة للأجانب أو المتمصرين والعائلات اليهودية التي بدأت سيطرتها على المال والصناعة في مصر في بدايات عصر إسماعيل، ورسخت أقدامها في تلك الفترة. 

ولحدوث تشوه كبير في الاقتصاد المصري نتيجة استخدام الاحتلال للأراضي المصرية بزراعة مكثفة  للقطن حيث وصلت نسبة القطن من الصادرات المصرية إلى حوالي 93%، فقد زادت أسعار الغذاء وارتفعت تكلفة المعيشة وانهارت فكرة الوفرة الموجودة بالمجتمع المصري، وازداد استقطاب الثروة الرأسمالية وانعكست هذه الأحوال على العمال.

وبالرجوع إلى إنشاء أول تجمع عمالي في مصر كان في عام 1899 ولم يكن مصري القيادة؛ فقد كان العمال اليونانيون هم رأس الحربة في الإضراب لتخفيض ساعات العمل ورفع الأجور. وأدى الإضراب إلى تكوين أول تجمع عمالي في عام 1900 باسم جمعية لفافي السجائر؛ وقد تم حل الجمعية ولكن عاد الإضراب مرة أخرى في عام 1903 من العمال اليونانيين ولكن لم ينضم إليهم المصريون هذه المرة، وربما كان السبب هو عدم وجود مجتمع صناعي طويل الأمد مشابه لأوروبا، واقتراب عهد السخرة والقهر من محمد علي للمصريين جعل العمال الأجانب هم الأقرب لعمل تكتلات عمالية. وتكفي الجملة الشهيرة للمصريين ضد بطش السلطة عندما كانت تأخذ أولادهم قصرا للعمل: "بلدي يا بلدي.. والسلطة خدت ولدي".

عاد المناضل محمد فريد وطرح قبل الحرب العالمية الأولى إنشاء نقابة تضم كل عمال مصر لإدراكه دور العمال في حركة التحرر الوطني؛ وظهر التراكم في الحراك العمالي المصري؛ ومع استمرار تسلط رأس المال زاد نشاط الحركات العمالية في مصر، وفي أحد أقوى مشاهد الحراك العمالي في أكتوبر 1908 حققت عدة إضرابات بالتتابع اضطرابا شديدا للاحتلال والطبقة الحاكمة لارتباط تلك الحركات العمالية بحركات التحرر الوطني. واستطاع العمال بعد نضال عنيف وطويل الحصول على قدر من حقوقهم. ولم يكتف المحتل والسلطة التابعة في مصر باستعباد العمال في الصناعة فقط، بل جاء في كتاب الدكتورة لطيفة سالم أستاذة التاريخ «مصر والحرب العالمية الأولى» أنه «لم يتوان القائد العام للجيوش البريطانية عن الإلحاح للحصول على العدد اللازم من العمال»، وتقدر الدكتورة لطيفة عدد المصريين الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى بأوامر من بريطانيا - سواء كانوا من الجنود أم من فيلق العمال وفيلق الجمال - بحوالي مليون ومائتي مصري.

كانت ثورة 1919 بمصر من المؤشرات الكبيرة على الدور المحوري للعمال في الحالة الثورية لأي مجتمع وكان لهم دور بارز في أحداث الثورة؛ حدث هذا بالتوازي مع زيادة نسبة العمال داخل المجتمع المصري؛ فقد كانت نسبة الاستثمار الصناعي تقترب من 14% من إجمالي رؤوس الأموال في مصر؛ واقترب شكل المجتمع المصري من الوضع الأوروبي الذي أفضى إلى ظهور الحركات العمالية القوية من رؤوس أموال كبيرة وزيادة الحياة بالمدن ونشاط المعاملات البنكية الربوية. وكان عمال السكك الحديد والترام على رأس الاحتجاجات. وقد شهد هذا العام اشتباكات دموية بين العمال وأجهزة الأمن وانتشرت الإضرابات والاعتصامات في كل الجمهورية ما دعا حزب "الوفد" إلى إصدار بيان بالدعوة إلى وقف "العنف" – يبدو أنها عادة قديمة.

بدأت الحركة العمالية في إنشاء نقابات للعمال ووصل عددها إلى ما يقرب من 30 نقابة في نهاية 1919 ووصل العدد إلى حوالي 100 نقابة في عام 1921. وكانت النقابات الأقوى هي نقابات العمال الخدمية، النقل والكهرباء والماء.

صدر نتيجة للضغط العمالي قانون هزيل للعمل يتضمن بنودا خاصة بتصاريح العمل وقيود عمالة الأطفال والنساء؛ كما أنه صدر أول قانون خاص بالنقابات العمالية في مصر عام 1921، لا بغرض تنظيم عملها ولكن بغرض تجريم الاشتراك بها. لم يؤثر هذا على العمل النقابي في مصر بشكل كبير، ولكن استمرت السلطة في محاولاتها للسيطرة على القطاع العمالي الصاعد، فقامت بإصدار قانون تجريم الإضرابات في 1922، وقامت بإنشاء مكتب العمل "التابع للجهات الأمنية" في عام 1930 لزيادة حصار الطبقة العاملة.

وكعادة السلطة المستبدة والطبقات الحاكمة، فقد قامت بإنشاء الاتحاد العام لنقابات العمال (نسخة تاريخية لاتحاد عمال مصر)، وذلك للسيطرة على الحراك العمالي. أدت تلك الإجراءات إلى تراجع الحراك العمالي في أواخر العشرينيات، إلا أن كفاح عمال مصر بتنظيم أعداد هائلة من الإضرابات واحتلال الشركات والمصانع في الثلاثينيات أدى إلى انتزاع حق الإضراب وتشكيل النقابات في بداية الأربعينيات عن طريق صدور بعض الأحكام القضائية في صالح العمال.

وبعد الحرب العالمية الثانية انتقل مركز الحركات العمالية من القطاعات الخدمية إلى قطاع النسيج الذي دخل في مواجهات عنيفة مع السلطة الحاكمة وعدد ضخم من الإضرابات والاعتصامات اعتراضا على استبداد رأس المال بالتواطؤ مع السلطة. وكانت قمة المواجهة في المحلة الكبري عام 1946 في واحدة من أقوى المواجهات نتيجة سيطرة إدارة الشركة على النقابة العمالية بالمصنع واستمرار عدم تحقيق أي من مطالب العمال وعزم الشركة على فصل آلاف العمال. وقد احتل العمال في تلك الإضرابات أجزاء من الشركة وقامت الإدارة باستدعاء "الجيش"و الشرطة للسيطرة على الموقف وحدثت اعتقالات ومواجهات وعاد الإضراب وعاد القمع. وفي إحدى المواجهات في سبتمبر عام 1947 تم قتل أربعة عمال وإصابة المئات؛ ومع ذلك لم يتوقف الإضراب ولا المقاومة من العمال، وانتشرت الإضرابات والاعتصامات في كافة الجمهورية وأجبر العمال القوى السياسية على إصدار بيانات لتأييد موقفهم. ولا جدال في أن الحركات اليسارية كانت صاحبة اليد العليا في إدارة وتثوير قطاع العمال في تلك الفترة.

نقطة هامة سيتم مناقشتها بشكل أعمق لاحقا، ولكن الإشارة ضرورية لها في هذا السياق، ألا وهي طبيعة تعامل التيارات الإسلامية مع قضايا العمال. فقد قامت جماعة الإخوان المسلمين بإصدار بيان في سياق أحداث المحلة يحمل صيغة ليست حاسمة في التعبير عن توجهها، وهذا نتيجة أسر مفهوم الدولة داخل التركيبة الفكرية للتيارات الإسلامية. إن النموذج الفكري الإسلامي غير متوافق تماما مع نظام وبنية الدولة الحديثة بكل أيديولوجياتها، وعندما يحاول التعامل بمفاهيم الدولة الحديثة يقع في إشكالية السيولة الفكرية، حيث إن محدداته الفكرية تقع تماما خارج إطار نموذج الدولة الحديثة.

ارتفعت وتيرة النضال العمالي في عام 1948 وعمت الإضرابات قطاعات واسعة، بدأت في إنتاج حالة قلق داخل النظام الحاكم، ما دفعه لاستغلال الحالة السياسية لزيادة القمع ضد القوى المعارضة، خاصة الإسلاميين واليسار لأسباب مختلفة.

استمر نضال الحركة العمالية وكانت تتقدم باستمرار في سبيل تحقيق طموحاتها المهنية والسياسية، خلال فترة ما قبل حركة الضباط في يوليو 1952، وسط أجواء مشحونة كانت تنبئ كلها بتغيير جذري.

ويتضح من السرد السريع السابق أن العمال والطلبة هم دائما كلمة السر لبث الفزع في أي نظام ديكتاتوري.

قامت حركة الضباط في يوليو 1952، وهذه حلقة هامة في تاريخ الحركة العمالية المصرية نستعرضها في المقال القادم بإذن الله.
التعليقات (0)